منارات مهمّة في التغييّر السياسي خصوصا بعد عموم لإخواننا الإسلاميين في ليبيـا

حامد بن عبد الله العلي

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -


لا ريب أنّ مشهد اعتلاء رموز إسلامية تعيش بفكرها، ووجدانها، وحياتها، رسالةَ وهموم المشروع الإسلامي لنهضة الأمـة، اعتلائها على عرش السلطة في بلادنـا، هو أكبـر حدث يمـرُّ على المشروع الإسلامي منذ انطلاقه بُعيـد سقوط الخلافة.

وقد كان هذا المشروع قبل هذا الحدث العظيم، منشغـلاً وأتباعُه داخل المشروع بالتوجيه والتربية، وبالفكر والتنظيـر، وخارج محاضنه بأبعاد يغلـب عليها الطابع الاجتماعـي -غير القتال بالثغـور- وإن تعامـل مع السياسة فغالبا كان في صـفّ المعارضة.

ولهذا لا يُستغرب أن يفتقر كثيرٌ من أنصار هذا المشروع في قاعدته العريضة، بل القاعدة الأوسـع انتشارا من بين كل الأحزاب السياسية الأخـرى، للفهم الصحيح، ثم للتعاطي السياسي السليم، مع قيادة مشروعهم، وهي فـي موضع الحكم، والمسؤولية السياسية.

ولهذا فإنّ التنبيه على بعض المنارات من أوّل الطريق في غاية الأهمية، ومنها:

أنّ المعارك السياسية تختلف أسلحتها عن غيرها، فـي ميدان يحتاج خائضُه إلى ثلاثة:

1. مهارة عالية بالمناورة حتى يصل المشروع إلى هدفه، وربما تقتضي هذه المناورات، تأجيل المواجهة مع أطراف، وتطمين أطراف داخلة في معادلة التعاطي السياسي، أو الصراع، أو ذات علاقه به، بما يحيّدها، والتحالف مع أطراف عدوَّة للمشروع، لضرورة تقتضيها مرحلة، أو لدرء خطر طرف آخرّ أشدّ عداوة.

ولهذا فإنّ لغة عالم السياسة تختلف عن لغة التخاطب العاديّة، ولا يفهمها من لا خبرة له فيها، وكثيـراً ما تُوجّه فيه رسالة مقصودٌ بها غير ظاهرها المتبادر إلى ذهن السامـع، لأنها موجّهـة لغير من عنوانه عليها!

2. وتروّ بحلم في التمرحل الهادئ، من مرحلة إلى مرحلة حتى الوصول إلى الغايات المنشـودة، وربما يضطرّ السياسي في هذا المضمار أن يدع كثيرا من التغيير في بعض المراحل، لأنّ تغييرها في مراحل لاحقة يكون أنجح، وأبقـى.

3. وإلى الترجيح دائما بين المصالح، والمفاسد المتعارضة، والمتزاحمة، فيوازن بينها، ويقدم الأرجح من جلب المصلحة مع تحمل المفسدة الملازمة لها، أو درء المفسدة مع تحمّل فوات المصلحة الملازمة لها.

كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا سيما في هذه الأزمنة المتأخرة التي غلب فيها خلط الأعمال الصالحة بالسيئة في جميع الأصناف، لنرجّح عند التزاحم، والتمانع خير الخيرين، وندفع عند الاجتماع شـر الشرِّين، ونقدم عند التلازم -تلازم الحسنات والسيئات- ما ترجح منها، فإنّ غالب رؤوس المتأخرين، وغالب الأمّة من الملوك، والأمراء، والمتكلمين، والعلماء، والعباد، وأهل الأموال يقع غالبا فيهم ذلك" (الاستقامة: 2/168).

وقال أيضا رحمه الله: "وقد يتعذّر، أو يتعسّر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة إلاّ بنوع من المحدث، لعدم القائم بالطريقة المشروعة علما، وعملا، فإذا لم يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد إلاّ النور الذي ليس بصاف، وإلاّ بقي الإنسان في ظلمة، فلا ينبغي عيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة، إلاّ إذا حصل نورٌ لا ظلمة فيه، وإلاّ فكم ممن عدل عن ذلك، يخرج عن النور بالكليّة" (مجموع الفتاوى: 10/364).

وقال في موضع آخر: "إذا كان لا يتأتّى فعل الحسنة الراجحة إلاّ بسيئة دونها في العقاب، ولم يمكن إلاّ ذلك، فهنا لا تبقى سيئة؛ فإن ما لا يتم الواجب أو المستحب إلاّ به فهو واجب أو مستحب، ثم إن كان مفسدته دون تلك المصلحة لم يكن محظوراً" (مجموع الفتاوى: 28/ 35).

ولأنّ هذه الثلاث يحتاجها غير الإسلامي والإسلامي على حد سواء، إذ هذه طبيعة هذا المضمار، وتلك هي سنن التعاطي معـه، تجد بعض الجهّال عندما يرى الإسلاميّ يتّبعها ليبلغ بها أهدافا نبيلة، تحقّق مصالح الدين والدنيا، يظـنُّ أنه يتشبّه بمن لا يصح أن يُتشبَّـه بهم من الظلمة وأعوانهم، وليس الأمر كذلك.

وليت شعري كم هم أتباع المشروع الإسلامي بحاجة اليوم، وهم يرون مشروعهـم ينتقل من موقع المعارضة إلى موقع الحكم، والمسؤولية، في زمن تعاظمت فيه الشرور، وتداعت علينا فيه الأمم، وطال تيه الأمّة عن رسالتها منذ قرن من الزمـان، حتى نسيت عامة معالم حضارتنا المشرقة بالخير- كم هم بحاجة اليوم لحكمة عمر بن عبد العزيز رحمه الله عندما تولـّي على أرضية فساد عريض نشره من قبله في البلاد والعباد.

فقد أورد الإمام الذهبي عن ميمون بن مهـران قال: "سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: لو أقمت فيكم خمسين عاما ما استكملت فيكم العدل، إني لأريد الأمر من أمر العامة، فأخاف ألا تحمله قلوبهم، فأخرج معه طمعا من طمع الدنيا، فإن أنكرت قلوبهم هذا، سكنت إلى هذا" (تاريخ الذهبي: 4/170).

وفي (البداية والنهاية): "وإني لأريد الأمر، فما أنفذه إلا مع طمع من الدنيا، حتى تسكن قلوبهم" (9/200).
وورد عنه أنه قال: "ما طاوعني الناس على ما أردت من الحقّ، حتى بسطت لهم من الدنيا شيئاً" (حليـة الأولياء: 5/290).

وقال لابنه أيضا: "إنّ قومك قد شـدّوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى أريد مكابرتهم على انتزاعما في أيديهم، لم آمن أن يفتقوا عَليّ فتقاً تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون علي، من أن يراق في سببي محجمة من دم، أو ما ترضي أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلاّ وهو يميت فيه بدعة، ويحيي فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا، وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين" (حلية الأولياء: 5/282)، و(صفة الصفوة لابن الجوزي: 2/128).

هذا وإنّ المعوقين للمشروع السياسي الإسلامي من داخله أربعة: الجاهلون بحقيقته، والخائفون المتردّدون، وأهل الشحّ والحسد، والمستعجلون بحماس في غير أوانه، وباندفاع قبل حينه.

وقد وجدت كلاما للشهيد الملهم سيد قطب يصف فيه هذا النوع الأخير من المخلصين المتحمّسيـن، يصفهم بدقة، ويوجّه لهم توجيها بالغ الحكمة، وذلك عند آية: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83].

قال رحمه الله: "إنّ أشد الناس حماسة واندفاعاً وتهوراً، قد يكونون هم أشد الناس جزعاً، وانهياراً، وهزيمة عندما يجدّ الجدّ، وتقع الواقعة‏، بل إنّ هذه قد تكون القاعدة‏!‏

ذلك أنّ الاندفاع والتهوُّر، والحماسة الفائقة غالباً ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف‏، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار‏، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال‏، قلة احتمال الضيق، والأذى، والهزيمة؛ فتدفعهم قلة الاحتمال، إلى طلب الحركة، والدفع، والانتصار بأيّ شكل‏، دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار‏.‏‏

حتى إذا وجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدّروا، وأشقّ مما تصوروا‏، فكانوا أوّل الصفّ جزعاً، ونكولاً، وانهياراً‏.‏‏

على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق، والأذى بعض الوقت؛ ويعدُّون للأمر عدته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف‏، فيصبرون، ويتمهّلون، ويعدّون للأمر عدته‏.‏‏

والمتهوّرون، المندفعون، المستحمّسون، يحسبونهم إذ ذاك ضعافاً، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور‏!‏ وفي المعركة يتبيّن أيّ الفريقين أكثر احتمالاً؛ وأيّ الفريقين أبعد نظراً كذلك‏!‏".

والله أعلم وهو سبحانه حسبنا عليه توكلنا وعليه فليتوكل المتوكلـون.