الجعبري.. ضريبة اختيار الطّريق
لا يمكن أن يمرَّ أيّ متابع للشّأن الفلسطيني عن اغتيال القيادي أحمد الجعبري مرور الكرام، ولعل مسيرة حياة هذا الرجل تكتب سيرته أكثر ممّا يكتبها المحلّلون والكتّاب والمتابعون والإعلاميّون، الجعبري رجل بدأ حياته حيث يكون النّضال والمقاومة والجهاد ضدّ الاحتلال..
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
لا يمكن أن يمرَّ أيّ متابع للشّأن الفلسطيني عن اغتيال القيادي أحمد الجعبري مرور الكرام، ولعل مسيرة حياة هذا الرجل تكتب سيرته أكثر ممّا يكتبها المحلّلون والكتّاب والمتابعون والإعلاميّون، الجعبري رجل بدأ حياته حيث يكون النّضال والمقاومة والجهاد ضدّ الاحتلال، مقاتل من مدينة الخليل المحتلّة، ومن أحد عائلاتها العريقة، ينشأ في غزّة هاشم حيث ولد.
بدأ مسيرته في سجون الاحتلال، وخرج ليكمل مشواره في المقاومة، ولم يعتبر أنّ دوره انتهى بعد ثلاثة عشرة عاماً من الاعتقال، ولم يركض لمنصب في السّلطة الوليدة، واهتم بشؤون الأسرى والمعتقلين، وأنشأ مؤسّسة لرعايتهم وأهاليهم، واعتبر قضيّتهم وتحريرهم قضيّته الأولى، واستمرّ في مسيرته متوّجاً إيّاها بأسر الجندي شاليط والاحتفاظ به لسنوات حتّى تمّ له ولإخوانه تحرير مئات الأسرى من سجون الاحتلال، فقلّما تجد رجلاً بدأ مسيرته أسيراً وأنهاها محرِّرَاً لمئات الأسرى.
الجعبري بدأ مسيرته مناضلاً فرداً كأي مجموعة من المناضلين يقاومون الاحتلال، ولكنّه وصل لقناعة مع إخوانه -صلاح شحادة ومحمد ضيف وغيرهم- إلى أنّ زمن العمل الفردي أو بمجموعات متفرّقة لن يصنع المستقبل المأمول، فلسطينيّاً وعربيّاً وإسلاميّاً، ولذلك بدأوا بالعمل على بناء جهاز ( جيش) مقاوم متعدّد الاختصاصات، وقد أظهر عملهم خلال السّنوات الماضيّة بأفضل صوره، فأصبحت عمليّة المقاومة تدار بمنهجيّة علميّة مدروسة، لا تقودها أهواءٌ ولا مزاجٌ ولا أجندات مجهولة، مقاومة تدار باستراتيجية مؤسسة تخضع لها في تقديرها وتقريرها، وهذا ما شهدَ به كبار المحلّلين العسكريين والاستراتيجيين.
علِمَ الجعبري أنّه يختار طريقاً شائكاً، وأنّ نتائج السّير في هذا الطّريق معروفة النّهايات، وأنّ الإصرار على الوقوف في وجه تلك القوى الاستعمارية الكبرى وعملائها في المنطقة له ثمنٌ كبير، وأنّ ذروة سنام هذا الثّمن هي الشّهادة، ولكنّه أَصَرَّ على السّير في تلك الطّريق بالرّغم من رؤيته لمصير من سبقوه ومن رافقوه، ورأيت في وجهه رضىً واضحاً بالقدر، وقناعةً مطلقةً بالمهمّة الّتي يؤدّيها، وإيماناً راسخاً بما يؤمن به من رسالة، وسكينةً واضحةً بلا خوف ولا هلع من القادم المفاجىء، وصرامةً وصلابةً وإصراراً وهو يقتاد شاليط خلال عمليّة التّبادل، وابتسامةً حانيةً على إخوانه الأسرى عندما صعد إلى باص الحرّيّة ليريهم نور حرّيّتهم عبر ابتسامته المتلألئة، ولذلك كان قانعاً مرتاحاً للضّريبة التي سيدفعها لقاء ما أنجز.
تعلن حركة "حماس" دائماً أنّ عملها لا يخضع لأشخاص بل لمؤسّسات، وهي بحق بنت مؤسّسة كان الجعبري أحد رؤوسها، ولعل الجعبري فهم وتشرّب تلك الفكرة "الإخوانيّة" وأدرك أنّ المؤسّسة التي بناها مع إخوانه أصبحت عصيّة على الهدم والتّفكيك، وأنّ هذه المؤسسة لا تنهار بغياب أحد رؤوسها، وكان هذا ظاهراً في تقديره لحالة الخطر التي تحيط به يوم اغتياله، وكأنّه أدرك أنّ شهادته قريبة، وأنّ الكثير مما حلُم به وعمل على بنائه تحقّق ببناء تلك المؤسّسة، وتذخيرها بمئات الخبرات من المحرّرين في عمليّة التّبادل التي أشرف عليها حتّى اللمسات الأخيرة، واختار الذّهاب بما أنجزه بلا " أوسمة" كما قال، ملاقياً ربّه بخير العمل، طالباً جزيل العطاء، مع النبيّين والصّدّيقين والشّهداء.
صلاح حميدة - 2/1/1434 هـ