مواقف سلفية مبكرة تجاه الانتخابات النيابية

بعض المواقف السلفية المبكرة من الإنتخابات النيابية يجهلها كثير من السلفيين والناس، وذلك أن السلفية تعانى عقوقاً من بعض أبنائها وعدواناً من كثير من خصومها.

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -


لا يعلم كثير من الناس أن أمتنا الإسلامية والعربية عرفت الانتخابات النيابية منذ أكثر من مائة سنة، فمجلس النواب الأول في التجربة الإسلامية والعربية كان في بداية عهد السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1877م وكان يتكون من مجلس الأعيان الذين يختارهم السلطان، ومجلس المبعوثان العثماني الذي يضم النواب أو مبعوثي مناطق الدولة، وكان الانتخاب فيه مقصوراً على الرجال، أما المرشحون فهم من أعضاء المجالس الإدارية في الولايات والألوية والأقضية، ويشترط فيه أن يكون مواطناً عثمانياً لا يحمل جنسية أخرى، وأكمل ثلاثين سنة، وغير محجور عليه، أو فقد حقوقه المدنية، ويعرف التحدث بالتركية ويمكنه الكتابة بها. وكانت مدة المجلس أربع سنوات، ويجوز إعادة الترشح للنواب. وقد كان في مجلس المبعوثان نائبان عن الأردن: من الكرك توفيق باشا المجالي، ومن الطفيلة محمد عطا الأيوبي.

لم تطل حياة المجلس الأول، فبعد 11 شهراً، حلّ السلطان عبد الحميد الثاني المجلس بسبب دسائس أبناء جمعية الاتحاد والترقي الساعية لعلمنة وتفتيت الخلافة العثمانية، وهي الأزمة المستمرة لليوم لتغييب حكم الشريعة الإسلامية عن قيادة الأمة والدولة بين جمهور المواطنين المسلمين والقلة العلمانية المدعومة بالخارج، ومن يراقب المعركة الدائرة اليوم في مصر بين التيار الإسلامي والشعبي العام، والقلة العلمانية بكل أطيافها يرى نفس المشهد زمن السلطان عبد الحميد وكأن الزمان توقف وعقارب الساعة لم تعد تجري!!

وبعد 30 سنة أعاد السلطان عبد الحميد الثاني مجلس النواب تحت ضغوط الاتحاديين ودول أوروبا، فتمت انتخابات جديدة لمجلس المبعوثان سنة 1908م، ولكن سرعان ما تحولت حالة الفرح بعودة الانتخابات وانحسار الحكم الحميدي، فلما حكم الاتحاديون بلاد العرب أظهروا الإلحاد ونشروا الظلم بأبشع صوره، فعمّ الفزع والخوف من التأرجح على أعواد مشانق جمال باشا السفاح الذي عينه الاتحاديون حاكماً على الشام، وأصبح الناس يترحمون على الحكم الحميدي الذي ملأ الاتحاديون الدنيا بأكاذيبهم حول دمويته وديكتاتوريته حتى لقبوه -زوراً- السلطان الأحمر، لكن الناس رأت مشانق الاتحاديين ولم يشاهد أحد مشانق أقامها السلطان عبد الحميد لخصومه، وممن شهد للسلطان عبدالحميد: الملك عبدالله بن الحسين في مذكراته ص 27 حيث قال: "ولقد زعم الناس أن عبد الحميد كان ظالماً، لقد كذب الناس. والله لم يكن بالظالم ولكنه الحذر المتحوط. ولقد عُرف بعد أن ذهب أنه لم يقتل أحداً ولم ينفذ حكم إعدام في محكوم أبداً، إلا مرة واحدة. ولئن أحصى الناس ما وقع بعده من صلب وتشريد وإدارات عرفية، وصولات في شام ويمن من الحكومات الاتحادية، لعلم أن ظلم عبد الحميد بالنسبة إلى أفعالهم كان عدلاً محضاً".

وبسبب مظالم الاتحاديين العلمانيين ثار العرب على الاتحاديين، ونجح المحتلون الأوروبيون وأذنابهم بتوجيه الغضب الشعبي العربي والإسلامي للعثمانيين المسلمين بدلاً من الاتحاديين العلمانيين فوجدت العلمانية لها موطئ قدم في بلادنا بفضل حراب المحتلين من الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين ومن لفّ لفهم.

ولعلنا اليوم نعيش حدثاً مشابهاً لهذا وهو كثرة الكذب والاتهامات بالدكتاتورية والدموية للرئيس المصري المنتخب "د. محمد مرسي" من قبل خصومه العلمانيين بسبب إسلاميته فحسب!!

وقد تفاعل السلفيون مع مجلس المبعوثان ويمكن أن نعدد من أمثلة هذه المواقف ما يلي:

1- مشاركة وزعامة العلامة محب الدين الخطيب صاحب المطبعة والمكتبة السلفية لعدد من الجمعيات السياسية العربية المطالبة بعودة الحياة النيابية والحكم النيابي في الدولة العثمانية.

2- وحين تقرر عودة مجلس المبعوثان سنة 1908م اعتبر العلامة رشيد رضا صاحب مجلة المنار يوم افتتاح البرلمان يوم عيد، ولكن حين زاور إسطنبول في سنة 1909م إكتشف حقيقة جمعية الاتحاد والترقي وعداءها للدين، وأصبح يحذر منها ومن تلاعبها في مجلس المبعوثان لأجندتها المعادية للدين.

3- ومع هذا بقي السلفيون يسعون لأن يكون النائب عن بلاد العرب لمجلس المبعوثان شخصية كفؤة ومؤهلة، فنجد العلامة جمال الدين القاسمي (توفي 1914م) يخصص لمواصفات النائب لمجلس المبعوثان العثماني عنواناً خاصاً في كتابه "جوامع الآداب" أدرج تحته مواصفات لا نزال لليوم نسعى إلى أن تتوفر في مرشحينا ونوابنا للبرلمان، وتصلح أن تكون معايير موضوعية للناخبين لاختيار مرشحيهم، وذلك بعد أن عملت قوانين الانتخاب المتتالية على "تدجين" الانتخابات النيابية والبلدية وأنتجت غالب نتائجها مجالس نيابية "دايت" لا دسم فيها!! وفتحت الباب على اتساعه لأصحاب الإمكانات المالية بغضّ النظر عن الإمكانات الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وأصبح من الطبيعي الحديث عن استعمال المال السياسي في الانتخابات سواء بالدعاية المفرطة أو بشراء الأصوات نقداً أو بالمساعدات العينية.

ومن آثار هذه القوانين المجحفة لتدجين الانتخابات انتشار ظاهرة الولاءات العشائرية الضيقة وعدم الثقة بين الناخب والمرشح حتى شاهدنا وزراء وأساتذة جامعيين يتبرؤون من علمهم وثقافتهم ويصوتون علناً باعتبارهم أميين، في مشهد أقرب ما يكون لمشاهد الكوميديا السوداء البشعة.

يفصل القاسمي في آداب النائب البرلماني لمجلس المبعوثان العثماني تحت عنوان "أدب النائب في مجلس المبعوثين عن الوطن"، فيقول: "تعرف الرجال من أقوالهم وأفعالهم واحسانهم واستعدادهم وتفانيهم في عمل النافع وحب الإنسانية وعضد المشروعات الشخصية. فالنائب لا يطلب بين خزائن النقود حيث يكون محجوباً ولا من وراء سجوف النعمة ورغد العيش حيث يتوارى عن عينيك، فإن من ترفع عنك لا يهبط إليك ومن ابتعد عنك لا يتبعك إذا مشيت إلى خير ولا يمتزج بين أفرادك في ضيقك ولا يقودك في حاجتك إلى الهداية فهذا ليس هو، إنما نائب الوطن من كان له في سرائه وضرائه ومن يضحى نفعه لينفعه ومن يضع نفسه ليرفعه ومن يرصد معارفه وقوته وأوقاته له.

النائب مشرع للقوانين، أول ما تجب عليه معرفته أن يحسن علم الحقوق ويعرف حركة المجالس النيابية عند الأمم الراقية ويحسن تاريخ أمته واجتماعها ويعرف ما يدليها ويرفعها ويدرك علائق حكومتنا بحكومات أوروبا وما تم بيننا وبينها من المعاهدات وما نالوه منا من الامتيازات ويكون قادراً على الاستخراج من كتب السياسة والإدارة والقضاء بإحدى اللغات الأجنبية. فإذا توسم الشعب جميع هذا في شخص جمع بين العلم وعلو الهمة، وحسن الإدارة والتنزه عن التحزب والأغراض فعليه أن يتلمس رآسته"، وفي هذا النص ما يدل على عميق إدراك القاسمي للعملية الديمقراطية وآلياتها مبكراً.

4- قام محب الدين الخطيب في سنة 1911 بطباعة ونشر كتاب "الإنتخابات النيابية وأحكامها" لأحمد رمزي.

5- ونجد أيضاً رشيد رضا يكتب مقالات عديدة في المنار وغيرها حول أخبار مجلس المبعوثان ونقد أدائه في بعض المسائل.

6- ولما تم انشاء المؤتمر السوري = البرلمان السوري سنة 1919م، كان رشيد رضا أحد اعضائه ومن ثم انتخب لرئاسة المؤتمر السوري في 5/5/1920.

7- ونجد العلامة السلفي محدث الديار المصرية أحمد شاكر (توفي 1958م) يجعل الانتخابات البرلمانية هي السبيل لتحكيم الشريعة الإسلامية والتي أقصيت عن الحكم بسبب الإحتلال الأجنبي، والعجيب أن موقف أحمد شاكر من تطبيق الشريعة هو من أصول جماعات العنف والتطرف- وهذا من أسباب نفي الدائم عنهم السلفية- لكنهم يرفضون في نفس الوقت منهجه العملي لنصرة الشريعة ويكفرون من سار على منهجه !!

يقول أحمد شاكر في كتابه [الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر]:

"سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة: السبيل الدستوري السلمي؛ أن نبث في الأمة دعوتنا و نجاهد فيها ونجاهر بها ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة ولئن فشلنا مرة فسنفوز مراراً، بل سنجعل من إخفاقنا إن أخفقنا في أول أمرنا مقدمة لنجاحنا بما سيحفز من الهمم، ويوقظ من العزم، وبأنه سيكون مبصِّراً لنا مواقعَ خطونا، ومواضع خطئنا، وبأن عملنا سيكون خالصاً لله وفي سبيل الله. فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها، طاعةً لربها، وأرسلت منا نُوَّابها إلى البرلمان؛ فسيكون سبيلُنا وإياكم أن نرضى وأن ترضَوا بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم، كما تفعل الأحزاب، إذا فاز أحدُها في الانتخاب، ثم نفي لقومنا إن شاء الله بما وعدنا، من جعل القوانين كلها مستمدةً من الكتاب والسنَّة".

هذه بعض المواقف السلفية المبكرة من الإنتخابات النيابية يجهلها كثير من السلفيين والناس، وذلك أن السلفية تعانى عقوقاً من بعض أبنائها وعدواناً من كثير من خصومها.



أسامه شحادة - 04/03/34

المصدر: موقع مجلة البيان الالكترونية