إنّما يقدّس الإنسان عمله
رقية القضاة
..ويشتاق إليه أخوه أبو الدرداء وهو في بلاد الشام وسلمان في العراق، فيرسل إلى سلمان قائلاً: "هلُمّ إلى الأرض المقدّسة"، فيكتب إليه سلمان قائلاً: "إن الأرض لاتقدّس أحداً وإنما يُقدّس الإنسان عمله" [أخرجه مالك في الموطأ].
- التصنيفات: الطريق إلى الله -
بيت الدهقان العامر بسكانه، من سادةٍ وعبيد، يزدان برياشه الفاخرة وطنافسه الوثيرة، وأكوابه الصقيلة، وأباريقه البرّاقة، والقوم فيه تبدو عليهم سيماء الجاهِ والغنى، وثمّة شاب في مُقتبل الشباب، يرفل في رداءٍ ثمين، تسبقه رائحة المسك أنّى سار، يسير باتجاه بيت النّار المعبودة في بلده فارس وبالتحديد في قريته (جيّ) ويلقم النار وقودها لكي لا تطفأ فتغضب منه هذه المعبودة المقدّسة، وهو مُجتهد في عبادتها، باذلٌ لها وقته لأجل أن تبقى ألقةً مُضيئة موقدة.
لم يكن ذلك الشاب سوى [سلمان الفارسي] قرّة عين والده الحاني، وقد أحبَّه إلى درجة أنّه لم يكن يسمح له بمغادرة المنزل خوفاً عليه من كل شيء ٍوأي شيء، ولم يكن ذلك الولد كما لم يكن أبوه يتوقعان أن الأيام المقبلة، ستفرقهما فراق الأبد، ولكن الله يُريد لذلك الإبن شيئاً، غير ما أراده أبوه، في ليلة اضطرّ فيها الأب إلى إرسال ولده في مهمة خارج أسوار ضِياعه وقصوره المترامية الأطراف، وتسوق سلمان قدماه إلى كنيسة فيها قوم يصلّون، ويُعجب الشاب بصلاتهم ويعود إلى أبيه ويخبره بما رأى، ويخشى الأب أن يفارق ولده دين المجوس، وعِبادة النّار المقدّسة فيُقيده في المنزل.
ويتمكن سلمان من كسر قيده، وينظر في كل اتجاهٍ من القصر، فيرى المال الوفير، والظل الظليل، والغنى الفاحش، والتدليل المتناهي، ولكنه يسمع في قلبه صوتاً أقوى من صوت الرفاهية، ويحسُّ في نفسه كراهية تامةً لهذه القيود الحريرية، التي يمثلها الجاه والسلطان والذهب، ويصبو إلى حرّية الروح، ومعرفة الحق، والدين الحق، لقد حدثته نفسه كما حدّثه قلبه أن النار لم ولن تكون إلهاً، وأي إلهٍ هذا الذي إذا لم تُوقِد نوره بيدك فإنّه ينطفئ ويخبو، وأي ربّ هذا الذي يهدر ويتطاير شرره في كل اتجاه، وهكذا فرّ سلمان الفارسي إلى الكنيسة، وطلب من الكاهن فيها أن يدله على أصل ديانته، ويدلّه الكاهن على الشام، ويرشده إلى كاهن يقيم فيها، ويلتحق سلمان بأوّل قافلة راحلة باتجاه البلد الذي طارت إليه روحه، وهفا إليه قلبه، ويصل وجهته التي طالما تمنى الوصول إليها، ويتعرف على ذلك الراهب الذي ارتحل إليه وهو يظنّه ورعاً تقياً ندي القلب، كتلك الترانيم التي سمعها ذات ليلة فجعلته يطوي القفار، لأجل أن يكون من أهلها.
ولكن قدره يوقعه في يدِ من ليس بأهل للاتباع، ويَهلك الرجل بعد حين، ويحلّ محله راهب آخر زاهد صالح عابد، وتحضره الوفاة فيُوصي سلمان باللّحاق براهب صالح في الموصل، ويظل سلمان يرتحل في أصقاع الأرض حتى يصل إلى عمورية، وهناك يُوصيه الرّاهب الذي يخدمه بأن يرتحل إلى بلاد العرب، مبشراً إياه بقرب مَبعث نبي من العرب في أرض العرب، وأن يثرب مُهَاجره، ويرتحل سلمان قاصداً تلك البلاد التي تعطرها نسائم النبوة المنتظرة، ويعدو عليه قطاع الطريق فيبيعونه لتاجر يهودي، يحمله إلى يثرب، فيغدو عبداً رقيقاً بعد عزّ وإمارة وحرية، ولكن روحه تأنَس لنخيل يثرب، وتألف فضاءها الرحيب، وهو يرى فيها تلك الملامح التي حدّثه بها راهب عمورية الصالح، فيرجو أن يكون من أتباع ذلك النبيِّ المنتظر.
وتشغل قيود العبودية القسريّة سلمان عن متابعة أحداث مكة، ومبعث الرسول صلى الله عليه وسلم فيها حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة المنوّرة، ويسمع سلمان بالنبأ الذي طالما انتظره، ويتذكر تلك العلامة التي أخبره بها راهب عمورية، "نبي يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة" فيأخذ شيئاً من طعامٍ كان عنده ويقصد ذلك الرجل الذي تمنَّى رؤيته سنين طِوال، ويدنو سلمان الأمير الأسير المسترقّ، من النبي الذي بعث برسالة الحق والحرية، ويقدِّم له الطعام الذي يحمله قائلاً: "بلغني أنك رجلٌ صالح وأن معك أصحابٌ لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيءٌ جمعته للصدقة"، ويُعطي النبي صلى الله عليه وسلم الطعام لأصحابه ولا يتناول منه شيئاً، ويقول سلمان في نفسه هذه واحدة.
وتتجاذبه عاطفته لهذا الرجل وأمانيه في أن يكون هو النبي الذي يرجو، فيمد له يده بطعامٍ آخر قائلاً: "إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتُك بها"، وتكون العلامة الثانية للنبي الذي أخبره بها الراهب الصالح، ويبقى خاتم النبوة بين كتفيّ الرسول فكيف سيراه سلمان، ويقدم عليه مرة أخرى، وقد انصرف صلى الله عليه وسلم من جنازةٍ لأحد أصحابه ويرى سلمان يحاول النظر إلى موضع خاتم النبوة، فيُلقي الرداء عن ظهره، وتكون الثالثة وينكبُّ سلمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّله ويبكي، ويقصّ على النبي صلى الله عليه وسلم قصة البحث، ورحلة الروح الظمأى للحق، ويشهد أن لا إله الا الله وأن محمداً رسول الله، ويأمَره النبي صلى الله عليه وسلم ان يُكاتب سيّده اليهودي من أجل حريته، فيُكاتبه على ثلاثمائة نخلة يُحييها، وأربعين أوقية من ذهب.
والرسول الحاني المحبُّ لأتباعه فقيرهم وغنيهم، حرّهم وعبدِهم، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وإنثاهم، لا تشغله عن سلمان وحالته شاغلة، يأتيه سلمان بغصون النخل التي أمدها به إخوته مسلمو المدينة، فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم : «اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فأتني أكن أنا أضعها بيدي» [سير أعلام النبلاء - الذهبي]، ويعطيه صلى الله عليه وسلم قطعة من الذهب لكي يدفعها لليهودي الذي يملكه ويبارك الله تعالى في فسائل النخل فتحيا جميعها، وفي قطعة الذهب الصغيرة، فتزيد على الأربعين أوقية، فيشتري سلمان بها حريته الغالية تلك التي فقدها بجور الجاهلية، واستردها بعدل الأسلام.
ويحتجّ المسلمون في سلمان الفارسي، فيرى الأنصار انتسابه إليهم ويحب المهاجرون انتسابه إليهم، ويحسم الرسول صلى الله عليه وسلم الموقف قائلاً: «سلمان منّا أهل البيت» [قال الهيثمي في المجمع (6/130): رواه الطبراني وفيه كثير بن عبد الله المزني وقد ضعفه الجمهور وحسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات]، في إشراقة نبوية لطيفة، فسلمان نزع رداءِ الجاه العريض، ورمى خلف ظهره أكداس المال، وَ واسع الضياع، في رحلة تضحية قلَّ نظيرها عن المعبود الحق والدين الحق، فاستحق الوسام الرفيع بالانتساب إلى بيت نبي الله صلى الله عليه وسلم.
وسلمان فقيه عالم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد آخى بينه وبين أبي الدرداء رضي الله عنهما، فزار سلمان أخاه فقرب لهما الطعام، فقال أبو الدرداء: "إني صائم"، فقال سلمان: "ما أنا بآكلٍ حتى تأكل" فأكل، ولما كان الليل قام أبو الدرداء ليُصلي فقال له سلمان "نَمّ"، فنام، فلما كان من آخر الليل قال له سلمان: "قم الآن"، فقاما فصليا، وقال له: "إن لنفسك عليك حقاً، ولربك عليك حقّاً، وإن لضيفك عليك حقّاً، وإن لأهلك عليك حقّاً، فأعط لكل ذي حقٍّ حقّه"، وأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا له ذلك فقال: «صدق سلمان» [رواه البخاري]، وفي رواية أن أبا الدرداء كان يصوم يوم الجمعة ويقوم ليلتها، فأمر سلمان أبا الدرداء أن يُفطر يوم الجمعة، وذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «عُويمِرُ سلمانُ أعلمُ منك» وهو يضربُ على فخِذِ أبي الدَّرداءَ عُويمِرُ «سلمانُ أعلمُ منكَ» ثلاثَ مراتٍ، «لا تخصّن ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصن يوم الجمعة بصيام من بين الأيام» [الترغيب والترهيب للمنذري].
ويعود سلمان مع جيش الفتوح الإسلامية إلى المدائن، وقد عينه الخليفة الفاروق أميراً عليها، ولم يبحث سلمان عن القصورالتي كانت له ذات يوم، ولم يستولي لنفسه على ضياعٍ كانت ذات يوم ملاعب صباه، ومُلك أبيه، ولم ينتظر من الإمارة الجديدة أن تَدر عليه لبناً وعسلاُ، بل كلّت يداه وهو أمير المدائن، من عمل الخوص، كي يحصّل رزقه، ولم تبرّر له نفسه الزكية، وقد ارتقى بها الإسلام إلى أعلى درجات النقاء، أن يمد يده إلى مالٍ كان له ذاتَ يوم، فقد استعلى على الدنيا وهو شابٌّ غرير، يفرح قلبه لزهرتها وتستخفه مباهجها، وحلّق بعيداً عن قيودها بأجنحة الحرية الكريمة والعقيدة السليمة، والفهم الدقيق لأحكام الشرع، فصار ينبوع حكمة ومصدر هديِّ للأُمَّة إلى يوم الدين.
ويشتاق إليه أخوه أبو الدرداء وهو في بلاد الشام وسلمان في العراق، فيرسل إلى سلمان قائلاً: "هلُمّ إلى الأرض المقدّسة"، فيكتب إليه سلمان قائلاً: "إن الأرض لاتقدّس أحداً وإنما يُقدّس الإنسان عمله" [أخرجه مالك في الموطأ].
وتحضره الوفاة وقد عمّر طويلاً في طاعةٍ وَ ورع، ويجتمع إليه إخوانه الذين أحبّهم في الله ويبكي سلمان، فيقول له أصحابه: "ما يبكيك"؟ قال: "عَهْدٌ عَهِدَهُ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «لِيَكُنْ بَلاغٌ أَحَدِكُمْ كَزَادِ الرَّاكِبِ» [حلية الأولياء لأبي نعيم]، وينظر الأصحاب حولهم فلا يرون من حطام الدنيا شيئاً إلاّ مايقوّم بعشرين درهماً!!، متاع بعشرين درهم يُرعبك أن تلقى الله بها ياسلمان؟، وأنت أمير المدائن!!، عشرين درهماً تُبكيك عند موتك مخافة أن تُحاسَب عنها؟، ألا فلتفخري أيتها الأرض أنّ قدما سلمان الورع البارّ الطاهر الخاشع، قد مرّت يوماً فوق تُرابكِ، ولتبقَيّ أيتُها الأُمّة شامخة عليّة ظاهرة على عدوك، مادامت فيِك سيرة هؤلاء الأطهار قدوة ً ومناراً.
"اللهمّ صلّ وسلم على نبيك وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين"