اغتنام العشر الأخيرة
من الأعمال التي كان يحافظ عليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر "الاعتكاف" لحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان"
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
الحمد لله الكريم الوهاب، منَّ علينا بجميع النعم حتى قال في كتابه الكريم: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيم} [النحل: 18]، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن من نعم الله تبارك وتعالى على الناس أن جعل في هذه الدنيا مناسبات تضاعف فيها أجور الأعمال، وترفع بها الدرجات، ومن تلك المناسبات مناسبة شهر رمضان المبارك، ذلك الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وورد في فضله أحاديث كثر منها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين، ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة» (رواه الترمذي برقم (682)؛ وابن ماجة برقم (1642)؛ وصححه ابن خزيمة في صحيحه برقم (1883)؛ والحاكم في المستدرك برقم (1532)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة؛ والألباني في صحيح الجامع برقم (759)؛ وفي صحيح ابن ماجة برقم (1331))، وفي شهر رمضان عشر أواخر هي أفضل من الأيام التي قبلها إذ فيها ليلة القدر التي من قامها إيماناً واحتساباً بلغ درجات عُلَا، كيف لا وهي خير من ألف شهر كما أخبر ربنا تبارك وتعالى فقال في كتابه الكريم: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1-5]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه مسلم برقم (760))، فيستحب فيها الاجتهاد للفوز بالفضل العظيم، ولنا في النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد كان يجتهد فيها أعظم اجتهاد كما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله» (رواه البخاري برقم (1920)؛ ومسلم برقم (1174)).
ومن حكمة الله تبارك وتعالى أنه جعل هذه الليلة خافية على كثير من الناس لأجل أن يكثر اجتهاد العباد في تحريها، ويقوموا ليالي العشر كلها طلباً لفضلها، فتحصل لهم كثرة العمل، وكثرة الأجر فعن عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» (رواه البخاري برقم (1913))، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى في خامسة تبقى» (رواه البخاري برقم (1917)).
ومن الأعمال التي كان يحافظ عليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر "الاعتكاف" لحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان» (رواه البخاري برقم (1921)؛ ومسلم برقم (1171))، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره» (رواه مسلم برقم (1175))، وهذا شامل للاجتهاد في تلاوة القرآن، والصلاة، والذكر، والصدقة وغير ذلك من الأعمال، وقد سئل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل؟ فأجاب: "أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة"، الفتاوى الكبرى (2/477).
فعلى الإنسان أن يحرص كل الحرص على اغتنام هذه الأيام المباركة، وهذه الليالي الفاضلة، وألا يفرط فيها، بل يكثر من قراءة القرآن لأنه شهر القرآن، ويطيل القيام، ويتضرع بين يدي الكريم الرحمن؛ فيدعوه ويتحرى أوقات إجابة الدعوات وبخاصة في الثلث الأخير من الليل وقت النزول الإلهي لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» (رواه البخاري برقم (1064)؛ واللفظ له، ومسلم برقم (758))، والليل هو محراب العابدين، ومثوى الساجدين، وروضة المخبتين الذين يناجون ربهم تبارك وتعالى بكلامه، ويسألون عطاءه، ويُعَفِّرون جباههم بذُل التوبة وعِزّ العبودية لله رب العالمين، ويَحْنون رؤوسهم لجبار السماوات والأرض، وملك الملوك، دموعهم منهمره، وأيديهم ضارعة، وقلوبهم واجفة، ونفوسهم مولعة، يرجون الله ويخافونه؛ مستشعرين في ذلك حال نبيهم صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال:«إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه، فيقال له فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً» (رواه البخاري برقم (1078)؛ ومسلم برقم (2819)، و(2820))، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على طاعته ورضاه، وأن يوفقنا لمتابعة نبينا سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين، وصل الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.