قواعد في التكفير
عبد الرحمن بن فؤاد الجار الله
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
فإنني ومن خلال هذه المواضيع أُسطر هذه القواعد على فهم علماء أهل السنة والجماعة لموضوعٍ مما كثُرَ فيه الخبط والتخليط من قبل فِرَقٍ وطوائف شتى. نسأل الله أن يوفقنا ويسددنا إلى الصواب, ويهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه, إنه جوادٌ كريمٌ.
فمن خلال استقراء أهل العلم في النصوص الشرعية استنبطوا قواعدَ في التكفير, وهي كما يلي:
القاعدة الأولى: أن التكفير حكمٌ شرعي من أحكام الدين له أسبابه وضوابطه وشروطه وموانعه وآثاره ، شأنه في ذلك شأن سائر الأحكام الشرعية.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (17/78): "لأن الكفر حكم شرعي وإنما يثبت بالأدلة الشرعية..."ا.هـ. وقال رحمه الله في رده على البكري (1/381):" فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفّرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله لأنَّ الكذب والزنا حرامٌ لحق الله.
وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله وأيضاً فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها وإلا فليس كلُّ من جهل شيئا من الدين يكفر..."ا.هـ.
ونستنتج من هذه القاعدة نتائج عدة:
1- أنه لا يثبت التكفير على قول إلا بدليل شرعي؛ لأن الكافر هو من كفره الله ورسوله.
2- أنه لا يحكم في التكفير إلا العالم بالأدلة الشرعية.
3- أنه لابد من تعلم أحكامه والتفقه فيه؛ لأنه حكم شرعي؛ ولأن له أهمية كبيرة لارتباطه بكثيرٍ من الأحكام الشرعية, مثاله: النكاح فلكي نقبل بالرجل زوجاً لابد أن يكون مسلماً.
4- أنه لا يصح ولا يجوز مجاوزة الحدِّ الشرعي فيه، لا بالإفراط ولا بالتفريط .
وهناك فرق بين التحذير من التكفير وبين التحذير من الغلو في التكفير ، فالنصوص تحذر من الغلو فيه وليس التحذير منه, ومن تلك النصوص ما رواه البخاري في صحيحه (5698) من طريق أبي معمر عن عبد الوارث عن الحسين عن عبد الله بن بريدة قال حدثني يحيى بن يعمر أن أبا الأسود الديلي حدثه عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ».
ولذا قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله في إحكام الأحكام (4/76): "وهذا وعيدٌ عظيمٌ لمن كفَّر أحداً من المسلمين وليس كذلك وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث لمَّا اختلفوا في العقائد فغلظوا على مخالفيهم وحكموا بكفرهم وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية وهذا الوعيد لاحق بهم إذا لم يكن خصومهم كذلك..."ا.هـ.
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله في السيل الجرار (4/578):" اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن « من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما » هكذا في الصحيح وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما « من دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه » أي: رجع وفي لفظ في الصحيح « فقد كفر أحدهما » ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير..."ا.هـ.
القاعدة الثانية: التفريق بين التكفير المطلق(الأوصاف) والتكفير المعين(الأعيان): وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
وخالفت فرقٌ، فأما الخوارج فأطلقوا التكفير وأما المرجئة فمنعوا منه فهما مابين طرفيْ نقيضٍ، وكذا ما وقع من بعض الأفرادِ من انحراف في هذه القاعدة.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (12/501):" فليس لأحدٍ أن يُكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلِط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة. ومن ثبت إيمانه بيقين لم يَزُلْ ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة"ا.هـ.
وقال رحمه الله في مجموع الفتاوى (35/99): "لكنَّ تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين فإن بعض العلماء قد يتكلم في مسألة باجتهاده فيخطئ فيها فلا يُكفر وإن كان قد يُكفر من قال ذلك القول إذا قامت عليه الحجة المكفرة..."ا.هـ.
وقال رحمه الله في مجموع الفتاوى (3/230):" وكنت أُبين لهم أنما نُقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حقٌ, لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة (الوعيد)..."ا.هـ.
القاعدة الثالثة: الضوابط في تكفير المعين واجبةٌ في المقدور عليه, ولا تجب في الممتنع ولا المحارب، أي: لابد أنْ نفرق بين أمرين: بين الحكم بتكفير المعين وبين إقامة أحكام الردة على ذلك المعين، فلا يلزم من عدم إقامة أحكام الردة عدم تكفير المعين. مثال ذلك من الواقع: من انتسب إلى الإسلام ولكن ثبت يقيناً أنه كافر وهو غير مقدور عليه، أي: غيرُ مقدورٍ على إقامة الأحكام الشرعية المترتبة عليه، فلا يلزم من ذلك عدم تكفيره.
وأما المحارب ففرقٌُ بين أن يغزوا المسلمون بلده فهذا تُبَلَّغُ له الحجة؛ لأن القصد من الجهاد تبليغُ الدين، وأما إنْ غزا المحارب بلاد المسلمين فلا تجب إقامة الحجة عليه بل الواجب دفعه إجماعاً كما نقله غير واحد من أهل العلم وهذا في جهاد الدفع.
القاعدة الرابعة: التوقف في عدم تكفير المعيّن -حتى تتوفر الشروط وتنتفي الموانع- إنما يكون ذلك فيمن ثبت إسلامه بيقينٍ أو جُهِل حاله، وأما من ثبت كفره فلا يتوقف فيه.
القاعدة الخامسة: التوقف في تكفير المعين يكون في الأشياء التي قد يخفى دليلها.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم: "إن الذين توقفوا في تكفير المعين في الأشياء التي قد يخفى دليلها، فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة. وأما ما عُلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء به، وخالفه -المعيّن- فهذا يكفر بمجرد ذلك ولا يحتاج إلى تعريف سواء بالأصول أو الفروع ما لم يكن حديث عهد بالإسلام"ا.هـ .
أي: أنَّ شرط توفر الشروط وانتقاء الموانع ليس مطلقاً بل هو في المسائل التي يخفى علمها على مثل ذلك المعيَّن؛ لأن ما يُعلم بالضرورة أمرٌ نسبي, كما قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (13/118):" فكون الشيء معلوماً من الدين ضرورة أمرٌ إضافي فحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية فضلاً عن كونه يعلمه بالضرورة وكثيرٌ من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي سجد للسهو وقضى بالدية على العاقلة وقضى أنَّ الولد للفراش وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة وأكثر الناس لا يعلمه البتة"ا.هـ.
وقال رحمه الله في درء التعارض (3/304): "وكذلك كون العلم ضرورياً ونظرياً والاعتقاد قطعياً وظنياً أمورٌ نسبية فقد يكون الشيء قطعياً عند شخصٍ وفي حالٍ وهو عند آخرٍ وفي حالٍ أخرى مجهول فضلاً عن أنْ يكون مظنوناً وقد يكون الشيء ضرورياً لشخصٍ وفي حالٍ ونظرياً لشخصٍ آخرَ وفي حالٍ أخرى"ا.هـ.
فما قد يكون معلوم بالضرورة عند العالم قد لا يكون معلوماً عند طالب العلم, وما قد يكون معلوماً بالضرورة عند طالب العلم قد لا يكون معلوماً عند عامة الناس, وهكذا.
القاعدة السادسة: أحكام الكفر في الدنيا تجُرى على الظاهر. فمن أظهر الكفر -وتوفرت فيه الشروط وانتفت الموانع- فإنه يُكَفَّرُ, وأما عن باطنه فعلمه عند الله تعالى.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصدر: موقع صيد الفوائد