الدستور .. الذي ينبغي أن نكتُبه
يعلم كل متابعٍ للشئون السياسية أن الدستور في كل بلد يرسم ملامحها ويُحدّد أولوياتها وقِيَمِها العليا، لذلك فإنك مثلاً لاتنفك في أي بلدٍ في العالم مرّت بمخاضٍ ثوري وحِراكٍ دستوري أن تجد ذلك منطبعاً على شكلها الدستوري باعتباره وثيقة معبّرة عن الأمة ونابعة منها.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
يعلم كل متابعٍ للشئون السياسية أن الدستور في كل بلد يرسم ملامحها ويُحدّد أولوياتها وقِيَمِها العليا، لذلك فإنك مثلاً لاتنفك في أي بلدٍ في العالم مرّت بمخاضٍ ثوري وحِراكٍ دستوري أن تجد ذلك منطبعاً على شكلها الدستوري باعتباره وثيقة معبّرة عن الأمة ونابعة منها.
ونظرة في الدساتير الأوروبية المعاصرة تُنبئك عن هذا الشكل المرتبط بين هوية الأمة الثقافية وتوجهاتها المجتمعية ودستورها المكتوب.
الدستور الألماني على سبيل المثال يتّضح فيه ثلاثة أمور مهمة:
أولها:
جعل حقوق الإنسان على النُّسق العلماني العالمي مرجعيته في كل شئون الحياة.
ثانيها:
العمل لأجل مصلحة ألمانيا وهو أمر إذا تعارض مع حقوق الإنسان، قدّم مطلقاً عليها وأبرز الأدلة علي ذلك أن الدستور يمنع من تقيّيد حرية الإنسان أو التنصُّت عليه ومراقبته لكنه يُعزى للقانون أن يتجاوز ذلك كله، إذا ثبت أنه يُهدّد المصلحة العليا للأمة الألمانية وهو الأسلوب المستخدم في قوانين مكافحة الإرهاب.
ثالث هذه الأمور:
هو مبادئ الدولة البنيوية العامة وهي أمور تحثّ على المحافظة على شكل نظام الحكم في البلاد "حق المقاومة"، والمحافظة على تنوع الثقافات بين الشمال والجنوب والشرق والغرب "حق الفيدرالية" وغيرها من الحقوق التي تُعطي للجمهورية الاتحادية طعماً ورائحة ولوناً.
عتبي على مشايخنا وكِبارنا ومُقدمينا والذين ينوبون عنّا أن يكون كل الحديث عن المادة الثانية فقط وكأنها ستُطبق الشريعة الإسلامية مع غِياب تامٍ للاتّساق بينها وبين كل مواد الدستور فأصبح الأمر دفاعاً عن بعض المواد التي لاتُقيم شرعاً ولاتجعله دستوراً إسلاميّاً.
والسبب في ذلك في رأيي أننا حصرنا أنفسنا في إطار ضيّق أجبرونا عليه وسقف منخفض للغاية في إطار تأسيس دولة قطرية أقرب إلى العلمانية مع بعض المُحسنات التي تجعلها بكل بساطة دولة بزرميط بلا طعمٍ ولا لونٍ ولا رائحة.
وفقاً للمسودة الأولى؛ هل نكتب دستوراً إسلامياً؟ علمانيّاً؟ هل نتبني نظاماً برلمانياً؟ أم رئاسياً؟
هل نحن دولة مركزية؟ لامركزية؟ هل نحن دولة استقلال وطني؟ أم يتحكّم فيها مجلس الدفاع الوطني؟
لاندري.. فعلا لاندري.. لأن الأكثرية الإخوانية حاولت أن تُرضي كل الأطراف فبدا الأمر مسخاً يفتقد للمبدأ وشجاعة الانحياز.
التمسُّك الحقيقي بالمبادئ والقِيَم وشجاعة الانحياز يغيبان بقوة عن هذه المسودة للأسف الشديد في إطار تلفيقي يُوائم بين المتناقضات، وهو نفسه الإطار الذي يجعل البعض يبعث رسالة بها من ألفاظ المودّة والمحبة إلى أعدى أعدائه وذلك لأنه أمر بروتوكولي.
نعم هذه مسودة بلا مبدأ وغير منحازة لأي قِيَم وغير معبّرة عن هوية دولة وأُمّة ولاتمتُ للإسلام بصلة، مسودة تفتقد إلى سياق موضوعي فلايظهر للدولة فيها أي شكلٍ محدّد بانحيازات واضحة وهو ما أنتقده بقوة بعيداً عن التفاصيل الكارثية بالداخل، تم حبسنا بل وتقيّيدنا في إطار قُطريٍ ضيّق يرغمنا على نموذج علماني بأبواب محدّدة وشكلٍ محّدد ولم نطرح نحن حتى مقترحاً "خارج الصندوق" والآن نجيش أنفسنا للدفاع عن المادة الثانية لإنقاذ مايُمكن انقاذه!!!
أين تصوّرنا الرشيد خارج النمط الوثني للدساتير الغربية؟ أين قِيمُنا الإسلامية في مواد الدستور؟ أين استلهام أحاديث النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم كإمامٍ بُعِثَ ليتمّم صالح الأخلاق؟
أين مقاصد الإسلام العظمى في مواد الدستور؟
ألا نستطيع أن ننظم من مجموع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم دستوراً يُعنى بالمجتمع أكثر مايُعنى بالسلطة؟ يُعنى بالضعيف والفقير والتعليم والصحة، يكون لنا رؤيتنا السياسية المستقلة بكل وضوح وقوة، خارجيتنا وداخليتنا وتعليمنا وصحتنا نتمثّل فيها سياسة الراشدين العظام بحق وليس بمجرّد مواد بروتوكولية تُماهي النمط الغربي دون أي وجود للإرث العظيم لحضارتنا وديننا.
هكذا يُراد لنا أن نغرق في بروتوكولات السياسة فننسي قِيَمِنا ومبادئنا وتاريخنا.
أنا أطرح على سادتنا ومشايخنا أعضاء اللجنة التأسيسية مقترحاً.
الجمعية لم يعد لها مكان للمقترحات، لكن المقترحات تأتي في إطار الحوار المجتمعي، أنا أدعوهم جميعاً أن يجمعوا من عقول مصر الفاقهة والنابهة والوطنية المتوافقة على مرجعية الإسلام العظيم لجنة تعتكف وتصل الليل بالنهار لصياغة وثيقة مبادئ للدولة تُحدّد شكلها وقِيَمِها العليا وتستعين بالمحاولات المحترمة لكتابة دستور راقي يُعبّر -لا عن المواءمات المخزية- ولكن عن إرادة شجاعة تنحاز لقِيَم الإسلام ومقاصده العظمى في كل مادة فيه فلا يصنع فرعوناً جديداً ولايُعبّر عن مصلحة حزب ما، ينصر الحق ويكرّس استقلال الأُمّة وينحاز للمجتمع على حساب السلطة، ينحاز للضعفاء والمساكين الذين لايدري أحد ماينتظرهم من الأحزاب السياسية في مصر.
وحينها يمكن لأنصار الفكرة الإسلامية أن يعملوا عملاً توعوياً ضاغطاً وشعبياً بين الناس الذين سيُسعدهم كثيراً أن تُوضع في الدستور مواد تحفظ حق الضعيف والفقير والمسكين، بل وحق الأقليات وغيرها.
صدقوني أيها السادة الأكارم ستنالون احترام العالم كله حقاً حين تكتبون في دستوركم ماقاله النبي الأعظم وهو يُوصي قادة جيشه «لاتقتلوا شيخاً ولا امرأة ولاتقطعوا شجرة ولاتحرقوا أرضاً وإنكم ستمرُّون على أقوامٍ قد حَبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وشأنهم» [رواه الإمام أحمد، والطبراني]، هل تجدون في المسودّة العرجاء هذه مايُوازي القوانين العظيمة التي أرساها صلى الله عليه وسلم؟
هل تجدون في المسودّة العرجاء انحياز النبي صلى الله عليه وسلم للضعيف والمظلوم ولو كان في آخر الأرض؟ أليس هذا مُحدِّد سياسي لسياستنا الخارجية؟ أن ننحاز إلى الحق ونحمي الضعيف ونمنع البغي حتى لو من حلفائنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
أين حقوق إيواء من استجار بنا ومن لجأ إلينا؟ أين حقوق التكافل والتراحم التي أرساها المصطفى صلى الله عليه وسلم؟
أين المقوِّمات الحقيقية لاستقلال الأُمّة بدلاً من تغوّل سلطات القضاء والجيش بهذه الطريقة؟
ثم بعد ذلك نحتشد لتغيير مادة، نعلم يقينا أنها سيؤول تفسيرها إلى المحكمة الدستورية وهي جهة علمانية ومنحازة إلى مشروع التغريب بوضوح، وحين طالبنا بجهة أخرى طالبنا بأن يحتكر تفسير المادة مؤسسة عرجاء لاتنصر شريعة ولاتعلي ديناً، كأننا نصنع كنيسة جديدة قوامها وعمادها كهنةٌ منحرفون!!!
كل هذا ياسادتنا نشأ من فساد التصور عن الدستور. إذا لم يكن لدينا نحن على الأقلِّ شيئاً من هذا مكتوباً لنا، مشروعاً لنا، وثيقةً لنا بله عرضها على الشعب فمتى نكتبها وماذا نكتبُ إذن؟
اعذروني ياسادتنا، حتى لو كتبتم المادة الثانية كما تُريدون وبقيت المسودّة على حالتها السيئة فإنني سأرفض هذا الدستور الأعرج دستور البزرميط.
د. دسوقي أحمد