بورما.. الحقيقة والمأساة
هل ستعاود الحكومات المسلمة اتخاذ نفس رد الفعل، أم سيكون لها موقف أكثر قوة وإيجابية في التعاطي مع مشكلة قديمة وأزلية قبل أن يقف كل مسئول بين يدي الله ليسأله عن عمله وعن نصرته لإخوة مسلمين يستنجدون به في عالم يتحزب فيه كل أبناء ديانة ويدافعون عن إخوانهم في العقيدة...إلا المسلمون؟
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
لم تكن الأحداث الأخيرة التي مرت ببورما حدثاً عارضاً ولا أمراً جديداً، ولم يكن دم المسلمين الذي يسال فيها اليوم هو أول الدماء ولا أغزرها، ولم تكن دماء المسلمين تسيل من أهل بورما وحدهم بل هي مشكلة قديمة جديدة نعالجها في كل مرة بنفس الطريقة والأسلوب الذي لم يرق يوما لمستوى الحدث.
ففي كل فترة تثار قضية يهتم لها المسلمون أياماً أو أسابيع، ثم تغمرها أمواج النسيان، حتى تأتي فاجعة أخرى تذكرنا بشعب مسلم آخر لنعيد نفس الكرة.
فما يحدث في بورما الآن يحدث بنفس الطريقة مع عدم تسليط ضوء إعلامي -نتيجة لكثرة المآسي- في كشمير مع السلطات الهندية وتركستان مع السلطات الصينية والشيشان من السلطات الروسية، ويحدث أيضاً في محيطنا القريب مع عرب الأحواز مع السلطات الإيرانية، وغيرهم الكثير من الأقليات المسلمة التي لا ترى حقوقا ولا تجد ناصرا من البشر.
إن ما يحدث للمسلمين في بورما وأخواتها نتيجة لغياب المنهج الإلهي الحكيم في التعامل بين البشر واستبداله بالمناهج الأرضية التي تقوم على المرجعية الوحيدة لنيل الحقوق وهي القوة، فاستحالت الأرض كغابة كبيرة يأكل كل قوي فيها الضعفاء من حوله، وأصبح لزاماً لكل حق أن يكتسب قوة تحميه وتصونه، ولا سبيل لنيل أي حق من الحقوق سوى أن ينتزع بالقوة من بين براثن المعتدين.
فمسلمو بورما الذين دخلوا الإسلام طواعية عن طريق تعامل التجار المسلمين في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، وسبقوا الماج البوذيين في التواجد على هذه الأرض، وأقاموا دولة إسلامية بسيادة كاملة على أرضهم لمدة تقترب من الأربعة قرون بنوا فيها المساجد وصكوا العملة التي تحمل كلمة التوحيد.
إلا أنهم ومنذ أن اجتاحت جيوش الملك البوذي (بورديابا) مدينة "أركان" (أكبر تجمع إسلامي في بورما) عام 1784م، وتعرض المسلمون بعدها للعديد من المذابح المتتالية لإبادتهم من الوجود ولطمس كل معلم إسلامي فيها ولإحلال كل طابع بوذي عليها، ذلك ليختفي كل أثر للإسلام والمسلمين من حياتهم وليقضوا عليهم تماماً.
ولم يقدم الاستعمار الإنجليزي جديدا لمسلمي بورما بل عمد إلى إذكاء وإشعال الفتنة والحروب بين البوذيين والمسلمين مؤيداً جانب البوذيين ومساهماً معهم في القضاء على المسلمين، وكان من أشهر ما تعرّض له المسلمون في بورما إبان فترة الاحتلال البريطاني لها مذبحة عام 1942 م حيث ذبح فيها قرابة المائة ألف مسلم في أركان وحدها، وتعرضت منشآتهم الإسلامية كالمساجد والمعاهد والمدارس والمحاكم الشرعية للنسف بالمتفجرات وذلك مع طرد عام للمسلمين من وظائفهم الحكومية.
وحتى بعد أن نالت بورما الاستقلال في 4 يناير عام 1948م، وهو الذي ساهم فيه المسلمون بتضحيات ملحوظة لم يكن لهم نصيب فيه إذ تجاهل البوذيون وجودهم تماما بعد فقدهم لأغلب وظائفهم الحكومية، وعوملوا معاملة مواطنين من الدرجة الثالثة أو الرابعة، مما اكسبهم ولليوم لقب "أسوأ أقليّة مضطهدة في التاريخ" بحسب وصف الأمم المتحدة لها.
لذا فالأزمة ليست وليدة اليوم وان ما يحدث الآن ليس بجديد وأن النية مبيتة لإفنائهم من الوجود والعمل جار لتحقيق هذا الهدف منذ زمن بعيد، وهم يعلمون تماماً أن العالم الإسلامي ضعيف بتفرقه مشغول بقضاياه تُحيط به الأزمات المصطنعة التي يراد له أن يغرق فيها دوما فلا يلتفت لمثل هذه القضية وليستمر مسلسل الذبح للمسلمين في تلك البقاع ومثيلاتها دون أي بارقة أمل في تدخل أحد، فالمنظمات الدولية التي تقيم الدنيا ولا تقعدها من أجل الحفاظ على الحيوانات لا ترى المسلمين حقاً في الحياة، بل تقف صامتة مشاهدة لتحصي فقط عدد قتلاهم لتنشرهم كخبر مهمل في وسائل إعلامهم.
وزادت فترة الانقلاب الشيوعي النار التي تحرق المسلمين إذكاء، إذا أعلن الجنرال (تي ون) بورما دولة اشتراكية عام 1962م، وليذكر صراحة أن الإسلام هو عدوه الأول، فأمم أملاك المسلمين واستبدل العملة النقدية بعملة جديدة ولم يعوضهم عن العملات التي كانوا يمتلكونها ليزدادوا فقرا ومهانة، وفرض على الرجال المسلمين الزواج من بوذيات، وفرض الأسماء البوذية على أبنائهم، ومنع ارتداء الفتيات المسلمات للحجاب مما وضع المسلمين تحت اختيارين شديدين، إما الهروب وترك الأموال والممتلكات لخارج بورما، ففر كثير منهم للدول المحيطة، حيث فر أكثر من 250000 مسلماً إلى بنجلاديش، وفي عام 1994م، لجأ ما لا يقل عن 110000 إلى تايلاند، وذلك في هجرات جماعية يموت فيها الكثيرون في الطريق حتى يجدوا مأوى آمناً.
وكان البديل الآخر هو الارتداد عن الإسلام للنجاة بأنفسهم، فارتدت منهم أعداد كبيرة تحت هذه الضغوط، وتحمل الباقون الاستمرار على الدين والبقاء في الوطن مما عرضهم لكل أنواع الضغوط التي لا تتحملها أي جماعة إنسانية.
وإذا أراد أحد أن يرسم صورة للإذلال السياسي والاجتماعي فلن يجد صورة أبلغ ولا أوضح من مسلمي بورما الذين تمسكوا وبقوا في بلدهم، فحرِموا كل الحقوق الإنسانية، ففي عام 1982م، صدر قانون جديد في بورما يُقسِّم المواطنين إلى درجات:
الدرجة الأولى:
وهم الكارينون والشائيون والباهييون والصينيون والكامينيون ومعظمهم يعتنقون البوذية وديانات أخرى وثنية.
الدرجة الثانية:
وهم المواطنون الخليط من الأجناس السابقة.
الدرجة الثالثة:
وهم المسلمون حيث تم تصنيفهم على أنهم ليسوا مواطنين بل أجانب دخلوا بورما لاجئين أثناء الاستعمار البريطاني وحاولوا تثبيت هذا الزعم الكاذب على المسلمين وهم أصحاب الأرض الأصليين.
وعلى هذا تم سحب الجنسية عن المسلمين وتم حرمانهم من كل الأعمال وصاروا بلا هوية في وطنهم وأصبح بإمكان الحكومة أن ترحل أي عدد منهم خارج البلاد في الوقت الذي تشاء، بوصفهم أجانب، ويرحلون بلا أية حقوق أو إثبات هوية، مما اضطرهم لقبول العيش في بلادهم على أي مستوى لعدم وجود مكان لهم لا داخله ولا خارجه.
ولم تكتف الحكومة البوذية بهذا الإذلال والإهانة للمسلمين بل جعلت مجرد نيل المسلمين لدرجة أجانب حلما من أحلامهم، فأعادت تصنيف الدرجات لتجعل المسلمين في الدرجة الرابعة وهي درجة عديم الجنسية الذي يحق للحكومة أن تحتجزه في السجن لأي مدة تشاء ثم إذا أفرجت عنه يودع في معسكرات للاعتقال لتحدد فيها إقامته وليعملوا فيها الأعمال الشاقة والخطرة، ويمنح لمن يثبت فيهم تفوقا في عمله أن يسجلوا على درجة أجانب على أن يعيش في أماكن محددة لا يسمح لهم بالخروج منها ولا يتحرك منها لمدن أخرى إلا بتصريح كتابي حكومي، وربما يتعرض للعقوبة بعد حمل جميع الأختام والأوراق الرسمية، كما حدث عام 2001م، بعدما اعتقل ثمانية من المسلمين كانوا في طريقهم إلى رانغون من أركان، وكانوا يحملون الأوراق الرسمية المطلوبة بخلاف تصاريح السفر إلى خارج مدنهم، فتم القبض عليهم ومحاكمتهم والحكم عليهم بالسجن لسبع سنين!!.
الأحداث الأخيرة:
عادة لا تحتاج انتهاكات حقوق المسلمين والاعتداءات عليهم إلى مبررات من جانب الأغلبية البوذية التي تدعمها الحكومة التي تمدهم بكل شيء لإبادة المسلمين، فيكفي أن تسري إشاعة كاذبة عن أي اعتداء من جانب المسلمين على البوذيين -وهو مالا يحدث مطلقا لقلة عدد المسلمين وضعف قوتهم- إلا وتجتمع جحافل من البوذيين ليعملوا في المسلمين أسلحتهم بلا خشية من محاسبة ولا معاقبة.
وغالباً ما تكون البداية أيضا باعتداء من الجانب البوذي على مساجد أو ممتلكات أو أعراض المسلمين ومن ثم يحاول بعض المسلمين الدفاع عن مقدساتهم وأعراضهم وممتلكاتهم، وبعدها تنتشر الحرائق في صفوف المسلمين ومنها حرائق لأجساد المسلمين أنفسهم وليست ممتلكاتهم فحسب.
فتدعي وكالات الأنباء البورمية وقوع حادثة اغتصاب وقتل لامرأة بوذية جزمت بأنها على يدّ ثلاثة رجال مسلمين على الرغم من عدم وجود أي بيانات عن مرتكبي الحادث تحت أيديها، فقام ثلاثمائة من البوذيين بمحاصرة حافلة بها عشرة رُكّاب (من الدعاة المسلمين الذين يعلمون الناس الإسلام) وانهالوا عليهم ضرباً حتى قتلوهم جميعاً واغتصبوا المرأة المسلمة التي كانت معهم وأشعلوا النيران في الحافلة وحرقوا أجسادهم، والعجيب أنه كان من بين العشرة رجل بوذي قتلوه أيضاً وهم يظنونه مسلماً.
ولا يزال الدم المسلم في بورما يسيل حتى كتابة هذه السطور، وسيظل يسيل طالما يكرر المسلمون نفس ردود الأفعال في كل مرة، بينما يشتد عليهم البوذيون وتكثر مساعدة الدول المحيطة للبوذيين في قتل وتشريد وطرد المسلمين بينما يقف المسلون دوما في مقاعد المتفرجين.
رد فعل المسلمين القديم والحديث:
لم يختلف رد فعل المسلمين في كل مرة، فالتجاهل لقضيتهم وعدم الاكتراث بدمائهم ظل سائدا لفترة طويلة وخاصة منذ بداية المأساة في ظل تعتيم إعلامي عليها، وعندما زادت الوسائل الإعلامية وظهرت مشكلة بورما على الساحة الإسلامية والدولية انتقل رد الفعل الرسمي المسلم إلى السلاح الفعال الذي يستخدمونه في كل مرة، وهو سلاح الشجب والاستنكار والإدانة، وهو السلاح الفاتر الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وكان التصرف الشعبي وتصرف المنظمات الإسلامية أكثر رُقياً واستشعاراً للمسئولية من التصرّف الرسمي الغائب تماما عن المشهد.
فعلى الرغم من تدخل بعض المنظمات الإسلامية التي اتخذت قرارها بجمع مساعدات مالية لهم وتوصيلها داخل بورما وعلى حدودها إلا أن المجتمع الغربي لم يتركها تعمل هذا العمل الإنساني.
وكانت مؤسسة النجدة العالمية في أمريكا وهي من المؤسسات الإغاثية الإسلامية قد بدأت في إيصال المساعدات لهم إلا أن تلك المؤسسة قد أُغلقت وجُمدت حساباتها من قبل الإدارة الأمريكية للرئيس جورج بوش بعد الحادي عشر من سبتمبر، ولم تتبن قضيتهم بعد ذلك مؤسسة إغاثية بمثل ما كانت تقدمه مؤسسة النجدة.
مشاهد مفزعة ومتكررة تدمي القلوب:
ما أصعب أن يعيش الإنسان وهو مختبئ داخل جدران بيت متهالك لا يقي حرّ صيف ولا برد شتاء ويفقد فيه الأمن أيضاً وخاصة عندما تجوب مجموعات بوذية مسلحة بالسكاكين وعصي الخيزران المسنونة العديد من مناطق وبلدات ولاية أراكان لتقتل كل من يواجهها من المسلمين وتحرق وتدمِّر مئات المنازل.
وما أصعب أن تستنجد فتاة مسلمة من بورما تدرس بالأزهر لتحكي ما يحدث لأخواتها، فتقول الفتاة المسلمة عائشة صلحي التي تدرس الشريعة في مصر: "منذ أيام اتصلت بأهلها فأبلغوها أنهم هربوا إلى بنجلاديش بعد أن هدم البوذيون منزلهم وقتلوا بعض أفراد العائلة وأن صديقتها المقربة راحت ضحية هذه المجازر البشعة"، وتحدثت عن حالات الاغتصاب المتكررة للمسلمات هناك فتقول "ابنة خالتي ظل الجيش يغتصبها لمدة ثلاثة أعوام وأنجبت طفلين لا تعرف أباً لهما"!
فهل بعد هذا من خزي وعار يلاحقنا نحن -الآمنين- في بيوتنا ومساجدنا ونحن نترقب دخول شهر رمضان؟ وهل يطيب لنا عيش وإخواننا يقاسون ألوان المهانة؟!!
موقف بنجلاديش:
على الرغم من تفهم الجميع لإمكانيات بنجلاديش الاقتصادية وأنها لا تستطيع أن تتحمل كل هذه الأعداد من النازحين إليها، إلا أن هذا لا يبرر ما تقوم به من تعذيب وإهانة أبناء بورما النازحين إليها، فتلقيهم في معسكرات لا تصلح للحياة بل هم فيها إلى الموت اقرب منهم للحياة في إقامة غير آدمية لمن سمح لهم الإقامة فيها، ويُقيم أبناء بورما في مخيمات تخضع للأمم المتحدة لتضم أكثر من 25000 لاجئ رسمي بينما تؤكد بنجلاديش ما بين 200000 إلى 300000 لاجئ غير رسمي لا يحمِلون أية وثائق رسمية، وفي تقرير حقوقي أعدّه مجموعة من اللاجئين المسلمين في بنجلاديش حول وضع المخيمات واللاجئين، أظهرت الأرقام أن عدد اللاجئين البرماويين المسلمين في بنجلاديش تجاوز 700 ألف لاجئ، والمسجل منهم لدى وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة 30 ألف لاجئ فقط، وهم داخل بنجلاديش يعيشون بلا أية حقوق قانونية خارج المخيمات، ويساعدهم أهل بنجلاديش المسلمون في حصولهم على قوتهم الضروري في بلد يعاني أكثر أهله من الفقر والحاجة.
ومن المخزي أن تقف الحكومة في بنجلاديش وتقوم بعرقلة وصول المعونة والإغاثة الإنسانية الدولية إلى هذه الفئة من اللاجئين غير المسجلين وخاصة بعد أن اعتقلت أربعة موظفين بنجلاديشين من منظمة إنسانية دولية بتهمة تقديم المساعدة إلى اللاجئين غير المسجلين مما اضطر عدة منظمات إسلامية مثل منظمة الإغاثة الإسلامية البريطانية لإيقاف عملياتها الإنسانية هناك منذ عام 2010م.
وينبغي على الحكومات المسلمة أن تسير في اتجاهين متوازيين الطريق الرسمي الدبلوماسي بالضغط على حكومة بورما بكل الوسائل الدبلوماسية المتاحة لإنقاذ المسلمين هناك وفي المسار الثاني بتقديم الدعم لهؤلاء النازحين لتحسين أوضاعهم داخل بنجلاديش ومحاولة الوصول لمسلمي بورما وتقديم المساعدات الإنسانية لهم وخاصة بعد ورود تقارير تفيد بأن "عشرات الآلاف من اللاجئين البورميين لا يستطيعون الحصول على المعونات الغذائية، وأن 25% من الأطفال يعانون من حالات سوء التغذية الحادة، وأن 55% من الأطفال ما بين 6- 59 شهراً يعانون الإسهال، وأن 95% من اللاجئين يقترضون ويتسولون ليأكلوا".
ويتبقى بعد ذلك السؤال الأهم:
هل ستعاود الحكومات المسلمة اتخاذ نفس رد الفعل، أم سيكون لها موقف أكثر قوة وإيجابية في التعاطي مع مشكلة قديمة وأزلية قبل أن يقف كل مسئول بين يدي الله ليسأله عن عمله وعن نصرته لإخوة مسلمين يستنجدون به في عالم يتحزب فيه كل أبناء ديانة ويدافعون عن إخوانهم في العقيدة...إلا المسلمون؟
يحيى البوليني