معضلة الرئاسة والدستور المصريين
تعيش مصر اليوم أحداثاً جساماً، وأجواء مشحونة بالتوتر والتحفز وهي تستقبل أهم استحقاقين سياسيين في استكمال بناها النظامية، وهما انتخابات الرئاسة، وتكوين لجنة صياغة الدستور، وكلاهما أوجد أزمة متوقعة لا يدري المصريون إلى أين ستقودهم.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
تعيش مصر اليوم أحداثاً جساماً، وأجواء مشحونة بالتوتر والتحفز وهي تستقبل أهم استحقاقين سياسيين في استكمال بناها النظامية، وهما انتخابات الرئاسة، وتكوين لجنة صياغة الدستور، وكلاهما أوجد أزمة متوقعة لا يدري المصريون إلى أين ستقودهم.
ولقد كان منتظراً أن يتحول الصراع المكتوم بين مختلف القوى السياسية بما فيها المجلس العسكري الحاكم الفعلي للبلاد في تلك الفترة الانتقالية، إلى منازلة علنية، وإلى عملية كسر عظام متقابلة، عبر ممارسة أقصى درجات الضغط من كل الأطراف، بغية فرض إرادتها على السلطة القادمة؛ فما سبق ذلك من إرهاصات كان ينذر بانتهاء شهور من التعايش بين كل الأطراف المؤثرة.
فالمجلس العسكري ـ وفقاً لأحد كبار قيادي حزب الحرية والعدالة (الإخوان) د.محمد البلتاجي ـ يتوق إلى أكثر من "خروج آمن" من السلطة يمنح لأعضائه حصانة من المساءلة المستقبلية، بل يتطلع ـ فيما يبدو ـ إلى لعب دور محوري في السياسة الخارجية للبلاد، وبناء الاستراتيجية المصرية برمتها، والاحتفاظ بالحقائب السيادية، وهو يرفض حتى الآن إقالة حكومة د.الجنزوري، المحسوب على ما يُسمى بـ"الدولة العميقة" لمصر، والتي يعدها كثير من الثوار امتداداً لنظام الرئيس المخلوع مبارك، ورشحت أنباء عن رئيس مجلس الشعب د.سعد الكتاتني قد تلقى تهديداً حقيقياً بحل مجلس الشعب إن لم يتوقف حزب الإخوان عن مساعيه لسحب الثقة من حكومة الجنزوري.
والإخوان، ـ ومعهم حزب النور (السلفي) ـ وجدوا أنفسهم محشورين في زاوية النقد المجتمعي بسبب إخفاقهم على إحداث أي تغيير حقيقي في سلوك الحكومة المصرية التي لم تبد متعاونة معهم، واستقر لديهم أن بقاء حكومة الجنزوري في ظل إقصاء واضح لهم في كل دواليب الحكم، ودواليبه التنفيذية، يعني تآكل شعبيتهم وفشلهم في تحقيق أي من أهدافهم أو حتى أهداف الثورة المصرية، حيث يجعلهم التجاهل الحكومي خارجين عن نطاق التأثير، ويؤدي بهم إلى إدارة جلسات نقاش و"دردشة" في المجلس التشريعي والشوري للبلاد.
والقوى السياسية الأخرى (ليبرالية ويسارية وقومية وغيرها)، تستشعر إقصاء لها عن مراكز التأثير المستقبلية برغم ما تتمتع به حضور إعلامي ونفوذ قوي في المناصب غير المنتخبة، وهي قد ألفت أن تتجاوز تأثيراً حدود قاعدتها الشعبية الهزيلة، ورأت من ثم في اختيار اللجنة التأسيسية للدستور التي غلب على تكوينها "الإسلاميون" فرصة لها للاحتجاج على اللجنة والدستور والمجلسين المنتخبين ذاتهما، بلغت حد المطالبة بحل ذلك كله لدى فريق من متطرفي اليسار وبعض المنتسبين للثورة، وصعدت أصوات من تلك القلة تدعو إلى الانقلاب العسكري صراحة (كحالة د.ممدوح حمزة والكاتب جمال الغيطاني وغيرهما).
والواقع أن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية قد أوجد بحد ذاته معضلة عصية على الحل لدى التيار الإسلامي، وضعه في مأزق صعب؛ فاستئثار التيار بالسلطة الرئاسية والحكومية والتشريعية شبه مستحيل، في نظر بعض المحللين وحتى بعض قادة التيار الإسلامي، لكن قواعد تلك التيار تندفع حماسة في تأييد مرشحين لا يشعر معهم المجلس العسكري ولا القوى السياسية الأخرى بالدفء؛ فما يتردد صداه بقوة في القاهرة هذه الأيام، أن حظوظ المرشح "الإسلامي" حازم أبو اسماعيل في التواؤم مع النظام الحاكم الآن لا تبدو كبيرة، لكنه في مقابل ذلك يحظى بقبول "إسلامي" واسع لاسيما لدى شباب التيار السلفي وقلة من شباب الإخوان، كما أنه يدير حملة دعائية تبدو موفقة إلى حد بعيد، وتنامي شعبيته لا تخطئه عين مراقب، لاسيما بعدما نجح في تجاوز الشرط المطلوب للترشح (توكيلات من 30 ألف مواطن) بمراحل؛ حيث قدم أوراقه مشفوعة بمائة ألف توكيل، علاوة على زمرة من شيوخ التيار السلفي غير التابعين لقوى تنظيمية محددة. ولا يبدي "الإخوان" ولا قيادات الدعوة السلفية حماسة تذكر لهذا المرشح، لاعتبارات تتعلق بعلاقاته المتوترة بالمجلس العسكري، وعلاقاته الدولية المنتظرة، على حد ما يتسرب في وسائل الإعلام. وفي المقابل؛ فإن د.عبدالمنعم أبو الفتوح القيادي السابق بمكتب الإرشاد الإخواني، والذي تم فصله من الإخوان، لا يتمتع بأي قبول من قيادة الجماعة لمخالفته قرارها بعدم الترشح، غير أن كثيرين من القيادات الوسطى والكوادر الإخوانية تؤيده، ويتمتع بحضور طاغ لدى قطاعات من شباب الإخوان، في حين لا تبدو الدعوة السلفية متحمسة كثيراً لترشيحه حتى الآن، غير أنها تترك الباب مشرعاً وفقاً لمبادرة شاملة تضم كل الفصائل الإسلامية أطلقها الشيخ السلفي البارز د.محمد إسماعيل، قد تختار أيا من الأسماء المرشحة أو توصي بغيرها، ويبقى من المرشحين الإسلاميين البارزين، د.محمد سليم العوا، الذي يتحفظ عليه السلفيون نسبياً لعلاقته بإيران، غير أنه ـ برغم شعبيته الأقل من السابقين ـ يتمتع بعلاقة طيبة بالمجلس العسكري، ولا يبدي الإخوان ممانعة له مناظرة لسابقيه.
بيد أن المعضلة في كل هذا، أن "الإسلاميين" من الحزبين الكبيرين لا يمكنهم أن يختاروا اقتسام السلطة مع مرشح آخر تقبله الأطراف الأخرى من العسكريين وسواهم من القوى السياسية، لأن المرشحين "الإسلاميين" للرئاسة بالفعل لا يأتمرون بأوامر قادة الإسلاميين، ولا يبدون أنهم سيتنازلون لصالح مرشح لا يحمل مشروعاً إسلامياً، بل ربما لن يتنازل بعضهم لبعض بحسب ما بدا حتى الآن، ويدرك قادة "الإسلاميين" أن قواعدهم الشبابية ستفارقهم لحظياً عند الصندوق، وقد تجلب إسلامياً يستفز القوى النافذة في الداخل والخارج. وإذا اندفعوا في تأييد مرشح "إسلامي"؛ فقد يواجهون ممانعة عنيدة من تلك القوى، وهذا الخيار أيضاً متعذر لأنه عند عرض الأسماء السابقة على القوى الإسلامية؛ فإن من يقبله هذا لا يرضاه ذاك.
وقد بدا من كل هذا، أن الأمور آخذة في التدهور بعض الشيء، لاسيما عندما أصدرت جماعة الإخوان وحزبها بيانين شديداً اللهجة ضد ممارسات الحكومة والمجلس العسكري، رد الأخير عليهما بعنف، ما أظهر أننا إزاء نقطة صراع حادة أو تصعيداً مضبوطاً من الطرفين بغية الجلوس على مائدة التفاوض للالتقاء على نوع من تقاسم النفوذ.. وكلا الاحتمالين وارد..
3/5/1433 هـ