جواسيس في بيوتنا !!
ملفات متنوعة
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
10/4/1426هـ -18/05/2005 م
بينما كانت تستعر الحرب في إقليم ناغورني كراباخ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، ويستحرّ القتل بآلاف المسلمين في الإقليم المذكور، كانت محطّات التلفاز العالميّة تسلّط الضوء على مجموعة حيتان على شاطئ من شواطئ البحار في منطقة ما من العالم تصارع الموت، لينشغل العالم عن الجريمة المروّعة التي ارتكبها الأرمن بحق المسلمين في الإقليم المذكور بتواطؤ من إعلام الغرب الذي أصم آذاننا بحقوق الإنسان والحيوان، وكأن المسألة حين تتعلّق بالمسلمين لا يستحقّ الأمر أن يستيقظ ضمير هذا العالم الآثم على ما يتهدّد وجود المسلمين، على وجه الكرة الأرضيّة !!
وفي مدينة (سربينتشا) البوسنيّة أُبيد أكثر من عشرة آلاف مسلم كانوا تحت حراسة الشرعية الدوليّة براً وجواً، بعيداً عن الضجيج الإعلامي والصخب السياسي، و اغتُصبت أكثر من ستين ألف امرأة مسلمة في إقليم البوسنة بينما حادثة اغتصاب واحدة في مجتمع من المجتمعات الغربية كافية لأن تقوم لها ولا تقعد منظمات حقوق المرأة، ومنظمات حقوق الإنسان، وأجهزة الصحافة والإعلام هناك !!
والتاريخ يعيد نفسه؛ فهناك تماثل واضح بين صفحاته؛ فالخصم هو الخصم والمكان هو المكان، والذرائع هي الذرائع، وكيف يمكن أن ينسى التاريخ المذبحة التي ارتكبها أحفاد هذا الغرب، وكان مسرحها المسجد الأقصى حين قتلت الجيوش الصليبية(492هـ) سبعين ألف مستأمن من المسلمين الأطفال والشيوخ والنساء حتى خاضت الخيول في دماء المستأمنين المسلمين، هؤلاء الذين رفض البابا يوحنا بولس الثاني أن يعتذر عما ارتكب بحقهم! ناهيك عن محاكم التفتيش في الأندلس التي استأصل بها أحفاد الغرب من مملكتي القشتالة والأرغون( فرديناند وإيزابيلا) حضارة أقوام دامت ثمانية قرون هي حضارة الإسلام يوم كانت الأندلس قبلة لطلاب العلم من سائر أنحاء الغرب، والتي يعترف الغرب نفسه بأنها وصمة عارٍ في جبينه وتاريخه؛ بينما سارع البابا إلى كنيس يهوديّ في روما، وقدّم اعتذارًا شفويًا وخطيًا عما ارتكبه أسلافه بحق اليهود في سابقة بابويّة هي الأولى في التاريخ البابويّ !!
إن الإعلام صناعة خطيرة، يجري من خلاله تضليل الرأي العام في العالم عما يجري من جرائم هنا وهناك، ويجري تعليب الأخبار كما تُعلّب المواد الغذائيّة، وتُضاف إليها النكهات التي توهم بصدقيّتها وواقعيّتها؛ فأشهر الوكالات العالمية للأنباء هي الأسوشيتد برس، واليونايتد برس، ورويتر، وفرانس برس، وهي وكالات أنباء غربيّة، ومن المفارقات العجيبة أن حدثاً يجري في بلد عربيّ، ينقله بلد عربيّ آخر مجاور له عن وكالة الأنباء الفرنسيّة، ويُذاع وتتناقله وكالات الأنباء والإذاعات، قبل أن يبادر البلد نفسه بإعلان بيان رسمي بالخبر!!
إنه الاستعمار الإعلامي، وحضارة الوجبات السريعة التي تعتمد على النكهات الخادعة والموادّ الملوّثة الفاسدة، التي تقدّس الكذب والعنف، والغاية فيها تبرر الوسيلة.
استمع لتشرشل كيف يبرر الكذب والخيانة في مبدئهم وطريقة عيشهم: " الحقيقة ثمينة، وللمحافظة عليها لا بد أن نسيّجها بسياج من الأكاذيب"!!
واستزد من جورج أوريل لتتعلم كيف تستطيع أن تنشئ مصنعًا للأكاذيب، وأنت (جنتلمان) مهذب نظيف بعيد عن الشبهة: "إن الروايات عندما تُرَدّدُ نفسَ الشيء بشكل متواتر فإن الكذب يمرّ في التاريخ ويصبح حقيقة".
ولقد أدرك الغرب عامة واليهود خاصة خطورة الإعلام في بناء الرأي العام الذي يريدونه، وتسريب الحقائق المضللة التي يريدونها، فأحكموا سيطرتهم على أجهزة الإعلام المقروءة كالصحف والمجلات، والمسموعة كالإذاعات، والمرئية كالتلفاز والفضائيّات التي جعلت العالم قرية صغيرة مفتوحة، تلاشت فيها الجدران والسُّقف، وأصبحت أمريكا تقود أوسع عمليّات تجسّس في العالم حيث تتنصّت على كل ما يدور في الكرة الأرضيّة عبر مركز تنصّت إلكترونيّ تابع لوكالة الأمن القومي (NSA) كما يتعاون جهاز الاستخبارات الأمريكي (C.I.A) مع جهاز الموساد الإسرائيلي في إطار عمليّة تجسّسية معقّدة فريدة، تعتمد على تفخيخ أجهزة الكمبيوتر المختلفة عن طريق برنامج يُسمّى وعد (Promise) يسمح باختراق بنوك المعلومات في العالم، وأصبح عليك جاسوس في بيتك هو حاسوبك الذي زرعت فيه الشركات العالمية برامج تجسّس، وأصبحت أجهزتنا مفخّخة، ونحن نظن أننا بمأمن وسلام !!
إن التضليل الإعلامي والإرهاب السياسي جزء من الحرب الباردة التي لم تنته بانتهاء الاتحاد السوفييتي، وانتهاء الحرب الباردة على المبدأ الشيوعي، والدول التي كانت تتبناه؛ فانتهت حرب على تلك الجبهة، واستمرّت حرب باردة على جبهة أخرى، ولكن بشكل أكثر ضراوة وتحدّيًا، مع خصم أكثر خطورة، ومبدأ صعب الاختراق والترويض، حرب مقنعة شعارها الحرب على الإرهاب والعنف وحقيقتها الحرب على الإسلام في طول الأرض وعرضها، وهي الحرب الحقيقية والمعركة الحقيقية للغرب لتغيير العقول، وحقن الأفكار بالسموم، وعولمة القلوب لتطهيرها من كراهية الغرب وطريقته في العيش ابتداء من الديموقراطيّة والحريّات السياسيّة والشخصيّة، وانتهاء باستمراء الزنا والخنا، والسماح بالإجهاض لتسهيل أمر الزنا، وعدم استهجان زواج المثليّين، والمطالبة بحقوقهم وعدم اضطهادهم، وعدم التعرض لعبدة الشيطان !!
ومن التضليل السياسي الذي تمّت دبلجته وإخفاء معالمه لدى الرأي العام إلى درجة استعصاء كشفه إلا على السياسي الخبير، والضليع المطّلع، والمراقب الذكيّ تسويق "عبد الناصر" على أنه بطل قومي، وأمل الجماهير في الوحدة والحرية, والمناهض للاستعمار الأمريكي، وقد كان عبد الناصر يهاجم أمريكا بشراسة، ويحاربها ويحارب سياساتها في الظاهر بينما في حقيقة الأمر أن ناصر والضباط الأحرار قد جاءت بهم أمريكا، وكان ناصر برتبة رائد، وكان في مطلع الثلاثينيّات من العمر حين قامت ثورة يوليو1952!! وقد أشار السادات في كتابه "البحث عن الذات" عن صلة الضباط الأحرار بـِ( كافري) السفير الأمريكي في القاهرة، واجتماعهم به في اليوم السابق للانقلاب، وقد تآمرت بريطانيا على ناصر في العدوان الثلاثي عام 1956 ومعها إسرائيل وفرنسا، ولم ينقذ ناصر من السقوط سوى الضغوط الأمريكية على إسرائيل بالانسحاب من سيناء، وعلى بريطانيا بإيقاف الهجوم تحت التهديد الأمريكي بإغراق الجنيه الإسترليني، والتسبب في انهيار الاقتصاد البريطاني، ولمّا عاد (إيدن) إلى خزينة الدولة لم يجد فيها سوى ثمانين مليون جنيه إسترليني، فأوقف إيدن الحرب تحت الضغط الأمريكي، واستقال من رئاسة الوزراء، وقبل أن يقدم استقالته في يناير 1957 حرص على أن يقدّم ما وصفه بوصيّته وشهادته الأخيرة في أعقاب كارثة السويس، فقال: "إذا أردنا أن نلعب دوراً مستقلاً في العالم، فعلينا أن نضمن استقلالنا المالي والاقتصادي" !!
وقد جرى تضليل الرأي العام العربي والعالمي، وأُوهم السياسيون البسطاء بأن ضربات حذاء خروشوف في هيئة الأمم المتحدة، وتهديداته هي التي أوقفت حرب السويس، وأخرجت إسرائيل من سيناء لإبعاد الشبهة عن عبد الناصر بالعمالة للأمريكان!!
أما ياسر عرفات الذي اغتالته إسرائيل بعدما استهلكته، وانتهى دوره (وهو الذي أخطأته ماكينة الاغتيال الإسرائيلية دائماً دون رفاقه؛ لأنه كان يتقن اللعب على الحبال، ويجيد التمثيل ويمتلك حاسة شمّ سياسية قويّة، وحدس قويّ للأخطار!)، فقد كانت أجهزة الإعلام الإسرائيلية تسوّقه، وتصمه بالمتطرف والإرهابي كجزء من التضليل السياسي واللعبة السياسيّة؛ إذ كيف سيقدم على ما أقدم عليه، وهو يتسربل بسرابيل الخيانة؟ فلا بد أن يوصف بذلك على عيون الرأي العام الفلسطيني حتى يظهر وطنيًّا ومناضلاً عنيدًا عن حقوق الشعب الفلسطيني !!
وفي مقابلة مع إحدى الصحف الإسرائيليّة، قالت ريموندا الطويل -الإعلاميّة الفلسطينيّة ووالدة سها الطويل أرملة عرفات- ردًا على مزاعم الصحيفة بعدم شعبيّة عرفات لدى الرأي العام الإسرائيلي وكراهيّته له: لماذا يكرهونه؟ لقد منحهم اعترافًا، وأقرّ بشرعية إسرائيل!! وطبعاً ما كان يجدي اعتراف العالم كله بإسرائيل لو لم يعترف بها عرفات رئيس السلطة الفلسطينية وممثل الشعب الفلسطيني صاحب الأرض وولي أمر الضحية!! ولقد صرح أحد أعضاء الوفد الفلسطيني في الوفد المفاوض في محادثات أوسلو في إحدى المرات حين تعقّدت المفاوضات، ووصلت إلى طريق مسدود في لحظة من لحظات الحقيقة: " إنّ ما نقدّمه من تنازلات هنا للإسرائيليين يُعدّ خيانة وطنيّة في نظر شعبنا".
وخلاصة القول: إن التضليل الإعلامي، وهو يصنع الرأي العام يقلب الحقائق، ويزور التاريخ، ويقلب المفاهيم، فيصوّر البطولة خيانة، والخيانة عملاً وطنياً، وتحت وطأة الظروف فإن الناس العاديين يهتفون للخيانة كما كانوا يهتفون للإخلاص والشهادة، وتصبح مسألة الحفاظ على حياة وأمن الإسرائيليين عملاً وطنيًا ليس أنبل ولا أقدس، ولا أرفع ولا أجلّ!! وهنا تصبح عملية كشف الحقائق والثبات على المبادئ في غاية الصعوبة والتعقيد..
ولعل هذه الأيام والظروف الصعبة التي تعيشها أمتنا تكون مرحلة عابرة، وسحابة صيف عما قريب تقشع، ولكن لا بد أن يتسلح خلالها المخلصون بإيمان صادق بثوابتهم، وإخلاص خالص لمبادئهم حتى يوفّقهم الله ويؤيّدهم، ويهيّئ لهم من يشدّ أزرهم؛ وليل الشتاء -على الرغم من طوله وحلكته- لا بد أن يعقبه النهار الذي سيكشف المستور، ويفضح الحقائق، ما لم يكن مدلهمًا غائمًا صاخبًا؛ وعندئذ ستطول رحلتنا مع الصبر الجميل !!
المصدر: موقع الإسلام اليوم - نايف ذوابه