حرب النُّخب
إنها حروب تكوين نخب الحكم الجديدة تدور في كل بلد عربي أسقط شعبُه نظامَ حكمِه الطاغوتي، فقد سقط رأس النظام وفقدت نخبته قدراً كبيراً من سطوتها وقوتها، وبدأت عجلة التحول السياسي بالدوران مستخدمة آلية الانتخاب كوسيلة جديدة ..
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
يعجز البعض عن تخيُّل حقيقة الصراعات التي تدور حالياً في دول الثورات العربية، إذ غاية ما يصل إليه كثيرون أن هناك صراعاً بين نظام قديم وأخر جديد، وأن القديم يقود ثورة مضادة قد تنجح أو تخفق، كلياً أو جزئياً. لكن هذه الصورة المبسطة لم تعد كافية لتفسير ما يحدث على الساحة، وبدلاً من ذلك يمكن أن نضع عنواناً بديلاً لتوصيف وتفسير ما يحدث، وهو «حرب النخب».
إنها حروب تكوين نخب الحكم الجديدة تدور في كل بلد عربي أسقط شعبُه نظامَ حكمِه الطاغوتي، فقد سقط رأس النظام وفقدت نخبته قدراً كبيراً من سطوتها وقوتها، وبدأت عجلة التحول السياسي بالدوران مستخدمة آلية الانتخاب كوسيلة جديدة ورئيسة في تكوين نخبة الحكم الجديدة، وهي آلية لم تعهدها تلك الدول من قبل، فقد كان اختيار نخبة الحكم يتم عبر آليات مختلفة تماماً.
يقول الأديب والمفكر الفرنسي إيتيان دو لابويسي: «حينما يتحول أحد الحكام إلى طاغية فإن كل ما في الدولة من شر ومن حثالة يتجمّعون من حوله ويمدونه بالدعم لينالوا نصيبهم من الغنيمة، ولكي يكونوا في ظل الطاغية الأكبر عصبة من الطغاة الصغار» [1].
تكوَّنت نخب الحكم في أغلب الدول العربية بادئ ذي بَدء من ضباط الجيش العاملين والمتقاعدين، مع مرور الوقت اتسعت النخبة لتضم فئات جديدة، منها:
- مجموعة من المتخصصين ذوي الخبرات -التكنوقراط- الذين تحولوا إلى أدوات لخدمة النظام.
- المنتفعون والمنافقون والمتحولون الذين يروجون للنظام ويرسخون لدى الشعب صفات التبعية والخنوع.
- رجال الأعمال الذين تنفتح شهيتهم لجمع المزيد من الأموال من خلال تقربهم إلى رموز النظام.
- الأقرباء والمعارف.
كان الولاء والخضوع الشرطَ الأول لقبول الأعضاء الجدد في النخبة الحاكمة، وعندما يكون العضو الجديد متصدراً لمنصب أو مركز مهم في بنية النظام، كان لا بد أن تكون لديه نقطة ضعف يُخضَع للسيطرة من خلالها، وإذا لم تكن لديه نقطة ضعف يتم توريطه في أي عمل مخالف للقانون، وقد ذكر ذلك صراحة د. مصطفى الفقي، أحد رموز نظام مبارك، في أحد لقاءاته المتلفزة.
ولا يتوقف الانتماء لهذه النخبة على تقلد العضو منصباً رسمياً، فقد يغادر منصبه، لكنه يبقى في إطار النخبة، فقد ارتبطت مصالحه بها وبات احتياطياً استراتيجياً يمكن إعادة توظيفه مرة أخرى، وكذلك صار مقيداً تابعاً لنظامها، فصندوق الأسرار يضم نقاط ضعف وسقطات وانحرافات مالية وأخلاقية لا تحصى تجعل من يدخل إلى النخبة لا يستطيع الفكاك منها، حتى إن تحول إلى عضو خامل فاقد للتأثير.
وتقدم نظرية النخبة في تحليل السياسات العامة للدولة، تصوراً دقيقاً عن آلية الحكم في كثير من الدول العربية، وهذه النظرية تنظر إلى السياسات العامة كخيارات نخبوية، والنخبة هنا هي: مجموعة الأفراد التي تمتلك مصادر وأدوات القوة السياسية في المجتمع، وتأتي عملية صنع السياسات العامة كانعكاس لقيم واختيارات النخبة الحاكمة، ولو استخدمنا هذه النظرية في تحليل الواقع المصري في عهد الرئيس المخلوع مبارك، يمكن أن نلاحظ التالي:
1- انقسم المجتمع المصري إلى فئتين؛ فئة قليلة تملك السلطة والقوة، وغالبية شعبية مجردة منهما، والفئة القليلة هي التي تتولى تخصيص الموارد بمعزل تام عن الغالبية.
2- الفئة الحاكمة تمثل الشريحة العليا من الطبقة الاقتصادية والاجتماعية، ونفاذ أفراد الغالبية إلى هذه النخبة عملية بطيئة وصعبة للغاية.
3- لا تعكس سياسات النخبة مطالب الغالبية.
4- تؤثر النخبة الحاكمة في الغالبية أكثر مما تتأثر بها.
هذه النخب الحاكمة في الدول العربية مع رسوخها في الحكم، نسجت فيما بينها شبكة علاقات معقدة حفزها تشابه النشأة والسياسة وآلية الحكم، وكذلك المصالح المشتركة، وأحياناً المتعارضة، ومع تحول أجهزة المخابرات في هذه الدول إلى أدوات لخدمة النظام أو النخبة أو الحاكم، فقد تجمعت وتركزت فيها أسرار هائلة تراكمت عبر السنين عن هذه العلاقات وطبيعتها وتعقيداتها، وتراكمت لدى تلك الأجهزة قواعد معلوماتية حول فساد النخب الحاكمة في كثير من الدول العربية، وكانت هذه الأسرار تُستخدم لتحقيق التوازن في العلاقات البينية.
وبالتالي فإن اندلاع ثورة شعبية -خاصة في دولة مركزية مثل مصر- يعني أن صندوق الأسرار المخابراتي سيسقط بين يدي النخبة الجديدة القادمة عبر صناديق الانتخاب ولا يعلم أحد كيف يمكن لهذه النخبة أن توظف هذه الأسرار، خاصة أنها تتعلق بأشخاص -حقيقيين واعتباريين- داخل الدولة وخارجها، وكثير منهم لا يزال في دائرة النفوذ والحكم.
إذن، نحن نتحدث عن نقاط ضعف وسقطات كثيرة يمكن أن يؤدي كشفها إلى اضطرابات سياسية هائلة. هذه المخاوف تحرك قوى كثيرة -داخلية وخارجية- للتدخل المباشر وغير المباشر للتحكم في عملية بناء نخبة الحكم الجديدة، ويزيد من صعوبة الأمر أن الحكام الجدد ليس لديهم نقاط ضعف شخصية يمكن الضغط عليهم من خلالها.
القضية إذن لا تتعلق بتغيير أشخاص، أو رؤوس، بل بإعادة تشكيل نخبة الحكم وفق معايير لم تعتد عليها أنظمة الحكم العربية، وهذا سيؤدي -بلا شك- عاجلاً أو آجلاً إلى إحداث تغييرات هائلة في معادلة التوازن الإقليمية، فهذه الثورات وما أعقبها من تشكل لأنظمة جديدة أحدثت خللاً واضحاً في المعادلة الحالية، ولا يمكن لهذا الخلل أن يستمر طويلاً، لذا الصراع الدائر حالياً هو حرب نخبوية تهدف إلى محاولة الإبقاء -قدر الإمكان- على ملامح المعادلة القديمة، من خلال إيقاف التداعيات السياسية للثورات العربية، وتقليص مساحات التغيير أمامها داخلياً وخارجياً.
والله غالب على أمره..
[1] كتاب مقالة العبودية الطوعية، ص179.
أحمد فهمي
20/09/33 هـ
مجلة البيان العدد 302 - شوال 1433هـ، أغسطس 2012م.