رمضان.. والرحيل!
ليكن هدفنا في هذه المرحلة وبعد رمضان قول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، ولنبتعد عن صفوف من قال فيهم الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124].
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
دنا الرحيل وشارف الشهر على الانتهاء، ما أصعب تلك اللحظات التي يشعر فيها المرء بقرب رحيل من أحب، بل من كان بابا للخير عليه وسببا -إن أحسن استغلاله- في دخوله الجنة والعتق من النار.
قرُب الرحيل وإذ بالقلوب تنفطر حزنا على ضياع أي فرصة لم تستغلها لتقربنا من الجنة وتباعدنا عن النار، فما زالت الجوارح بعد تستعد لتنقية النفوس من المعاصي والآثام التي صبغتها بالران، ولكن ما زالت الفرصة سانحة لنيل النفحات في العشر الأهم من رمضان التي يمنحها الله عز وجل للعبد المؤمن المحب لربه والذي يخشى عقابه من تتابع الذنب تلو الذنب.
فما زالت الدعوة متاحة للجميع فعلينا أن نسعى جاهدين في تلك الأيام إلى الوصول لدرجة الإيمان العالية، ولنستعين في ذلك بعد الله بالصحبة الصالحة التي تشد من أزرنا وتزيد من همتنا وتسمو بأخلاقنا وتصل بقلبنا إلى التمتع بلذة العبادة، ويا له من شعور لا يضاهيه أي شعور آخر من ملذات الدنيا.
إنه شعور ممزوج براحة النّفس، مع سعادة القلب وانشراح الصدر وشدة الارتياح أثناء العبادة، والتمني بأن يقبض الله روح العبد الخاضع المتذلل له وحده وهو على هذه الحالة الإيمانية الرائعة التي لا يشعر بها باستمرار، ويسعى جاهدا لنيلها دائما، فتكرار هذه الحالة والشعور بها يتفاوت من شخص لآخر، بل في الشخص نفسه من حالة إلى حالة نظرا لقوة الإيمان وضعفه.
نصارع الذنوب في الحياة الدنيا كما يصارع الغريق الأمواج الهالكة التي تودي بحياته، فالذنوب في القلب تضعفه وتهلكه، فلا يزال عليلا مضطربا إلى أن يجد ضالته المنشودة التي تنقذه من عثرته، وتخرجه من ظلمة المعاصي إلى نور الطاعة وحياة القلوب العامرة بذكر الله، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر".
فالقلب الصحيح كما جاء في شرح العقيدة الطحاوية: "يؤثر النافع على الضار المؤذي، والقلب المريض ضد ذلك، وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، ومن علامات القلب الحي: أنه يشتاق إلى الذكر كما يشتاق إلى الطعام والشراب، وأنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه غمه وهمه، واشتد عليه الخروج منها، وأن يكون همه واحدا، وأن يكون في الله، ويكون أشح بوقته أن يضيع، ومن علاماته أيضا: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص والنصيحة والمتابعة والإحسان، هذه المشاهد لا يشهدها إلا القلب السليم".
سئل بلال رضي الله عنه عن سبب صبره على الإيمان مع شدة تعذيبه وطرحه في رمضاء مكة الحارة فقال قولته المشهورة: "مزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان فطغت حلاوة الإيمان".
مواطن يمتلئ فيها القلب بحلاوة الإيمان:
قيام الليل:
- من أراد تذوق حلاوة الإيمان عليه أن يجاهد نفسه ويصبر على الطاعة والمداومة على العبادة، فمن ذاق عرف، فتلمسها في ركعات في جوف الليل وحيدا بعيدا عن الدنيا وهموها ومشاغلها ومتاعها الزائل الفاني، ويجدها في سجدة بين يدي الله يتضرع فيها إلى مولاه داعيا راجيا أن يغفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، سره وعلانيته، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9].
يكابد الليل والشيطان الذي يسعى دائما أن ينتزع من روحه الهمم والمداومة للوصول إلى شرف المؤمن وعزه في الدنيا والآخرة، ففيه دواء القلوب والأبدان، وتلبية لأمر الرحمن، وشرف للمؤمن، ورفعة للدرجات، وتكفيرا للسيئات، كما أنه يورث في القلب الذل لله والتواضع.
روى الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل فقال: «يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس».
حال السلف الصالح مع قيام الليل:
وصف العلامة ابن عبد الهادي قيام شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان في ليله منفرداً عن الناس كلهم خالياً بربه، ضارعاً مواظباً على تلاوة القرآن، مكرراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية، وكان إذا دخل في الصلاة ترتعد فرائصه وأعضاؤه حتى يميل يمنة ويسرة".
يقول ثابت البناني: "كابدت الصلاة عشرين سنة واستمتعت بها عشرين سنة"، وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "لأهل الطاعة بليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا"، وقال الأوزاعي رحمه الله: "من أطال قيام الليل هوّن الله عليه وقوف يوم القيامة".
فسِر في طريق الرضوان والسعي لنيل أسباب السعادة في الدارين فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده المخلصين.
- قراءة القرآن:
فالقرآن غذاء الروح ونور القلوب وربيعها، كتاب الله المحفوظ إلى أن تقوم الساعة، وهو رفيق دربنا ومؤنس وحشتنا في دنيانا وشفيعنا في قبورنا، ارتبط ارتباطا قويا بشهر رمضان ففيه أنزل وفيه يتقرب العبد من ربه بزيادة التلاوة والاستماع والتدبر والعمل به والخشوع أثناء قراءته أو سماعه، فقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 1- 3].
والخشوع لا يتحقق إلا مع قلب متخل عن لهو الدنيا ومشاغلها، ومرتبط بحال العبد المؤمن ليس فقط أثناء العبادة، بل بحال قلبه بعدها كما ذكرت الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} أي لا بد لمن ذاق حلاوة الخشوع أن يحافظ عليه ويتعهده داخل قلبه، ويتركه متوقدا حتى إذا حان موعد العبادة مرة أخرى استشعره من جديد، وألا ينشغل بما يضر قلبه ولا يفيده، من سماع للأغاني والمسلسلات؛ فلا يجتمع في قلب المؤمن القرآن ومزمار الشيطان، ومن غيبة ونميمة والخوض في أعراض المسلمين.
ويتحقق الخشوع في القرآن بعدة عوامل منها:
- تطهير القلب من شوائب المعاصي والتعلق بأمور الدنيا، فيصبح القلب مهيئا للارتواء من الفيض الرباني والارتقاء الروحي ليطأ السماء بقلبه الخاشع الخاضع لله وآياته وأحكامه، وكما أن القاعدة الربانية اقتضت أن لا يمس القرآن إلا المطهرون، فكذلك لا يخشع لتلاوته وسماعه إلا المطهرة قلوبهم وهي قلوب المتقين.
- حضور القلب وتزكية النفس والتمعن بكل الجوارح في آيات الله التي تؤثر القلوب الوجلة، قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] أي هذه صفة الأبرار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه، لأنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، بأدب وخشية، ورجاء ومحبة، وفهم وعلم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73]، أي: لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها، بل مصغين إليها، فاهمين بصيرين بمعانيها؛ فلهذا إنما يعملون بها، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم (أي يرون غيرهم قد سجد فيسجدون تبعا له).
قال عبد الرزاق: "حدثنا معمر قال: تلا قتادة رحمه الله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] قال: هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان" [1].
يقول عثمان بن عفان: "لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله".
- تدبر القرآن: أمرنا الله تعالى في كتابه الكريم بتدبر وفهم القرآن والعمل به وتحكيمه في جميع أحوالنا، لأن تدبر القرآن هو الغاية من إنزاله قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، هذا وقد نحرم من نعمة تدبره بسبب ذنوبنا أو إعراضنا عن كتاب الله.
ومن المؤسف أن نجد مسلمين كلما سمعوا آيات الله تتلى عليهم غضبوا وتولوا وأعرضوا عنها، بل واستهزؤوا بها وسخروا من تاليها، فهؤلاء لم تلامس حلاوة الإيمان قلوبهم ولم يذوقوا لذة تدبر القرآن، نظرا لبعدهم التام عن كتاب الله. قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
قال ابن القيم في مدارج السالكين: "ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع الـعبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل فـي يـده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة".
عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل شذا
في النهار".
أما ابن تيميه فيقول: "من تدبر القرآن طالبا الهدى منه، تبين له طريق الحق".
عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: "إن من كانوا قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، وينفذونها في النهار".
وبعد أن انقضى ثلثا رمضان علينا جميعا محاسبة النفس ومكاشفتها وسؤالها هل شعرت قلوبنا بلذة العبادة والأنس بالله، وهل ذقنا حلاوة الإيمان وانتظار العبادة تلو العبادة، والفرح بالطاعة، والحسرة والانكسار من شؤم المعصية، فمن كان رده بالإيجاب فقد نجا، أما من كان حاله غير ذلك فقد حرم الخير الكثير، والمحروم من حرم الطاعة بسبب معصيته وليحاول إدراك ما فات.
وليكن هدفنا في هذه المرحلة وبعد رمضان قول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، ولنبتعد عن صفوف من قال فيهم الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "واعلم أن نفسك بمنزلة دابتك، إن عَرَفَتْ مِنكَ الْجِدَّ جَدت وإن عرَفَت مِنك الكسل طمعت فيك، وطلبَتْ منك حظوظها وشهواتها".
وقال الحسن البصري رحمه الله: "أفضل الجهاد مخالفة الهوى".
وقال ابن القيم رحمه الله: "من آثار المعاصي: حرمان الطاعة فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة، كل واحدة منها خير من الدنيا وما فيها".
سلوى المغربي - 19/9/1433 هـ
-------------------------------------
[1] ابن كثير بتصرف يسير.