جهود الحرمين الشريفين في الإفتاء

صالح بن عبد الرحمن الحصين

هذا فارق مميز بين الإسلام والأديان الأخرى بما فيها الأديان التي أصلها سماوي فالمسلمون لا يوجد لديهم فحسب الأدلة التاريخية التي لا تسمح بالتشكيك بأن نبي الإسلام شخصية تاريخية بل أن المتعلم منهم يعرف عن طريق الأحاديث الموثقة، التفاصيل الدقيقة عن حياة النبي العامة ربما أكثر مما يعرف عن جاره، بل يعرف عن تفاصيل الحياة الخاصة للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرف عن الحياة الخاصة لأبيه وأمه .

  • التصنيفات: أصول الفقه وعلومه -



كلمة ألقيت في جمع الدعاة، الذين كان يستضيفهم سنويًا سمو الأمير بندر بن سلمان بن محمد، في أحد المواسم.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه.

أما بعد:

فقد استأذنت سمو الأمير وتكرم بالإذن، بأن أبدأ قبل الكلام حول الموضوع المطلوب الكلام فيه بكلام عن قضية لا صلة لها مباشرة بالموضوع، ولكن نظراً لأهميتها ولأن شباب المسلمين يغفلون عنها فإني أحرص دائماً، وفي كل مناسبة اجتمع فيها بالدعاة أن أذكر بها مع علمي أنها معروفة للجميع، وأني لن أضيف إلى معلومات السامعين معلومة جديدة عليهم تتعلق بها .

1- في عدد ديسمبر 2001 نشرت مجلة ناشنال جوغرافيك مقالاً عن إبراهيم الخليل وفي هذا المقال ذكر محرره أنه سأل الحاخام اليهودي حاييم فرومان: "هل تعتقد أن إبراهيم شخصية تاريخية؟" أي أن إبراهيم العهد القديم وجد فعلاً، لم يجب الحاخام بنعم، لأنه لا يوجد لديه أدلة تاريخية تكفي للاقتناع عقليًا بوجود إبراهيم تاريخياً، فأجاب: "أنا لا يهمني أن يكون إبراهيم وجد في التاريخ أم لم يوجد، لأن إبراهيم بالنسبة لي ليس لحمًا ودماً، إبراهيم بالنسبة لي فكر وفلسفة".

وقبل ثلاثين سنة كتب المؤلف الإنجليزي (ولز) كتابًا بعنوان "Did Jesus Exist?" تضمن هذا الكتاب أنه في الثلاثين سنة السابقة لتأليفه، يتزايد رجال اللاهوت الذين يعترفون أنه لا يمكن كتابة ترجمة لعيسى عليه السلام، ذلك أن أناجيل العهد الجديد كتبت بأقلام أشخاص مجهولين تاريخيًا، ولم يكونوا معاصرين للمسيح عيسى ابن مريم ولم تكتب الكتب بلغة المسيح بل لايوجد اتفاق على لغة المسيح نفسها وقبل هذه الكتب لا توجد وثائق كافية للاقناع تاريخياً بأنه وجد فعلاً بله أن توجد له ترجمة تاريخية.

معنى ما تقدم أن رجال الدين اليهودي والمسيحي لا يدعون بوجود وثائق تاريخية تكفي لإقناعهم عقلياً بأن الشخصيات التي ذكرت في العهدين القديم والجديد شخصيات وجدت فعلًا في التاريخ .

هذا فارق مميز بين الإسلام والأديان الأخرى بما فيها الأديان التي أصلها سماوي فالمسلمون لا يوجد لديهم فحسب الأدلة التاريخية التي لا تسمح بالتشكيك بأن نبي الإسلام شخصية تاريخية بل أن المتعلم منهم يعرف عن طريق الأحاديث الموثقة، التفاصيل الدقيقة عن حياة النبي العامة ربما أكثر مما يعرف عن جاره، بل يعرف عن تفاصيل الحياة الخاصة للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرف عن الحياة الخاصة لأبيه وأمه .

وفيما يتعلق بهذه الجزئية الأخيرة فإن التاريخ كشف عن الحكمة عن تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم فلو كانت زوجته واحدة لفاتنا الكثير من تفاصيل حياته الخاصة، إذ ربما لم توجد في حياتها معه بعض الحوادث التي وجدت في حياة الزوجات الأخر معه؛ وربما وجدت ولكنها لم تر أهمية لنقلها إلى الناس، أو أنها نسيتها أو أن من نقل عنها غفل أو نسى أن ينقلها للآخرين فوجود العدد من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كان ضمانًا لأن يعرف من تفاصيل حياته الشريفة ما نعرفه الآن .

هذا الفارق بين الإسلام وبين الأديان الأخرى فيما يتعلق بمؤسسيها أو أنبيائها فارق له أهمية كبرى في تقييم الدين والثقة به .

2- فيما عدا الإسلام، لاتتصل مصادر الدين بنبيه أو مؤسسه بإسناد معروف .

أما في حالة الإسلام فلا أحد يمكنه بناء على أساس علمي ومنطقي التشكيك في أن نسخ القرآن الموجودة حاليًا في أي قطر هي صورة طبق الأصل للمصحف الذي كتب بعد خمسة عشر سنة فقط من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقد كتب بناء على وثائق خطية وشفهية تم انتساخ المصحف منها وفق أعلى درجات التوثيق .

فموثوقية مصدر الدين فارق أساسي بين الإسلام وغيره من الأديان .

3- قبل ثلاثين سنة تقريبًا كان الطبيب الفرنسي موريس بوكاي يقارن بين البايبل (العهد القديم والجديد) والقرآن، والحقائق التي كشفها العلم حديثاً فدهش بأنه بقدر ما يوجد في (Bible) من تناقضات وأوهام ومعلومات نقضتها الكشوف العلمية الحديثة وكان ذلك أمرًا طبيعيًا ناتجًا عن أن هذه الكتب كتبت في أوقات مختلفة بأيدي بشر مختلفين، فحملت أفكارهم وأوهامهم وتصوراتهم عن الكون والحياة أقول أنه ما بقدر وجده موريس بوكاي في هذه الكتب مما ذكر فإن القرآن قد برىء من كل ذلك بالرغم من أنه تعرض لمجالات متعددة للمعرفة كالفلك و الطبيعة وعلم الحياة، بل أنه عندما يتعرض للموضوعات نفسها التي عالجتها كتب (Bible) فإنه كان يتفادي دائمًا الجزئيات من القصة التي انتقدت في رواية البايبل .

فهذا الفارق المتعلق بنسخة المصدر (الكتاب المقدس) للدين ينفرد به الإسلام عن غيره من الأديان الأخرى .

4- الفارق الرابع بين الإسلام وغيره من الأديان أن الأديان الأخرى تتناول جزءاً من الحياة وليس الحياة كلها أما الإسلام فهو نظام شامل ومتكامل بمعنى أنه ينظم جميع جوانب الحياة الروحية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويحكم حياة المسلم يومه وليلته من مهده إلى لحده وكل جزء فيه يكمل الأخر ويسنده. فهو أشبه بالبناء الهندسي الكامل الذي لا يحتاج إلى الإضافة إليه أو أنقص منه .

5- نتج عن كل ما سبق فارق خامس بين الإسلام وغيره من الأديان، أن المصلحين في الأديان الأخرى يتجهون دائمًا إلى تطوير الدين وتعديله ليلائم ظروف حياتهم واحتياجات عصرهم .

أما الإسلام فغير قابل للتغير أو التعديل ولذلك فإن المصلحين في الإسلام يتجهون دائمًا إلى العودة بالإسلام إلى صورته النقية الأولى ويكون مجال الإصلاح لديهم حمل الناس على العمل بالجوانب التي أهملوها من الإسلام، أو ترك البدع والتشويهات التي لحقت بالدين من تأثير الأعراف والعادات والتأثيرات الأجنبية .


إن من أهم واجبات الداعية لفت أنظار الناس إلى هذه الفوارق التي تميز الإسلام عن غيره من الديانات والثقافات الأخرى، وبخاصة الأجيال الناشئة وتعريفهم بالكتب والمؤلفات التي توضح هذه الفوارق .

فيما يتعلق بالفتوى في الحرمين الشريفين، فلا يخفى أنه قبل دخول الملك عبدالعزيز إلى مكة في عام 1343هـ كان يوجد -ولمدة لا تقل عن عشرة قرون سابقة- بدعة منكرة في الحرمين الشريفين إذ حينما يحين وقت الصلاة ينقسم المصلون إلى أربعة أقسام ويصلي كل قسم وراء إمام يتبع مذهبًا من المذاهب السنية الأربعة، وفي أحيان يضاف إليهم إمام على المذهب الزيدي وكانت هذه البدعة محل الإنكار والاستنكار من العلماء الذين يقدمون للحج والزيارة .

وجرت محاولات لإزالة هذه البدعة ولم يمكن ذلك لغلبة التعصب المذهبي، وأصبحت هذه البدعة تجسيداً لافتراق الأمة مناقضة لهدف سام من أهداف الحج وهو تجسيد وحدة المسلمين .

وقد شيدت مقامات على عدد المذاهب الأربعة، يصلي كل إمام مذهب في المقام المسمى باسم المذهب ولا تسأل عن الاختلاط المربك للمأمومين لاسيما في صلاة المغرب، حيث يصلي الأئمة الأربعة في وقت واحد .

فبعد دخول الملك عبدالعزيز غفر الله له مكة في عام 1343، أزال هذه البدعة وجمع المصلين على إمام واحد قد يكون شافعياً أو حنفياً أو مالكياً أو حنبلياً، فعلى سبيل المثال كان أئمة الحرم المكي الأوائل المشايخ عمر باجنيد الشافعي وعمر فقي الشافعي، وعباس صدقة الحنفي وعبدالملك مرداد الحنفي ومحمد أمين فوده المالكي وعبدالله بن حسن آل الشيخ الحنبلي .

وفي المسجد النبوي الشيخ محمد خليل الشافعي والشيخ أسعد الحنفي والشيخ مولود المالكي والشيخ محمد عبدالله التمبكتي المالكي والشيخ الحميدي الحنبلي والشيخ صالح الزغيبي الحنبلي وكان للمتكلم الحظ في التلمذة على يد إمامين من أئمة المسجدالنبوي هما الشيخ عبدالمجيد حسن جبرتي رحمه الله الذي ولد ونشأ في الحبشه وكان من الطبيعي أن يتمذهب بالمذهب السائد في بلده أي المذهب الشافعي، والشيخ محمد ثاني علي الذي ولد ونشأ في نيجيريا وكان من الطبيعي أن يتمذهب بالمذهب السائد في بلده وهو المذهب المالكي وعلى يد أحد أئمة الحرم المكي. وهو الشيخ محمد أمين فوده رحمه الله وكان لهذه الخطوة في توحيد الإمامة في الحرمين الشريفين الأثر البالغ في اختفاء التعصب المذهبي شيئا فشيئًا .

فأصبح المدرسون في المسجدين الشريفين على اختلاف مذاهبهم يحرصون في كلامهم على الأحكام على التعريف بالمذاهب الأربعة دون أن يميزوا مذهبًا على آخر قد يختار المدرس أساساً لدروسه كتاباً لمؤلف من مذهب معين كالرحبية وبلوغ المرام ومؤلفهما شافعياً.

ولكنه عند الشرح يعرف بالاختلاف في الأحكام من المذاهب الأربعة دون أن يميز مذهبًا على آخر بل يتعامل مع المذاهب السنية والأئمة المنسوبة لهم على مستوى واحد من الاحترام والتوقير.

وكذلك الباحث في المؤسسة التعليمية كجامعة أم القرى في مكة والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عندما يتعرض للكلام عن حكم مسألة من المسائل فإنه يذكر ما قاله أئمة المذاهب الأربعة دون تمييز .

وكان أبلغ التطورات في ذلك حرية القاضي في الاختيار بين المذاهب بما يرى أنه الأقوى دليلاً فصار القاضي سواء كان شافعيًا أو حنفيًا أو مالكيًا أو حنبليًا حين يستند في قضائه إلى قول أحد الأئمة الأربعة، فإن حكمه لا ينقض من قبل هيئة التمييز بل لا ينقض حكمه حتى لو استند على رأي إمام من خارج الأئمة الأربعة، كالإمام جعفر بن محمد أن الإمام الثوري أو الإمام الأوزاعي لهذا لم يكن غريباً أن لا يتقيد المفتي في الحرمين الشريفين بمذهب معين بل الغالب أن يفتي بما عليه الجمهور.

والأسلوب الذي يتبعه المفتي في الحرمين عادة هو سؤال المستفتي عن القضية التي يستفتي فيها هل وقعت فعلًا له أو لم تقع فإن كانت لم تقع أفتاه بالرأي المبني على قول الجمهور من العلماء أما إن كانت قد وقعت فعلًا فيجنح المفتي إلى اختيار الرأي الأكثر يسرًا وأقل حرجًا من آراء العلماء .

وفيما عدا المدرسين الذين توجه لهم الأسئلة والاستفتاءات أثناء دروسهم يوجد مكاتب للإفتاء يراعى أن تكون قريبة من الجمهور سهل الوصول إليها، ويكون فيها مفتون دائمون .

وفي المواسم كرمضان والحج، تستعين رئاسة شؤون الحرمين بمجموعة من العلماء المدرسين في جامعة أم القرى أو في الكليات الجامعية أو المعاهد ليواجهوا زيادة الطلب على الفتوى .

وفي المسجدين الشريفين توجد مواقع متعددة للاستفتاء عن طريق الهاتف هذه المواقع أكثر من مائة موقع في الحرم المكي
الشريف.


هذه كلمة موجزة لايتسع الوقت المحدد لأكثر منها وأشكركم على حسن استماعكم .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

المصدر: صفحة الشيخ صالح الحصين