شبح شنودة

يعتبر البابا شنودة بحق أخطر شخصية كنسية مصرية ظهرت خلال تاريخها الطويل، فقد كان ينتمي في شبابه لحركة الأمة القبطية وهي حركة دينية نصرانية شديدة التطرف، وقاد العديد من الخلايا الدينية الحركية من أجل إعلان دولة خاصة بالأقباط في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وأصبح لديه خبرة واسعة بالعمل السري الحركي التنظيمي.

  • التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة - الواقع المعاصر -

 

ملف الأقباط في مصر ملف من أثقل وأعمق وأعقد الملفات التي ورثها النظام المصري الجديد بعد الإطاحة بحكم الطاغية مبارك، فهو ملف مثقل ومتخم بالكثير من المشاهد المأساوية والدرامية، وتغذيه ذاكرة تاريخية مزدحمة بالمواقف السلبية لدى الطرفين.

ومشاهد الفتنة الطائفية من المشاهد العالقة بقوة شبه في الذاكرة المصرية، لا يكاد يخلو منها عصر أو جيل في التاريخ المصري، معظم تلك المشاهد والأمثلة كان في فترات ضعف النظام الحاكم في مصر، واهتزاز بنيانه السياسي، وتوتر نسيجه الاجتماعي، كما هو حادث اليوم في مصر، من أثر طول الفترة الانتقالية واتساع مداها الزمني بسبب كثرة المشاحنات والتجاذبات السياسية بين الأغلبية الإسلامية والأقلية العلمانية.

الكنيسة المصرية كنيسة ذات وضعية خاصة فهي تملك السيادة الروحية على ملايين الأقباط ليس في مصر وحدها، بل في العالم بأسره، فهي رأس المذهب الأرثوذكسي المرقسي، وكلمة "أرثوذكس" كلمة لاتينية معناها: "صحيح العقيدة" أو "مذهب الحق".

وقد انقسمت الكنيسة الأرثوذكسية في أعقاب مجمع القسطنطينية الخامس 879م إلى قسمين كبيرين (الكنيسة المصرية أوالمرقسية وكنيسة القسطنطينية، المسماة بالرومية)، ويطلق عليها اسم الكنيسة القديمة، أو زعيمة الكنائس الخمس، وهذه الوضعية الخاصة جعلت من الكنيسة المصرية بؤرة اهتمام عالمية تؤثر وتتأثر بالأحداث الجارية داخليًّا وخارجيًّا.

وكي ما تحافظ على مكانتها الروحية وهيبتها الدينية اتبعت الكنيسة المصرية خطًّا ثابتًا وهو الابتعاد عن الشئون السياسية وتحريم الاشتغال بها، والتزمت قيادات الكنيسة هذا الخط الهادئ على الدوام حتى سنة 1971، وهي السنة التي تولى فيها البابا شنودة ومع رئاسته للكنيسة المصرية دخلت مصر والأقباط عهدًا مغايرًا في العلاقة بين عنصري المجتمع المصري -المسلمين والنصارى- وتفجرت الفتن الطائفية الواحدة تلو الأخرى، وتضخم هذا الملف وكثرت تداعياته، وذلك لسبب مشترك بين القيادة الكنيسة التي انتهجت سبيل التصعيد والقيادة المصرية التي آثرت الصمت وغض الطرف والسكوت على هذا التصعيد.

يعتبر البابا شنودة بحق أخطر شخصية كنسية مصرية ظهرت خلال تاريخها الطويل، فقد كان ينتمي في شبابه لحركة الأمة القبطية وهي حركة دينية نصرانية شديدة التطرف، وقاد العديد من الخلايا الدينية الحركية من أجل إعلان دولة خاصة بالأقباط في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وأصبح لديه خبرة واسعة بالعمل السري الحركي التنظيمي.

وبتولِّي شنودة رئاسة الكنيسة المصرية نقل هذه الخبرة التنظيمية الحركية الصدامية الانعزالية الاستقلالية للكنيسة، وقرر الدخول في صدام مع النظام المصري الذي كان يستعد وقتها للحرب مع الصهاينة، ليختبر مدى صلابة وحسم النظام المصري في التعاطي مع هذه الاستفزازات، فافتعل أزمة الخانكة سنة 1972، فقابل الرئيس المصري وقتها "السادات" المسألة بحزم وتعقل؛ إذ ندب مجموعة من المستشارين والخبراء لبحث أبعاد الأزمة بصورة قانونية، وأظهر أنه من النوع الذي لا يقبل أبدًا أمثال هذه الممارسات السلطوية الإقصائية من جانب شنودة، فارتدع شنودة حينًا من الدهر، ودخلت مصر الحرب، ولم تصبح الأجواء ممهدة لتمرير خطط شنودة وخطواته التصعيدية.

وظل شنودة متربصًا حينًا من الدهر حتى سنة 1981 ، والصراع السياسي على أشده في مصر بسبب اتفاقية السلام مع الصهاينة، فاستغل شنودة الحدث وكانت أزمة الزاوية الحمراء، فلم يقابلها السادات هذه المرة بالقانون أو بالتصبر، إنما سارع بعزل شنودة من منصبه، واعتقله في دير الأنبا بيشوي، وعيَّن مكانه الأنبا "متى المسكين"، واغتيل السادات، وجاء مبارك مكانه، فأبقى شنودة بالدير رهن الإقامة الجبرية حتى سنة 1985 ثم أطلق سراحه بعد تعهدات بالهدوء وترك الاشتغال بالسياسة، وظل شنودة محتفظًا بهدوئه يراقب الأحداث فترة طويلة استغلها في بناء نفوذه داخل الكنيسة وتمديد نطاق هذا النفوذ بين أقباط المهجر، وتصفية معارضيه وأولهم أستاذه "متى المسكين" حتى بلغ عدد من طردهم من الرهبنة 300 راهب تم شلحهم في عهد شنودة وحده.

أيضًا انشغل شنودة في هذه الفترة في تطوير دور الكنيسة، وتحويلها إلى أشبه ما يكون بالتنظيم الجماعي المنغلق، له قيادة وتسلسل هرمي و أصبح الكهنة والقساوسة هم رؤوس هذا التنظيم الذي تغلغل في أماكن وتجمعات النصارى في كل حي وقرية ومدينة مصرية حيث يعيش النصارى، فالأقباط وتنظيمهم الكنسي حريص على الوجود في جميع المدن وما من تجمع للنصارى في مكان حتى ولو كان فردين إلا وحرصت الكنيسة على وجودها مع هذين الفردين وفي المدن الجديدة تحرص الكنيسة على الوجود وبناء الكنائس وبالتدريج سيطر هذا التنظيم على الساحة السياسية القبطية التي كانت تعج في السابق بالشيوعيين والناصريين والوفديين وغيرها من التوجهات السياسية وأصبح ولاء غالبية الأقباط للكنيسة.

وفي سنة 1998 كانت فاتحة الشرور على مصر، مع عودة حوادث الفتن الطائفية الكبيرة في قرية الكشح بصعيد مصر، والتي كشفت عن قوة تسليح الأقباط ومدى ارتفاع درجة التثوير والتحريض عندهم، وكان الواجب على النظام المصري وقتها وأد هذه البادرة من جانب شنودة ومواجهة الحدث بمسئولية وحزم، ولكن مبارك كان له حسابات أخرى.

ففي نفس السنة كان مبارك قد أطلق مشروعه الخاص بالتوريث، وبدأ يبحث عن التأييد الداخلي والخارجي لفكرة وراثة ابنه جمال للحكم بعد رحيله، فآثر مبارك السكوت وغض الطرف عن استفزازات الأقباط، فقرر شنودة نقل خططه للمستوى الآخر، وارتفعت وتيرة عمليات الفتن الطائفية، وقابلها مبارك بالصمت والإذعان والإعراض والتظاهر بالحيادية، وفي كل أزمة يحقق شنودة والأقباط مكاسب جديدة، حتى وقعت حادثة وفاء قسطنطين الشهيرة سنة 2006، والتي كشفت عن النفوذ الضخم الذي عليه شنودة، وأنه قد أصبح فوق الدولة وفوق القانون وفوق الشعب، بل وفوق البشر كلهم! مما أعطى حالة التوتر بين المسلمين والأقباط بعدًا ثأريًّا انتقاميًّا عند المصريين الذين شعروا بمدى ذلة وخضوع وضعف رئيسهم أمام سطوة البابا والكنيسة.

واليوم البابا تواضروس الثاني خليفة شنودة يريد أن يلعب نفس الدور الذي لعبه شنودة من قبل، ولكن بوتيرة متسارعة، أحرق بها العديد من المراحل والسنين التي قضاها شنودة قبل أن يصل لهذه الدرجة من النفوذ والتغول السياسي، فهو يريد أن يبني له مجدًا سريعًا داخل الكنيسة يقضي به على خصومه من المتطرفين مثل بيشوي ويوأنس الذين أطيح بهما من سباق الترشح على كرسي البابوية، ويعيد رسم العلاقات بين الكنيسة والنظام.

وصلاً بما سبق واستكمالاً لما بدأه وبناه شنودة، فلم يكد يمضي على ولايته أقل من شهر، حتى أبدى نواياه في السير على خطى شنودة واستحضر شبحه الذي أرق المصريين لسنوات، وإذا بتواضروس حديث العهد بالسياسة يأخذ العديد من الخطوات التصعيدية ضد الثورة المصرية، فقد أمر ممثلي الكنيسة بالانسحاب من التأسيسية لكتابة الدستور، وأعلن عن سبب الانسحاب بصراحة يحسد عليها، وهو بسبب مادة الشريعة الإسلامية، بل وصفها بأنها مادة كارثية في تحدٍّ سافر لم يجرؤ على مثله شنودة نفسه طوال حياته، ثم أجبر سمير مرقص نائب الرئيس مرسي الاستقالة من منصبه، وأمره بالانضمام لجبهة المعارضة العلمانية، ورفض استقبال شيخ الأزهر في إطار مساعي الأخير لرأب الصدع الناشئ بعد الإعلان الدستوري الأخير، كما رفض استقبال مرشد الإخوان كذلك.

وعلى صعيد آخر أمر رهبانه في الفيوم بالاستيلاء على محمية وادي الريان الضخمة -تسعة آلاف فدان- وضمها للدير هناك، وأخيرًا وليس آخر، أمر الأقباط بالاعتصام في التحرير ضد الرئيس مرسي، وأمرهم بمقاطعة الاستفتاء كما هدد بالمشاركة في العصيان المدني.

خطوات تصعيدية خطيرة مكث شنودة سنوات طويلة من أجل أن يقوم بمثلها، يقوم بها تواضروس اليوم وفي غضون أسابيع معدودة، ليؤكد على أن الرجل قد جاء على خلفية معينة ترمي لتنفيذ آخر حلقات المؤامرة التي بدأها شنودة من قبل.

وهذا الأمر يتطلب من النظام الجديد أن يتعامل بحسم وحزم وعقل وروية في آن واحد، فالملف القبطي ملف ملغوم زاخر بالأفخاخ، واللاعبون به كثير، والمستغلون له أكثر، فيتعين على النظام المصري أمور منها: منع تكرار ظهور شنودة آخر أشد تطرفًا من شنودة الأول، فالتراخي والصمت إزاء هذه الاستفزازات لن ينتهي إلا مع عزف السلام الجمهوري لدولة جنوب مصر القبطية، كما حدث في السودان.

كما يتعين على النظام عدم تقديم تنازلات مهينة أو غير مبررة أو مجانية للكنيسة ورأسها، وإيجاد صيغة متوازنة بين ضغوط الداخل والخارج بخصوص هذا الملف، وذلك بالسماح للمصريين بالتعبير عن غضبهم الشعبي من هذا التغول الكنسي في شئون البلاد دون اعتداءات على الأنفس والممتلكات.

أيضًا يجب فتح الملف القبطي المثقل بالمشاكل والأزمات، وبحث مطالب الأقباط بحيادية ونزاهة، وإيجاد حلول ناجزة لهذه المشاكل، فليست كل مطالب الأقباط عادلة كما أنها ليست كلها جائرة، ففيها المقبول وفيها المرفوض، وأهم نقطة في التعامل مع تواضروس والكنيسة هو إعمال نصوص القانون وإعلاء كلمته وسيادة نصوصه على الجميع، فلا أحد فوق القانون، ومن أخطأ يحاسب ولو كان رأس الكنيسة نفسه، فلا عصمة ولا حصانة ولا قداسة لأحد، وعندما يشعر الجميع أنهم سواء أمام القانون، لن يكون هناك أي مبرر لتواضروس للتصعيد أو إدعاء المظلومية، واستعداء الغرب بهذه الأمور.

ومن الأمور الهامة جدًّا في مواجهة هذا التصعيد القبطي هو تحجيم دور الكنيسة في الولاية السياسية على الأقباط، بوقف أي محادثات أو مفاوضات حول الملف القبطي مع القيادات الكنسية إلا ما يخص الموقف الديني فقط، فلا يسمح للكنيسة بالتدخل في عملية الترشح للانتخابات، أو تعيين المسئولين والموظفين العموميين.

الرئيس مرسي أمام مفترق طرق تاريخي، إما أن يسلك طريق السادات ويواجه هذا الاستفزاز والتصعيد الكنسي من جانب تواضروس، ويصرف شبح شنودة من الأجواء السياسية المصرية، وإما أن يسلك طريق المخلوع مبارك، ويهادن الكنيسة ويسكت على تجاوزاتها واستفزازاتها باسم الحفاظ على السلام الاجتماعي أو تهدئة الأمور أو الحفاظ على مكتسبات المرحلة، وعدم التورط في مواجهات مع الخارج، إلى آخر هذه المبررات العقيمة التي أورثت البلاد ذلاًّ طويلاً وفتنًا عريضة ودماءً كثيرة وجراحًا لم تندمل ندوبها حتى كتابة هذه السطور، وربنا يستر.


شريف عبد العزيز الزهيري

[email protected]
 

المصدر: مفكرة الإسلام