اللعبة الإعلامية
هل أهل السياسة هم من يقود دفة الإعلام؟ أم أن قادة الإعلام هم من يوجه ويؤثر على قرار أهل السياسة؟ هل وصل الحال بالإعلام إلى أنه صار يمارس الكذب والتضليل حتى على أهل السياسة وأصحاب القرار؟ نعم، لا أستبعد ذلك.
- التصنيفات: الواقع المعاصر - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛
أيها القارئ الكريم،،
لقد شهد العالم الإسلامي فيما مضى حملة تغريب كبيرة لفترة تزيد عن التسعين سنة، فصار ما صار في العالم الإسلامي من انحلال وفساد وبعد عن الدين، ثم ما لبث أن استيقظ الإيمان في قلوب الأمة، فكانت صحوة كبرى شملت العالم بأسره فعاد المسلمون أكثر وعياً لدينهم وأقوى مما كانوا عليه.
وفي تلك الأثناء التي كان يعاني فيها العالم الإسلامي ما يعاني فإننا نجد أن أهل هذا البلد المبارك -بلاد الحرمين حكاماً وعلماءً وشعباً- قد واجهوا تيار التغريب الفكري والانحلال الأخلاقي بقوة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
والعالم الإسلامي الآن يعيش وحدة صحوية إسلامية شملت الكبير الصغير، الغني والفقير، الرجال والنساء، العرب والعجم، بل إن الصحوة قد اجتاحت حتى المجتمعات الغربية. وفي بلاد الحرمين نلاحظ هذه الأيام محاولات جادة في بث الكثير من المغالطات والإرجافات.. ومن ذلك بث شعور أن المجتمع قسمين؛ قسم يريد الدين وقسم آخر لا يهتم بالدين، وذلك من خلال وسائل الإعلام التي يسيطر عليها فئة لا تمثل إلا نفسها ودائما ما نجد بعض الصحفيين يكرس كلمة الإسلاميين ويطلقها على فئة معينة، وكأن هناك في المجتمع من هو غير إسلامي.. وكثيراً ما نجدهم يصادرون صوت ورأي المجتمع ويتكلمون عنه، ويستخدمون أسلوب التعميم في كثير من عباراتهم الصحفية مثل: "المجتمع يرفض مثل هذه التصرفات، أو يقولون أن الهيئة تلاقي تذمراً من كل شرائح المجتمع!!، أو أن المجتمع لا يمانع من الاختلاط!!، أو شيخ يثير حفيظة واستياء السعوديين".
وإني أتعجب!.. عن أي مجتمع يتكلمون؟.. إني ألتفت يمنة ويسرة فلا أرى شيئاً من ذلك، ويا ترى هل القوم يتحدثون عن دراسات وأبحاث؟.. وإذا كان الأمر كذلك فأين هي دراساتهم التي تخولهم أن يطلقوا تلك التعميمات، ولكن لا أظن أنهم يملكون شيئا منها؛ لأن كثيراً منهم لا يفهم معنى كلمة بحث علمي، والمشكلة أنهم لا يزالون يكررون ويكذبون ويشوهون؛ حتى صدّقهم بعض ضحايا الإعلام، وأنا لا أعتب كثيراً على من تأثر بالإعلام.. فهم وقعوا تحت قهر التضليل والخداع..
وأقرب ما أمثل به ضحايا الإعلام في هذا الزمان بضحايا فكر التكفير والتفجير الذين مورس عليه الكبت والكذب والتضليل؛ حتى اقتنعوا أن المجتمع كافر فصدقوا آذانهم، وكذبوا أعينهم، وألغوا عقولهم؛ ففجروا وأفسدوا في الأرض، ولا فرق بين الصورتين فكلاهما إرهاب فكري، ويصدق عليهم قوله سبحانه عن فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54]، لقد ظل فرعون يستغفل قومه ويصدقونه في كل كلمة يقولها تحت إرهاب النار والحديد!! وإلا أي استخفاف أشد من قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} [النازعات: 24]، ورغم ذلك وجد من يصدقه!.. لكن لا عجب!.. فكثيراً ما يستطيع القوي أن يقلب كثيرا من الموازين تحت سلاح التضليل.
أيها القارئ الكريم لقد نقل لنا التاريخ كثيراً من المغالطات والأكاذيب والعبث بالمصطلحات.. فقد كان المحتلون يطلقون اسم الاستعمار، على الاحتلال، ولا نزال نردد هذه الكلمة إلى الآن مستهينين بها، متناسين أن هذه الكلمة ساهمت في طول أمد بقاء المحتلين في البلاد الإسلامية؛ حيث دخل الاحتلال في بعض البلاد الإسلامية بداية بزعم استصلاح الأراضي والإعمار فتلقتهم بعض الشعوب بالترحيب، كما أن المحتلين استطاعوا بهذه الكلمة -الاستعمار- أن يقنعوا شعوبهم بخوض تلك الحروب، وبعد فترة ليست بالقصيرة من الخراب والدمار فهم الناس حقيقة الخداع والتضليل.. ولكن بعد أن دفعوا ثمنها ملايين الضحايا.
وكلنا لا ننسى كذبة الانتداب (الاحتلال) البريطاني لفلسطين التي لا نزال نلوك مرارتها حتى اليوم.. والسؤال يعيد نفسه.. كيف استطاعوا أن يمرّروا تلك المشاريع على الناس؟
والإجابة باختصار: أن الناس قد وقعوا في شراك الكذب التضليل والعبث بالمصطلحات.. والقوي دائما ما ينجح في ذلك مستخدما سلاح الحديد والنار، لكن أشد من سلاح الحديد والنار هو سلاح الإعلام..
فإن كانت طلقة رصاص واحدة تزهق نفساً من النفوس، فإن كلمة تضليل واحدة تبث الهزيمة في آلاف النفوس.. والتاريخ يعيد نفسه، كيف استطاع رؤساء الغرب إقناع شعوبهم بدخول الحروب في العراق وأفغانستان؟ رغم منافاتها للواقع والعقل. والذي حصل أنهم مارسوا الكذب والخداع والتدليس على الشعوب، واستخفوا أقوامهم فأطاعوهم.. ثم اكتشفت الشعوب الخدعة الكبرى.
وها نحن الآن نشهد في المجتمع البريطاني محاكمة لرئيسه الأسبق توني بلير تحت تهمة التضليل والتدليس على شعبه بإدخاله حرب خاسرة، وهذا الخداع هو من أهم أسباب سقوط الجمهوريين في الانتخابات الأمريكية.
لكن!! لا يزال هناك استفهام كبير!! ألا وهو: كيف استطاع أولئك الرؤساء خداع شعوبهم؛ رغم ما تتميز به تلك الشعوب من انفتاح ووعي وحرية؟ والجواب عن ذلك: إنه سلاح الإعلام!!..
إنها الحرب الإعلامية.. إنه سلاح الإعلام الذي بات أشد خطراً في هذا الزمان من أي زمان مضى. إنها لعبة الإعلام التي يجيدها كثير من السياسيين هناك ليوجهوا آراء الشعوب وفق خططهم السياسية.. بل إن الأمر بات أشد خطراً من ذلك. وليس بدعاً من القول أن مافيا الإعلام باتت تشكل خطراً حتى على كبار رؤساء العالم، وصرنا في حيرة من أمرنا أيّهم يحرك الآخر؟ هل أهل السياسة هم من يقود دفة الإعلام؟ أم أن قادة الإعلام هم من يوجه ويؤثر على قرار أهل السياسة؟ هل وصل الحال بالإعلام إلى أنه صار يمارس الكذب والتضليل حتى على أهل السياسة وأصحاب القرار؟ نعم، لا أستبعد ذلك، وقد يبدو الأمر مضحكاً عندما أقول أن بوش ربما كان أحد ضحايا التضليل الإعلامي.
وهناك سؤال آخر مهم وهو: هل يوجد هناك حرية رأي حقيقية في الغرب؟
وللإجابة عن هذا السؤال، لا بد أن نحرر معنى حرية الرأي. فعندما تزيف الوقائع، وتنشر الإشاعات، وتخفى الحقائق، ألن يؤثر ذلك سلباً في رأي الناس؟! عندما يتآمر رؤساء الغرب والإعلام ليمارسوا إرهاب شعوبهم وتخويفهم من أشباح لا وجود لها؛ ليدخلوا حروباً خاسرة دفعوا ثمنها مئات الآلاف من الضحايا ألا يعتبر هذا مصادرة للرأي؟ بلى فهم يمارسون مصادرة الرأي لكنها بطريقة عصرية.
وفي الانتخابات الأمريكية لعب الإعلام لعبته في توجيه أصوات الناخبين، ويا ترى هل الشعب هو الذي رشح باراك أوباما؟.. أم أن الإعلام هو من أراد أوباما فكان ذلك؟ مجرد استفهام!! ومما لا أشك فيه.. أن أقل ما يقال في هذا الموضوع أن الإعلام صار شريكا للسياسيين في الحكم بعد أن كان أداة في يد السياسيين.
لقد طالب الإعلاميون في الغرب بحرية الصحافة فصار لهم حصانة تفوق حصانة السياسيين بعض الأحيان. إن قادة الإعلام وقادة السياسية كل منهما يخطب ود الآخر، وهما شريك في الجريمة، والضحية في ذلك الشعوب التي اغتال الإعلام صوتها، واغتال حكام الغرب حلمها.
ولا أحد ينكر أن هناك مافيا إعلامية تحاول السيطرة على الكثير من وسائل الإعلام العالمية.. وبعضها استطاعت أن تسيطر على مصادر الخبر لفترة من الزمن.. رويترز، فرانس برس وغيرها من وكالات الأخبار العالمية، وكانت هذه الوكالات تمارس التضليل من خلال صياغة الخبر بأسلوب مخادع أحياناً، بل والكذب الصريح أحياناً خرى.. أما الآن فإن إحكام السيطرة على مصادر الخبر بات أشبه بالمستحيل بسبب دخول الشعوب في اللعبة الإعلامية وذلك من خلال الشبكة العنكبوتية.
ولكن بعض الوسائل الإعلامية وخاصة في بلادنا العربية وبالتحديد في (بلد الحرمين) بالذات لا تزال تكابر وتمارس الكذب والتضليل؛ رغم انكشاف كثير من الحقائق على الأنترنت مستخدمين في هذا التضليل أسلحة قذرة، ولأول مرة تدخل في الساحة الإعلامية العالمية فنجدهم يطالبون بحرية الرأي وهم يحجبون الرأي الآخر، بل ويمنعون حتى مجرد الاقتراح أو التفكير بما يخالف رأيهم، ويحرضون الجهات المسئولة، ويحجبون المواقع التي تخالف آراءهم، ويبدو أن لبلدنا هذا خصوصية في كل شيء حتى في معنى حرية الصحافة.
بل من أشد الاستخفاف الذي يستخدمونه، أنهم يضطرون أحيانا إلى نقل الخبر كما هو.. خوفاً من الفضيحة، ولكن يصيغون عنوانا بالخط العريض.. يخالف نص الخبر المكتوب تماماً، و بأسلوب ممجوج يظهر فيه الاستغفال للقارئ، وكأن القارئ لا يفهم. ولست أدري هل القوم وجدوا فينا قدراً كبيراً من البساطة والسذاجة، الأمر الذي جعلهم يعتقدون أن أكاذيبهم ستنطلي علينا بهذه السهولة. إنهم حقاً يهينونا بهذا الكذب المكشوف.
أيها القارئ الكريم: كنت ولا أزال أتجنب كثيراً أن أكتب في أي موضوع يتعلق بالرد على بعض كتاب الصحافة الذين يثيرون بعض الموضوعات الجدلية؛ لقناعة سابقة أننا من الأولى أن نترفع عن الجدال، وخاصة إذا كان خصمك يتصف أحياناً بالكبر والعنت أو الجهل، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقّا» (رواه أبو داود).
ولكن الذي يحصل الآن ليس مجرد جدل في أمور جانبية، بل تجاوز الأمر إلى جدل في بعض مسلمات الناس، وإني أتعجب من جرأة بعضهم على الدين، وعلى مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى نصوص الوحي، وعلى حملة الوحي بصورة لم نعهدها من قبل. وفي ظني أن أولئك الكتاب هم خمسة أصناف، وليس من المناسب أن تفتح معهم مجالاً للنقاش؛ لأسباب مختلفة:
الصنف الأول من الكتاب: هم الكتاب السذّج المغرر بهم، الذين نفخ فيهم أرباب السوء فصاروا يتفوهون بما لا يعقلون، ويهرفون بما لا يعرفون، ويكذبون في حمق، وهؤلاء من الصعب أن تتحاور معهم لأنهم لا يفهمون معنى الحوار، ولا أدبيات النقاش.. وكلما حاولت إقناعهم بشيء مفيد، نبشوا في كلامك ليخرجوا لك منه باكتشاف جديد، وإذا خاطبتهم بما لا تحتمله عقولهم؛ قالوا رجعي جاء من زمن عتيق، وإن رددت عليهم وألجمتهم بالحجة الدامغة؛ قالوا هذا رجل عنيد.. ، وإن تنزلت معهم لتخاطبهم بنفس أسلوبهم قالوا: لا يجيد أدب الكلام، ولا يفهم لغة الإعلام.. ، وإن ترفعت عن الرد عليهم قالوا متكبر.. فهؤلاء ليس لك فيهم حيلة إلا أن تقول لهم سلاماً ولكن من بعيد، وصدق فيهم قول الشاعر:
لكن لم أطــق *** قط علاج الأحمق
ونرجو بذلك أن نكون قد تشبهنا بعباد الرحمن {وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
وهناك صنف آخر من الكتاب: وهم أرباب مصالح كتبوا إرضاء لأرباب نعمتهم من رؤساء التحرير، ليحافظوا على شهرتهم ولتبقى صورهم على أعمدتهم اليومية. وهؤلاء أيضاً لا يوجد فائدة كبيرة من الحوار معهم؛ لأنهم باختصار لو رددت عليهم تكون بذلك قد حققت هدفهم ألا وهو الشهرة، ومثلهم مثل الأعرابي الذي بال في ماء زمزم طلباً للشهرة حتى ولو باللعن. فهم قوم اعتادوا الاقتيات على لحوم القامات، ويفرحون بالهفوات، ومهمتهم تصيد الزلات فمثلهم كمثل الذباب الذي لا يقع إلا على القاذورات. وهؤلاء محور اهتمامهم يتبلور حول مصالحهم الشخصية، وأعمدتهم اليومية، لذلك سرعان ما يميلون مع من ترجح كفته، إن انتصر قوم قالوا إنا معكم، وإن انتصر الآخرون قالوا ألم نكن معكم..
وصنف ثالث من أولئك المتجرئين على مقام النبوة، وعلى نصوص الوحي، وعلى حملة الوحي: هم كتّاب تنطوي سريرتهم على خبث وسوء، وهم قلّة وهذا الصنف من الكتّاب كذلك ليس من المجدي الحوار معهم كثيراً؛ لأنهم أهل كبر وعنت، ولربما لو جادلتهم ازدادوا تعنتاً، كما أنهم غالباً لا يبحثون عن الحق، بل يبحثون عن إثبات آراءهم، ويرون أنك أقل منهم دراية بالواقع فلا يقبلون منك شيء حتى تتبع ملتهم.
وهناك صنف رابع من الكتاب وهم الغربيون، وهؤلاء ليسوا هم محور حديثنا، ولقد علمنا القرآن كيف نتحاور مع أهل الكتاب في آيات متفرقة من القرآن.
وهناك صنف خامس: وهم المعتدلون المحايدون وهم كثير، ولكنهم للأسف غيبت أصواتهم رغماً عنهم.
قد يقول قائل: ما هي الفائدة من هذا السرد كله إن كنت لا تؤمن بجدوى الحوار مع أولئك الصحفيين. وجوابي: أنني لا أكتب هنا؛ لأجل أولئك، بل أكتب دفاعاً عن ديننا و بلدنا وولاة أمرنا وأهلنا.. بلدنا الذي احتضن مهبط الوحي وعاصمة الرسالة، وحكامنا وعلماءنا الذين واجهوا العالم كله، وصمدوا أمام ضغوطات الغرب والشرق، وأعلنوا تحكيم شرع الله رغم التحديات، و بقوة الإيمان نشروا كلمة التوحيد، وجعلوها علماً يرفرف في كل محفل دولي..، كما أني أكتب لأهلي الذين تحترق قلوبهم حزناً وألماً مما يجري؛ فأقول لهم اصبروا على جهل الجاهلين.
وأخيراً أنا أكتب هنا لإخواني الذين لحظت على بعضهم علامات التذمر والحيرة إزاء بعض الأطروحات الصحفية، والتي تتضمن مغالطات وتناقضات.. فأردت تجليتها قدر المستطاع، وهو ما أحاول بيانه أيضاً من خلال مقال قادم بعنوان (مغالطات إعلامية).
«اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك أنت تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (رواه مسلم) ،وصلِ الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
دمتم بود أخوكم المحب: أمين بخيت الزهراني
بريطانيا