الكنيسة والتأسيسية
عبد المنعم الشحات
أحسب أن الفرصة في هذه التأسيسية لغير الإسلاميين كانت أكبر مما يحلمون، حيث سيطر التوافق عليها تشكيلاً وصياغة، وأنها متى أبطلت أو عطلت فلن نرضى إلا بتأسيسية منتخبة انتخابًا مباشرًا من الشعب، وكل فريق يقدم رؤيته للشعب..
- التصنيفات: اليهودية والنصرانية - مذاهب باطلة - قضايا إسلامية معاصرة -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد استبشر جميع المصريين بعهد جديد بعد ثورة (الخامس والعشرين من يناير)، وقدَّر الله أن يتزامن هذا مع وفاة البابا (شنودة) بابا الكنيسة السابق، وأجريت إجراءات اختيار خليفته، وأسفرت عن اختيار الأنبا (تاضروس) والذي بدأ يعلن عن بعض توجهاته -وإن لم يكن قد تم تنصيبه كنسيًّا-.
تحدث الرجل فكان حديثه إيجابيًّا في مواطن، منها: أنه أعلن أنه لا يقبل التطبيع الشعبي مع إسرائيل وزيارة القدس، وأنه سوف يستمر على نهج سلفه في المنع من ذلك، كما أنه ظهر في حوار تليفزيوني مع إحدى مقدمات البرامج، والتي حاولت أن تستدرجه إلى مربع التأجيج الطائفي فكان هادئًا وموضوعيًّا إلى حد كبير.
وكان من أبرز ما أعلنه: أنه سوف يعيد الكنيسة إلى دورها الروحي، وسوف ينأى بها عن الدخول في معترك السياسة، وهو ما لاقى ارتياحًا لدى المسلمين وكثير من النصارى، وهو في نفس الوقت عودة إلى تعاليمه التي يؤمن بها ذاتها والتي على رأسها: "أعط ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، وهو ما يعنى ترك أمر الدولة لمن يحكمها.
ومن المفيد هنا أن نوضح: أن هذه الجزئية تمثِّل أحد أهم الاختلافات بين الدين الإسلامي وبين الدين النصراني، وذلك أن في الإسلام: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه} [المائدة: 49]، وفيه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، وعدم إدراك هذا الفرق بين دين الإسلام وبين الدين النصراني يؤدي في هذه الجزئية إلى التباس كثير من المواقف، فحينما نقول: إن إعلان البابا الجديد أنه لن يقحم الكنيسة في السياسة أنه تطبيق لما يؤمن به، لا يلزم منه بأي صورة من الصور أن يكون هذا هو ما نؤمن به.
ومما يعضد هذا لدى الكنيسة: أن الديانة النصرانية تُلزم أتباعها بعقائد محددة وكذلك طقوس عبادية، ولا تلزم أتباعها بتشريعات تفصيلية إلا في الأحوال الشخصية، ورسالة الكنيسة هي الحفاظ على هذه الأمور، وما عدا ذلك فهو متروك للدولة التي يعيشون فيها.
ومع هذا فإن الدولة الرومانية التي حكمت مصر قبل الإسلام لم تترك نصارى مصر، بل تدخلت حتى في عقائدهم -كما هو معلوم من التاريخ- ومن ثَمَّ حدثت مآسٍ يندى لها الجبين في محاولة فرض المذهب الكاثوليكي على أرثوذكس مصر، فلما فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر، وأعاد الراهب (بنيامين) إلى تولي شؤون طائفته وجد النصارى في دولة الإسلام أمرين لم يجدوهما في غيره..
الأول: (هو تركهم وشؤونهم عقيدة وعبادة وما يخصهم في أحوالهم الشخصية) أي كل ما يلزم النصراني في دينه وكل ما تسعى الكنيسة إلى الحفاظ عليه.
الثاني: (أن الشريعة الإسلامية التي تنظم سائر شؤون الحياة) وإن كانت من حيث الأساس الديني النصراني لا تعدو أن تكون شريعة الدولة التي أمروا بالتسليم لها، لكنهم وجدوا فيها من العدل والشمول ما لم يجدوه في غيرها.
ولكبار النصارى شهادات في ذلك، نقتصر منها على شهادة البابا شنودة بابا الكنيسة السابق، حيث قال في تصريح له نشرته صحيفة (الأهرام) في 6-3-1985: "إن الأقباط في ظل حكم الشريعة يكونون أسعد حالاً وأكثر أمنًا، ولقد كانوا كذلك في الماضي حينما كان حكم الشريعة هو السائد، نحن نتوق إلى أن نعيش في ظل (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، إن مصر تجلب القوانين من الخارج وتطبقها علينا، ونحن ليس عندنا ما في الإسلام من قوانين مفصلة؛ فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة ولا نرضى بقوانين الإسلام؟!".
وهذا الكلام موثق صوتًا وصورة في مقطع فيديو في إحدى جلسات مجلس الشعب، الذي ناقش قضية تطبيق الشريعة، وقال فيها كلامًا قريبًا من هذا، وهذا الكلام -كما ترى- كلامًا دينيًّا محضًا يبين الموقف الديني للكنيسة من تطبيق الشريعة.
ودارت الأيام ووجدت الكنيسة نفسها غارقة حتى أذنيها في السياسة؛ وذلك لأن المستبدين يدركون تمامًا أن حكمهم غير مرغوب فيه، ومن ثَمَّ يحاولون الاستقواء ببعض الأقليات ليكونوا سلاحهم ضد الأغلبية، ولما كانت الأقلية النصرانية القبطية لا ينطبق عليها وصف الأقلية إلا بالاعتبار العددي، فقد اخترعت الأنظمة ما أسمته بالفتنة الطائفية واستثمرت أحداثًا فردية، وعندما عجزت افتعلت أحداثًا من عند نفسها -وما حادثة كنيسة القديسين منا ببعيد!-.
ووجد البابا نفسه مدفوعًا إلى خلع عباءة الزعيم الديني، ليرتدي بدلاً منها عباءة زعيم الطائفة، وهو ما دفع الكنيسة إلى تأييد المستبدين، وهو ما اعتذر عنه الأنبا تاضروس بأنه لم يكن ثَمَّ خيارات أخرى.
ولا شك أن الاستبداد الذي تترس بدروع كثيرة منها: (الفتنة الطائفية) لم تقتصر آثاره على المسلمين فقط، فضياع الكرامة الإنسانية وانهيار المستوى التعليمي والصحي والأخلاقي، أمر عانى منه المسلمون والنصارى على حد سواء، بل تضرر النصارى أكثر من غيرهم، من دفاع البعض عن الخمور والعري، بزعم أن البلاد فيها نصارى؛ مما دفع الأنبا (بيشوي) -رغم مواقفه المتوترة مع المسلمين- إلى أن يعلن أنه يحب أن يرى بنات النصارى محتشمات كما هو حال المسلمات، وهو أمر أثار عليه الكثير من اللغط، والمبيدات المسرطنة أصابت أكباد جميع المصريين، والبطالة شملت جميع الشباب..
والأخطر من هذا: أن الانقسام الطائفي كان قد اقترب من أن يصبح حقيقة واقعة، بعد عمليات الشحن والتعبئة وتصرفات الدولة التي كانت -فيما يبدو- مستمتعة باستمرار هذه الحالة؛ لضمان كتلة تصوتية لا سيما في انتخابات ما بعد (مبارك)، والتي كانوا يخشون على الوريث أن ينتزع منه أحد الرئاسة بطريق الانتخاب.
وذهب حكم مبارك، وضاعت أحلام الوريث سدى، لنجد وريثًا آخر هو (الفريق شفيق) الذي راهن على أصوات النصارى، ولم يتورع عن توظيف الملف الطائفي، وحمدنا الله على عدم نجاحه لأمور من أهمها: إغلاق الدولة المستبدة الحريصة على استمرار الفتنة وإشعالها.
ثم انتهت أزمة الرئاسة، وجاء دور إعداد الدستور، لنجد أنفسنا أمام مطلب فيه نوع من التدلل من قِبَل الكنيسة، وهو المطالبة بالنص الصريح على تحاكم النصارى إلى شرائعهم في أحوالهم الشخصية، رغم أن هذا مقرر في الشريعة الإسلامية -كما سبق بيانه من تصريحات البابا شنودة بابا الكنيسة السابق-.
ورغم أن هذا المطلب مقرر قانونًا بالفعل، ولا يتصور أن يطالب أحد بتغييره؛ إلا أن اللجنة التأسيسية بما فيها من أزهريين وإخوان وسلفيين، وممثلي القوى المدنية وافقوا على إضافة تلك المادة، مع الاتفاق على أن المادة الثانية من الدستور تشتمل عليها اشتمال الكل على الجزء.
وبقيت مناقشات بين الإسلاميين وممثلي القوى المدنية حول صياغة المادة الثانية في ذكر كلمة (مبادئ الشريعة الإسلامية) ومطالبة الإسلاميين -لا سيما السلفيين- بحذف كلمة مبادئ لغموض معناها، وتردد الجهات المختلفة في تفسيرها، ورعى الأزهر حوارًا اُقترحت فيه عدد من الحلول، واستقر الأمر على إضافة مادة مفسرة لمبادئ الشريعة، ورغم أن ممثلي الكنيسة في الجمعية التأسيسية قد وافقوا على هذه المادة إلا أننا فوجئنا بمشروع بيان تعلن فيه الكنائس انسحاب ممثليها من التأسيسية!
ونود في هذا المقام أن نؤكد على الآتي:
1- تحكيم الشريعة الإسلامية مطلب شعبي يطالب به معظم المسلمين، بل إن نص المادة الثانية في مسودة دستور 71 كان فيها: "الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، ثم تدخلت لجنة الصياغة لتحذف (الـ) من المصدر الرئيسي، وتضيف مبادئ، فأما (الـ) فتم استردادها سنة 1980، وأما (مبادئ) فكان الواجب حذفها، ولكن استعيض عنه بتفسيرها، ومع ذلك فالكنيسة تحاول جاهدة أن تقف عقبة في طريق الإرادة الشعبية للأغلبية المسلمة.
2- لا يوجد في دين النصارى ما يعارضه -مطلب تحكيم الشريعة- طالما ضمن لهم العقيدة والعبادة والأحوال الشخصية، وموقف آحاد النصارى منه على ثلاثة أقسام:
(أ) قسم محبذ للشريعة الإسلامية، بل ويطالب بتطبيقها حتى في الأحوال الشخصية مثل: (أقباط 38).
(ب) قسم لا يهتم بالقضية طالما كفل له ما يلزمه به دينه.
(ج) قسم معارض لها.
وكل واحد من هؤلاء يبني موقفه على أساس سياسي، لما قدمنا من أن الموقف الديني هو عدم الممانعة، وهذه الآراء السياسية من المفترض أن يعبِّر عنها كل فرد في صندوق الانتخاب، وبوسع الرافض أن يصوِّت على الدستور بـ(لا)، وليس بوسع الكنيسة أن تطالب عموم النصارى بذلك؛ وإلا كان هذا فرضًا لمذهب قياداتها السياسي، وهو ما ينافي تعاليم دينهم وينافي التوجه الذي أعلن الأنبا (تاضروس) أنه يدعمه.
وأما الانسحاب من التأسيسية رغم أنها من مؤسسات الدولة التي يأمر الدين النصراني بطاعتها؛ فلا أدري ما وجه تفسيره دينيًّا..!
3- لم تتدخل الدولة بكل مؤسساتها لتفرض على الكنيسة العودة إلى اجتهادها القديم في مسألة الطلاق، رغم أنه اجتهاد عملت به قيادات كنيسة كبيرة، واعتمدته الدولة بناء على اعتماد الكنيسة له آنذاك، ورغم هذا تحاول الكنيسة الاعتراض على تفسير مبادئ الشريعة الإسلامية، بالتفسير المذكور في المادة المقترحة رغم أنه دون المطلوب إسلاميًّا.
يعني أن: (الأغلبية تركتهم وما يدينون، بينما الأقلية لا تريد أن تترك الأغلبية وما يدينون!).
4- السؤال الذي يطرح نفسه: هل هذا الصنيع من الكنيسة يصب في صالح (المواطنة) التي يتشدق الجميع بها، أم أنه تكريس للطائفية واصطناع مشاكل من العدم؟!
5- من المفترض أن يلتزم الجميع بالآليات التي تم الاتفاق عليها داخل التأسيسية، والتي من المنتظر أن تسفر عن شيء يرضى عنه الشعب ويصوِّت له بـ(نعم)، ومن زعم أن آلية التصويت داخل التأسيسية سوف تنتج ما يرفضه الشعب فليدعو الشعب بالتصويت بـ(لا)، وأما إرهاب أعضاء التأسيسية أن يصوتوا على خلاف ما يعتقدون، ومن ثَمَّ فسوف يلزمهم أن يدعوا الشعب إلى قبوله وإلا وقعوا في التناقض، فأمر لا يقره عقل ولا منطق!
وأخيرًا:
فأحسب أن الفرصة في هذه التأسيسية لغير الإسلاميين كانت أكبر مما يحلمون، حيث سيطر التوافق عليها تشكيلاً وصياغة، وأنها متى أبطلت أو عطلت فلن نرضى إلا بتأسيسية منتخبة انتخابًا مباشرًا من الشعب، وكل فريق يقدم رؤيته للشعب، ومتى دخل التأسيسية فلا يسعه إلا أن يدافع عما أعلنه في برنامجه الانتخابي للتأسيسية.
وأستطيع أن أحلف بالله غير حانثٍ: أن وقتها نستطيع أن نضع دستورًا معبِّرًا تعبيرًا لا مراء فيه عن مرجعية الشريعة، بعيدًا عن المواءمات والتوافقات، وما يمنعنا من المضي قدمًا في هذا الاتجاه، إلا الرغبة في الانتهاء من تشكيل مؤسسات الدولة من إقرار الدستور وانتخاب مجلس الشعب، حتى يؤدي دوره في إنجاز في بحث مشكلات المجتمع، بدلاً من بقاء كل المسؤوليات معلقة برقبة مؤسسة الرئاسة؛ مما يعوق أداءها وينعكس في النهاية بالسلب على مصالح الناس.
6/ محرم/ 1434هـ
19/ نوفمبر/ 2012م