صور مشرقة من الثورة السورية... (2) أبو العز الحمصي

هذه الشاحنة الصغيرة كان قد اشتراها بكد اليمين وعرق الجبين، منذ سنوات عدة، لتكون عونًا له على إعالة أسرته، هكذا كانت حياة (أبو العز) قبل انطلاق الثورة السورية، ولكن حياته سرعان ما تغيرت عندما كان عائدًا من العمل، فقد أوقفه بعض المتظاهرين، وطلبوا منه أن يحمل اثنين من رفاقهم الجرحى...

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

ما سجد لله سجدةً قط، ولم يكن يكتفي بذلك، بل كان يجاهر بالمعاصي، إذ لا يمر يوم إلا ويحتسي فيه الخمرة (أم الخبائث) وما خفي كان أعظم، لكن النزعة الإنسانية كانت لاتفارقه، فعلاقاته مع أهله وجيرانه وأصدقائه وأهل حيه (باب السباع) طيبة، فها هو ذا يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، وكثيرًا ما كان يحمل من يراه في الطريق من العجزة والفقراء منهم بشاحنته الصغيرة من نوع (سوزوكي) يحملهم إلى حيث يريدون دون أجرة.


وهذه الشاحنة الصغيرة كان قد اشتراها بكد اليمين وعرق الجبين، منذ سنوات عدة، لتكون عونًا له على إعالة أسرته، هكذا كانت حياة (أبو العز) قبل انطلاق الثورة السورية، ولكن حياته سرعان ما تغيرت عندما كان عائدًا من العمل، فقد أوقفه بعض المتظاهرين، وطلبوا منه أن يحمل اثنين من رفاقهم الجرحى إلى أحد المشافي الميدانية، فقام على الفور بالمساعدة، وانطلق بهما مسرعًا، لكن الآجل المحتوم كان قد وافاهما قبل الوصول.


تأثر بما رآه، أخذت دموعه تتساقط، أخذ يتساءل: "شابان في عمر الزهور لا ذنب لهما سوى التظاهر يطلق عليهما الرصاص". قال في نفسه: "ما هذه الوحشية؟" تذكر الموت الذي لم يكن يحسب له حسابًا، عندما رجع بهما سمع عويل الأمهات والأخوات، ورأى بأم عينيه دموع الآباء والإخوة والأصدقاء والجيران، عادت به الذاكرة إلى أنه سيلقى مصيره المحتوم في قادم الأيام، وسيبكي عليه الأهل والأصدقاء.


لم يذهب إلى بيته، انتظر التشييع، وها هم أهالي حي باب السباع يأتون من كل حدب وصوب ليشاركوا في مراسم الدفن، صلى معهم صلاة الجنازة لأول مرة، استمع إلى كلمة ألقاها شيخ الحي أنس السويد، كانت كلمة مؤثرة أعادته إلى رشده، أضمر في نفسه أشياء كثيرة كان أولها التوبة، وفي صلاة المغرب كان في الصف الأول خلف الإمام، بعد الصلاة سلَّم على الإمام وقال ياشيخ: "اسأل الله لي الشهادة"، أخذ في المحافظة على صلاة الجماعة، لم يكتف بذلك ففي كل يوم أخذ يرافق المظاهرة بسيارته إلى أن تنتهي خوفًا من وقوع مصابين برصاص النظام الغادر.


مضى الأسبوع الأول على توبته وهو فرح بما أقدم عليه، بعده بيوم همس في أذن الشيخ بعدة صلاة الفجر. "يا شيخ : إنني أدعو الله أن يميتني شهيدًا، فلماذا لا يستجيب؟ يظهر أنني لا أستحقها فسجلي حافل بالمعاصي! أليس كذلك؟ يا شيخ ادع الله لي بالشهادة الآن.. أريد أن أسمعك.. هيا أسمِعْني.. أخذت عيناه تذرفان بالدموع"، تابع كلامه: "أرجوك يا شيخ أنس: أسمعنيها، فأنت رجل صالح.."، رأى الشيخ منه صدقه في المقال، فقال: "اللهم ارزقه الشهادة".


ودع الشيخ فرحًا قال الشيخ لمن حوله: "من صدق الله صدقه"، وفي اليوم الثاني تحققت الأمنية، فقد أُصيب بطلق ناري وهو يمضي بسيارته خلف المظاهرة غير آبه ولا خائفٍ من أحد.

رحم الله أبا العز الحمصي! وكتبه عنده من شهداء هذه الأمة الذين هم أحياء عند ربهم يُرزقون.


عبد الرحمن الشامي - 25/8/1433 هـ