الليبرالية وألوهية العقل !

خالد صقر

يتساءل العديد من الكتاب والإعلاميين عن السر وراء ذلك العداء الشديد بين تيارات الصحوة الإسلامية والليبرالية، وكثيراً ما يطرح هؤلاء المتسائلون بعضاً من مبادئ الشريعة الإسلامية التي نصت عليها نصوص الوحي بزعم أنها تتماشي مع بعض مبادئ الليبرالية..

  • التصنيفات: مذاهب باطلة -

يتساءل العديد من الكتاب والإعلاميين عن السر وراء ذلك العداء الشديد بين تيارات الصحوة الإسلامية والليبرالية، وكثيراً ما يطرح هؤلاء المتسائلون بعضاً من مبادئ الشريعة الإسلامية التي نصت عليها نصوص الوحي بزعم أنها تتماشي مع بعض مبادئ الليبرالية، ويرسمون بذلك علامات التعجب الزائفة خلف هؤلاء الإسلاميون "المتشددون" الذين يصرون علي معاداة الليبرالية التي تعتبر من أهم أعمدة النسق الفلسفي الحداثي، فأصبح من الواجب علي الإسلاميين المهتمين بحقيقة هذا العداء وذلك الصراع أن يطرحوا الأسباب والدوافع والمسوغات التي من أجلها يرفضون الليبرالية رفضاً كاملاً، كما يرفضون فلسفة الحداثة وما بعدها بشكل عام.هذا المقال يسعي لطرح أحد الفوارق الأصيلة بين الليبرالية والشريعة الإسلامية، ألا وهو دور العقل في الاستدلال علي الحقيقة.


الليبرالية يمكن ترجمتها من مرادفها الإنكليزيّ إلي "التحررية"، أما معناها الاصطلاحي فيصعب في حقيقة الأمر تعريفه بالنسبة إلي أطر سياسية واجتماعية مختلفة في آنٍ واحد، إذن أنها تتغير بتغير الأنظمة السياسة والاجتماعية التي تتواجد فيها، لكن يظل من الممكن تعريف الليبرالية بشكل مجرد كأحد أعمدة النسق الفلسفي الحداثي وكرابطة رئيسية بين عناصره المختلفة؛ يقول البروفيسور أكسل هادينيس Axel Hadenius الأستاذ بجامعة لوند السويدية في كتاب "نصر الديمقراطية وأزمتها":(إن تحرر المجتمع Liberalization of society ما هو إلا ناتج من نواتج تطور العقل البشري وثقافته السياسية، ولهذا فإن ذلك التحرر يستمر في التطور والتغير بلانهاية) أ. هــ، بينما يقدم لنا البروفيسور أورين والدمان Oren Waldman أستاذ العلوم السياسية بجامعة تمبل بالولايات المتحدة تعريفاً أكثر وضوحاً لفلسفة الليبرالية، يقول في كتاب "إعادة فهم الليبرالية: الأزمة المعاصرة للسياسة الليبرالية العامة": (الليبرالية هي فلسفة سياسية تهدف إلي تحقيق التزاوج بين الحق المطلق للأفراد في اختيار الصواب والخطأ بشكل مطلق وتمكنهم من الحياة طبقاً لتلك الاختيارات الفردية الخاصة) أ.هــ، ويسوق العديد من المفكرين تعريفات مشابهة ومتقاربة، مثل ريتشارد بيترسون وروبرت هولينجر وغيرهم، ومن خلال تلك التعريفات كلها يمكن تقديم تعريف جامع لفلسفة الليبرالية، ينص علي أن: (الليبرالية هي فلسفة تهدف إلي إعطاء العقل البشري السلطة المطلقة في الاستدلال علي الحقيقة، وإيجاد السبل المناسبة لتطبيق الحقائق بما يضمن تمكن كل فرد من أفراد المجتمع من الحياة طبقاً لنتاج عقله الشخصي).

ربما كان مصطلح "الاستدلال علي الحقيقة" غريباً علي بعض من القراء، فالاستدلال علي الحقيقة ووسائله كان الشغل الشاغل لكل فروع المعرفة منذ بدء الخليقة إلي يومنا هذا، والمقصود بكلمة "الحقيقة" هنا هي "الحقائق العليا"، مثل الهدف من الوجود، وحقيقته، وماهية العالم، وما إذا كانت هناك عوالم أخري، إلي آخر هذه القائمة الطويلة التي تعرف بالحقائق العليا.


الإسلام جعل مناط معرفة تلك الحقائق موكلاً بالوحي المعصوم، والعلوم التجريبية الحداثية كالفيزياء والعلوم الحيوية وغيرها جعلت وسائل الاستدلال علي تلك الحقائق مقيدة بالتطور العلمي وحواس الإنسان الخمسة، إذ أن العلوم التجريبية الحداثية قصرت بدايةً الوجود علي الوجود المادي فقط، ونفت أي حقيقة للوجود (الإلهي) أو ما يطلق عليه اصطلاحاً Intelligent Design، أو التصميم العاقل للكون، ومن هذا العمق يأتي الصراع الحاد بين الإسلام - باعترافه بالوحي المعصوم كوسيلة للاستدلال علي حقائق الوجود التي لا يمكن إدراكها بالحواس الخمسة والليبرالية، التي تتصل بشكل وثيق العلم التجريبي في إطار فلسفة الحداثة، باعتمادها للعقل والحواس الخمسة التابعة له كوسيلة وحيدة للاستدلال علي حقائق الوجود، ومن ثم تحديد مقاييس الخير والشر والقبح والجمال وما إلي ذلك.

إذن نحن عندنا الآن منظومتان؛ أولاهما: الإسلام، وهو يعترف بوجود مقاييس مطلقة للخير والشر والقيم العليا، هذه المنظومة المطلقة وما يترتب عليها من نظام خلقي واجتماعي وإنساني فرضها الله علي البشر من خلال الوحي المعصوم الذي قام (بتعريف) البشر بالحقائق المطلقة وأجاب عن الأسئلة الأكثر صعوبة عن الهدف من الوجود وماهية الخلق والكون، وثانيهما: الليبرالية التي لا تعترف بوجود مقاييس مطلقة للقيم العليا؛ لأن الجذور الفلسفية لليبرالية ترقد في تربة النسق الفلسفي الحداثي الذي لا يعترف سوي بالعقل وسيلة للاستدلال علي الحقائق المطلقة، ومن ثم فإن الإسلام يدعو إلي (الاستسلام) إلي الأطر الخلقية والسلوكية التي نص عليها الوحي المعصوم، بينما تدعو الليبرالية إلي (مقاومة) هذه الأطر وهدمها بحجة أنها ليست (حقيقية) لأنه لم يتم الاستدلال عليها بالعقل البشري وأدواته العلم التجريبي والحواس التابعة له.


نستطيع الآن أن نقرر أن أهم سبب للخلاف بين الإسلاميين والليبراليين هو نظرة كل فريق للعقل، فالإسلاميين يتبنون النظرة التي سادت الإسلام خلال الأربعة عشر قرناً الماضية، ألا وهي أن العقل هو (وسيلة) الاستدلال علي الحقائق الجزئية وأنه (غير مختص) بالاستدلال علي الحقائق المطلقة التي يدل عليها الوحي المعصوم ذلك؛ لأنها مستقلة عن الوجود الإنساني، أما الليبراليين فيرون أن العقل هو (الوسيلة الوحيدة) للاستدلال علي كل الحقائق ومن ضمنها الحقائق المطلقة، إذ أن جذور الليبرالية الفلسفية والنسقية لا تعترف في حقيقة الأمر بقدسية الوحي المعصوم وسلطته في إدارة حياة المجتمعات من خلال (مقاييس مطلقة) للقيم العليا والمنظومات الخلقية والسلوكية.

الليبرالية تضع العقل عندما تفوض له سلطة تحديد الحدود الفاصلة بين الصواب والخطأ، والمرجعية الأخلاقية والسلوكية للفرد والمجتمع في مكان (إلهي) بالنسبة إلي نظرة الإسلام إلي (حكم) الله -تبارك وتعالى- للبشر من خلال الوحي المعصوم الذي وضع القوانين والتشريعات التي تحدد الخير والشر بشكل مطلق، وبالتالي تفرض نظاماً أخلاقياً وسلوكياً موحداً علي المجتمع الذي يدين بالإسلام.