حوار مع رافضي الدستور

لقد أجبر الشعب المصري من قال: "على جثثنا أن يتم الاستفتاء"، على الرضوخ والرضا بالاحتكام إلى الشعب.


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛


فقد ضرب الشعب المصري مثالاً رائعًا للرقي في الجولة الأولى من الاستفتاء على الدستور، ونحن في انتظار اكتمال الملحمة في محافظات المرحلة الثانية، مما يستوجب معه أن نتوجه بالشكر لهذا الشعب المصري الذي استجاب لجهود بذلناها على كل الأصعدة؛ لنصل إلى تلك المحطة الحاسمة التي سيقول الشعب فيها كلمته.

لقد أجبر الشعب المصري من قال: "على جثثنا أن يتم الاستفتاء"، على الرضوخ والرضا بالاحتكام إلى الشعب.
هذا الشعب -الذي وصفه مَن وصفه بأن نصفه أميون يجب ألا يؤخذ رأيهم في الاستفتاء، والنصف الثاني يبيع ضميره من أجل زجاجة زيت وكيس سكر- إذا تجولت بين تجمعاته الشبابية والريفية والعمالية فسوف تجد حوارًا سلميًّا هادئًا حول مزايا وعيوب كل اختيار سواء كان (نعم) أم (لا).

ونحن إذ ندعو جميع المصريين إلى التصويت بـ(نعم) نساهم في هذا الحوار المجتمعي بتلك الأسئلة التي نرجو أن تكون حاضرة في كل حوار بيْن مؤيدي (نعم) ومؤيدي (لا)، وبداية نشير إلى أن من يرفض الدستور قد بنى موقفه إما لرفضه أحد القضايا الكلية في الدستور، وإما أنه رافض لصياغة بعض المواد اعتقادًا منه أنها لا تفي بالمطلوب.

الرافضون للدستور من أجل اختلافهم معه في قضايا جوهرية:


1- من يعترض على مواد الهوية الإسلامية مثل: بعض النصارى والعلمانيين كما صرحت الكنيسة باعتراضها على المسحة الإسلامية الزائدة عن الحد من وجهة نظرهم وهي المتمثلة في المادة (4) الخاصة بالأزهر، والمادة (219) الخاصة بتفسير مبادئ الشريعة الإسلامية مع أن الدستور الجديد قد استحدث مادة خاصة بتحاكم النصارى واليهود إلى شرائعهم! ومن هؤلاء من يطالب بإقامة دور عبادة لغير الأديان السماوية مثل د. (البرادعي) الذي عدَّ هذا أبشع أخطاء الدستور من وجهة نظره، وطالب بحرية إقامة المعابد البوذية والمحافل البهائية!

2- من يعترض على مادة (العزل السياسي) مع أنها اكتفت بعزل كبار رموز الحزب الوطني المنحل وفتحت الباب أمام الباقي ليدخلوا باب العمل السياسي على أرضية شعبية نظيفة؛ فماذا كان يمكن أن يُفعل أكثر من هذا؟! ومِن ثَمَّ فإن المتضررين من هذه المادة وأنصارهم سوف يرفضون الدستور ولو كانت بقية مواده بالنسبة لهم مثالية!

3- من يصور الأمر على أنه صراع بين الجيش والشعب زاعمًا أن الدستور انحاز إلى الجيش رغم ما تضمنه من مناقشة ميزانيته -بما لا يخل بالأمن القومي المصري-، وما تضمنه من عدم السماح بمحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية إلا في الجرائم التي تعود بالضرر على القوات المسلحة.

وربما ظن بعضهم أن الأمر جلل لمجرد اشتراط الدستور كون وزير الدفاع من أبناء المؤسسة العسكرية، متناسيًا أن هذا الأمر من أسس الجيش المصري، ولم يسبب يومًا ما أزمة لأحد فضلاً عن أن تغييره ونحن في أول سلم التحول الديمقراطي في غاية الخطورة.

الرافضون للدستور من أجل اختلافهم معه في قضايا تفصيلية:

ومعظم هؤلاء هم في حقيقة أمرهم ممن يختلفون مع الدستور في بعض اتجاهاته الكلية، ولكنهم رأوا أن مجموع المعترضين على النقاط السابق ذكرها لن يرقى إلى الأغلبية، بل ولن يكون أقلية مؤثرة فبحث عن تفاصيل هي في واقع الأمر لا ترقى لرفض دستور لبلد تعاني فراغًا دستوريًّا وشللاً مؤسسيًّا، لا نملك معه رفاهية الجدال في هذه الفروع؛ لا سيما والإعلان الدستوري الصادر في (30-3-2011) قد ضرب آجالاً لإعداد الدستور تم استنفاذها جميعًا، وهذا ما يدفعنا إلى أن نطرح على كل مطلع على كلامهم هذه الأسئلة:

س: هل الدستور موضع للأمور التفصيلية أم أنه ينص على القواعد الإجمالية؟
ج: الدستور يذكر القواعد الكلية ويترك التفصيل للقوانين، لا سيما وأن التفاصيل مرشحة للتغير بدرجة أعلى من الكليات؛ ولذلك جُعل الدستور للكليات، والقانون للجزئيات.

ويبقى أن تسأل نفسك هذا السؤال:
س: هل توجد قاعدة كلية في الدستور لم تعجبك؟
ج: باستثناء ما ذكرناه في أول المقال فلا نكاد نجد أحدًا يتكلم عن قاعدة كلية.

س: من سيضع هذه القوانين؟


ج: إن القانون سيكتب بواسطة نواب الشعب المنتخبين، وهم بحكم ذلك سوف يلبون طلبات الشعب وإلا فسوف يسقطهم، وهذه قاعدة عامة سواء كانت الأغلبية من الإسلاميين أو من غيرهم، وإذا كان البعض يتصور أن الشعب سوف يختار نوابًا له يتواطئون عليه فخير له ألا يتحدث في دستور ولا قانون أصلاً وليتركنا نعيش في فوضى -البعض يريدها بالفعل كذلك-.

لا بد لنا من الثقة في قدرتنا على الاختيار والثقة في قدرتنا على تصحيح الاختيار، وأما إيقاف عجلة المجتمع خوفًا من وهم يتوهمه بعضهم ودون أن يقدم حلاً للخروج من هذه الأوهام فأمر غير مستساغ بأي حال من الأحوال.

س: هل عرفت معنى ومغزى عبارة (وينظمه القانون) التي تُكرر في كل الدساتير كثيرًا؟
ج: هي باختصار تعني أن الجمعية التأسيسية ومِن بعدها المصوتين على الدستور بنعم قد قرروا القاعدة العامة، وتركوا كامل الحرية لنواب الشعب للحوار والنقاش والدراسة والتوافق حول التفاصيل.

مثال: قرر الدستور قاعدة عامة وهي: "لا يجوز محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية إلا في الجرائم التي تعود بالضرر على القوات المسلحة، وترك للقانون تفصيل هذه الجرائم"؛ وهو بذلك قد أغلق الباب تمامًا أمام البرلمان في تشريع قوانين تسمح بمحاكمة المعارضين أمام القضاء العسكري -الذي كان من أبرز انحرافات العهد السابق في هذه القضية- وترك للمجتمع والبرلمان فرصة للنقاش حول طبيعة الجرائم التي تمثِّل ضررًا على القوات المسلحة.

ومن تابع مناقشات الجمعية التأسيسية يجد أن البعض طالب بذكر المواقع العسكرية والبعض طالب بإضافة المصانع الحربية، وطالب آخرون بالتفرقة بين المصانع الحربية التي تنتج معدات عسكرية وبين المصانع الحربية التي تنتج منتجات غير عسكرية، ومِن ثَمَّ تم الاتفاق على ذكر القاعدة المجملة وترك هذه المناقشة للقانون.

مثال: قرر الدستور قاعدة: "لا يجوز فرض أي عمل جبرًا إلا بمقتضى قانون"؛ من أجل المحافظة على دستورية قانون التجنيد الإجباري، والواقع أن القانون المصري الحالي لا يفرض عملاً إلا في حالة التجنيد الإجباري، ولا يستطيع أي برلمان قادم أن يقرر أي شيء زائد على ذلك.

س: هل عرفت معنى عبارة (بحكم قضائي)؟


ج: سوف تجد هذه العبارة في بعض الأمور مثل: (لا يجوز إغلاق الصحف والقنوات إلا بحكم قضائي)، وهذا يعني وجود قانون يقر عقوبة الإغلاق -من الوارد ألا يستخدم البرلمان هذا الحق-، ولكن الواقع الحالي أن القانون الحالي يقر هذه العقوبة في حالة التجاوز في حق الأفراد والتشهير بهم بلا بينة.

وبالإضافة لوجود القانون فإن السلطة التنفيذية لا يحق لها أن تطبق هي القانون، وإنما يلجأ المتضرر -ولو كان المتضرر هو الحكومة ذاتها- إلى القضاء ليقضي له بالإغلاق، وحينئذ تُنفذ السلطة التنفيذية هذا الحكم.
وقد طـُبق هذا في حق برنامج الشيخ خالد عبد الله على قناة الناس وهلل له الإعلاميون وقتها كثيرًا؛ فلماذا ينكرونه الآن؟!

وسؤال هام: هل يوجد بالفعل دستور يمكن أن يوافق عليه 80% من المصريين؟


إذا استصحبنا أن أعضاء الحزب الوطني المنحل وكانوا حوالي 2 مليونًا بالإضافة إلى أُسرهم، والنصارى وقد صرحوا أنهم لن يوافقوا على دستور فيه ذكر للشريعة أكثر من المادة الثانية وبذات نصها، ومِن ثَمَّ يعترضون على المادة (4) الخاصة بالأزهر، والمادة (81) الخاصة بضبط الحريات بتقاليد المجتمع، والمادة (219) المفسرة للشريعة الإسلامية.

وهذه المواد تمثِّل الحد الأدنى عند التيارات الإسلامية وكتلتها الانتخابية معروفة، ولا سيما وأن بعض الإسلاميين يعترضون على المشروع الحالي؛ لأنهم يريدون ذكر الشريعة بأوضح مما هو مذكور.

فالمعترضون غير منحصرين في دعاة الدولة المدنية (العالمانية) كما يحلو للبعض أن يصور، ثم إن دعاة الدولة المدنية منقسمون، فالليبراليون لا يريدون ربط الأجور بشيء، بل تركها للعرض والطلب والاشتراكيون يريدون ربط الأجور بالأسعار، والإسلاميون وسط بين هذا وذاك ويريدون ربط الأجر بالإنتاج -والمقصود به هنا تقدير العلاوة السنوية-.

وعلى صعيد آخر يريد الإسلاميون النص على أن مصر جزء من الأمة العربية والإسلامية كما هو في المشروع الحالي، والقوميون يريدونها جزءًا من الأمة العربية فقط، والليبراليون وكثير من النصارى يريدون ذكر مصر دون ذكر لا الانتماء العربي ولا الإسلامي مثل دستور (54)، وبعضهم يريد ذكر الانتماء الأفريقي! إذن فمن الصعب جدًّا أن يوجد دستور يوافق عليه 70% أو 80% من المصريين.

والأكثر من ذلك أن المواد الخلافية في الدستور لو عرضت في استفتاء خاص لما حازت 20%، فمثلاً: ماذا لو عرضت إلغاء مادة العزل في استفتاء؟


الإجابة: سيوافق على ذلك حوالي 20% فقط من مجموع 43% الذين صوتوا بـ(لا) -إذا افترضنا أن النسبة لن تتغير في المرحلة الثانية-؛ لأن باقي من رفض الدستور يوافقون على تلك المادة وإنما رفضوا المشروع من أجل مادة أخرى.

مثال: لو عرضنا إلغاء محاكمة المدني أمام محاكم عسكرية في حالة تضرر القوات المسلحة؟ فلن يوافق على ذلك 57% من الذين قالوا: "نعم"، ولا المنتمين للحزب الوطني ولا معظم اليساريين -الذين ولدت على أيديهم المحاكمات العسكرية أصلاً-، ولن يوافق على ذلك إلا الليبراليون، فإن ادعى مدعٍ أن وجود مشروع دستور يحظى بهذه الدرجة من القبول؛ قلنا له: أخرجه لنا -بارك الله فيك-.

وكيف يمكن لعاقل أن يرفض دستورًا يحافظ على رضا الموافقين وفي ذات الوقت يضيف شرائح من المعترضين حتى ترتفع النسبة إلى 70% أو80%؟! وأما إذا كان سيرضى 43% -إذا افترضنا وجود شيء واحد يرضيهم- عن طريق إسخاط الـ57% فهذا له عنوان واحد وهو (ديكتاتورية الأقلية"(.

ملاحظة:


يدعي البعض أن هذا الدستور كان يمكن أن يصل إلى 75% تقريبًا إذا ما حذفت منه مادة "العزل السياسي" حيث كانت المواجهة حينئذٍ ستنحصر بين أنصار التيار الإسلامي وأنصار التيار العلماني، ومِن ثَمَّ كان هذا الاستفتاء سيكون نسخة من استفتاء 19 مارس، وأما الآن فقد تحالف العالمانيون الثوريون مع الفلول التي قامت الثورة على حزبهم!

وبل ويدعي البعض أن هذه النسبة مرشحة للزيادة لو أن الدستور نص على انتخابات رئاسية مبكرة. ويدعي البعض أنه لو حذفت هاتان المادتان لما وُجد معترض غير الكنيسة -اعتراضًا منها على مواد الهوية-، بل أكثر من هذا توقـُّع أحد الباحثين أن التيار العلماني كان يمكن أن يقنع الكنيسة بالتصويت بالموافقة أو على الأقل يتركها وحيدة، ولكن الجمعية التأسيسية لم ترضَ بتلك المقايضات؛ فالعزل كان مطلبًا ثوريًّا وسُنَّ له قانون إلا أن المحكمة الدستورية قد حكمت بعدم دستوريته مما يعني الحاجة إلى وضع أسس له في الدستور.

وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة معناها مزيد من المراحل الانتقالية وإغفال أصوات الناخبين الذين انتخبوا رئيسًا لمدة أربع سنوات بنص الإعلان الدستوري في "30 مارس -2011".

س: فلنسهل عليهم المسألة ونقول لهم: لماذا لا تُخرجون لنا وثيقة بكل المواد المنتقدة والصياغة التي تتوافق عليها جبهة الإنقاذ الوطني -مثلاً- مع أنها لا تمثل كل المعترضين؛ لنرى البديل السالم من المعارضة الذي يطرحونه؟!


ج: لن تجد إجابة؛ لأن بعض المواد التي ينتقدونها لن يجدوا صياغة أخرى لها أفضل من الموجودة، فعندما ينص الدستور على حق المواطن في التعليم عالي الجودة وأنه مجاني في كل مراحله في كل مؤسسات الدولة، ثم يعترض عليها؛ فهل يمكن لهم أن يصوغوا لنا مادة تجبر المدارس الخاصة أن تكون مجانية؟ -لو افترضنا أن أحدًا طار عقله ففعل هذا- فأفضل أحوال هذا القرار أن سيؤول فور إعداد الدستور إلى إغلاق جميع المدارس الخاصة؛ لأنه لا يتصور أن يستثمر أحد في نشاط مجاني؟!

إذًا فهل سيقترحون علينا مادة تشرح خطة تطوير التعليم مثلاً؟


لا شك أن من يفعل هذا سوف يجعل من نفسه أضحوكة الأولين والآخرين؛ لأن هذا ليس مكانه لا الدستور ولا القانون، وإنما مكانه بيان الحكومة أمام مجلس النواب الذي لن يكون إلا بعد الدستور، وبعض المواد التي يقترحون فيها تعديلاً محددًا سوف تجد أن المقترِح المقدِّم لا يمثِّل إلا فئة محدودة من الناس، مثل: ربط الزيادة السنوية في الأجر بنسبة التضخم في الأسعار وهو حل متى طبق بدون نظام التسعيرة الجبرية لا ينتج عنه إلا زيادة نسبة التضخم وفي غضون أسابيع معدودة من موعد تطبيق الزيادة السنوية، وإذا طبق في ظل نظام التسعيرة الجبرية عاد بنا إلى السوق السوداء والتي لا يقدر عليها أيضًا إلا الأغنياء -والمواد المدعمة مثل: أنابيب البوتاجاز ومع تخصيص مباحث التموين لمراقبتها خير شاهد على ذلك-.

وبعض المواد سوف يجدون أن مقترحاتهم فيها من باب: "فسَّر الماء بعد جهد بالماء"، كمن يريد أن يستبدل كلمة (حد الكفاية) الذي تضمنه الدولة للعاجز عن الكسب ويضع مكانه "الحد الأدنى للأجور" وهو اقتراح وجيه، ولكن نص الدستور الحالي قريب منه ثم إنه أكثر منه مرونة مما يتيح أن يعيد القانون تعريف حد الكفاية بأنه الحد الأدنى للأجر وتنتهي المشكلة.

الخلاصة:


إن إحجام المعترضين عن تقديم مشروع بديل، ثم إحجامهم أن يقدِّموا اقتراحات تعديل على هذا الدستور واكتفائهم بنقد بعض مواده وبطريقة متعسفة يجعلنا نقول: "ما أصعب الفعل وما أسهل الكلام! ما أصعب البناء وأسهل الهدم"!، من المستحيل أن تفعل شيئًا يرضي جميع الناس، ومن الصعب أن تفعل شيئًا يرضي معظم الناس، وهذا الصعب قد حققته الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور.

أخي الكريم:
أمامنا مشروع دستور يمكننا أن نبني عليه مشاريع قوانين تكمله وتفصله، بل إذا اقتضى الأمر أن يتم تغيير في الدستور ذاته فسوف يتم وفق دراسة مجتمعية مستفيضة غير مقيدة بالسقف الزمني الذي وضعه إعلان 30 مارس لكتابة الدستور.

واحذر أن تسقط هذا المشروع لصالح شركاء متشاكسين يمكنهم إذا اجتمعوا على الرفض أن يَظهروا كتلة واحدة ترفض -وربما تهدم أحيانًا- بينما إذا طالبتهم بالبناء اختلف فلوليهم مع ثوريهم وناقض ليبراليهم عالمانيهم فلا يكادون ينتجون في هذا المضمار شيئًا!

اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.