رسالة إلى سفير مملكة الدنمارك
ملفات متنوعة
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
لم تكن مملكة الدنمارك لكل فرد في هذه البلاد إلا بلداً جميلاً
راقياً، متنحّياً في الركن الشمالي من العالم، يتقلب في نعمته
الاسكندنافية، وكنا نحب ذلك ونعجب بهذه المملكة الصغيرة الحجم
والسكان، وكنا نعتقد أنها بمنأى عن صراعات العالم السياسية والأثنية
والثيولوجية.
دعني أقول لك يا سعادة السفير جملة قاطعة، كنا نعتقد أنها عزلت نفسها
بجزيرة وادعة وهانئة ورخية بعيداً عن غباء العالم.. هذا ما كنا نعتقد،
ولم يكن لدينا مبرر واحد أن نعتقد غير ذلك.
وتعرف جيداً -طبعاً- يا سعادة السفير، أن الدنمارك اليوم تملك
اقتصاداً متوازناً، وأن ميزان التجارة لديكم يميل بوضوح إلى جهة
الصادرات عن الواردات، وأنكم من أكبر الدول الدائنة في العالم بالنسبة
لعدد السكان، وهذا عظيم جداً، فمعظم منتجاتكم الزراعية والصناعية
موجهة للتصدير، ومنح ذلكم لكم واحدة من أكبر معدلات الحياة الراقية في
العالم، وهذا عظيم أيضاً. وتعلم، ونحن من المقدرين جداً لذلك، أن
مملكة الدنمارك تتمتع بواحد من أرقى نظم الدنيا في الحكم الذي يوفر
الرفاهية والخدمات الاجتماعية الممتازة، وهذا عظيم جداً.
دولة مثل هذه، تعتمد محورياً على التصدير، يجب أن تكون دائماً بعيدة
عن الانزلاق في أي مسألة، ناهيك عن صراع أو خلاف حاد، مع أية دولة في
الدنيا، لأن دول الدنيا إما زبائن للدنمارك وإما زبائن محتملون. وهذا
طبعاً من الذكاء، الذكاء الذي جعل دولة كسويسرا واحدة من جنان الأرض
(لأهلها طبعا قبل كل شيء!) فلا يُجني من أي صراع إلا الشرر، إن لم تكن
النار الحارقة.
وتعلم جيداً يا سعادة السفير أن انقشاع غبار الحرب الكونية الأولى كان
عهداً استثنائيا للدنمارك، لأنها صانت الحياة في تلك الحرب، وعندما
كانت أوروبا كلها تعرج وتضمد جراحات الحرب المهولة، كانت الدنمارك قد
توفر لها المناخ لتبني لبنات المجتمع الزاهر الذي تقطف ثمراته بلادكم
الآن.
إن الحرب الكونية الثانية أشعلتكم بنارها وداس النازي على أرض مملكتكم
الوادعة، وتحول البلطيق الذي يحضنكم بسواحله إلى طوفان من العتاد
الألماني، وخسرتم جرينلاند والجزر الأخرى. وهذا لم يكن عظيماً، بل كان
فظيعاً ودفعتم الثمن غالياً. إنك ترى: أي انحراف صغير عن الحياد وعن
التدخل في أي صراع هو الخنجر الحاد الذي يتغلغل في لحم الأمة وينزفها
خسارة لا تعوض، أو لا تعوض في وقت قريب.
والدنمارك قالب من الزبدة يا سعادة السفير، وتعرف جيداً -طبعاً- كيف
يمضي بسهولة السكينُ في قالب الزبدة. لم نكن نريد لكم هذا، ولا نريده
لكم حتى الآن، ولا في مستقبل الأيام، ولكن أنتم أردتموه، وأردتموه
بإصرار عجيب وبلا داع، وقوضتم أكبر أصولكم القومية، وهو الحياد
واحترام الأمم لكم، لأنكم كنتم، أو ما كنا نحسب، أنكم تحترمون كل
الأمم. وأن تقوض بلا داع ولا ضرورة ولا مناسبة ركنا مكيناً حيوياً في
أصولكم لا نرى وصفاً له سوى الغباء، وأنا أود أن أملك شيئاً يبعد هذا
الوصف ومنفتح لذلك، ولكنها الحقيقة الدامغة الوحيدة الآن. بدأت عواصف
البلطيق تنطلق من جديد لتضرب قلب بلادكم من عاصفة أثرتموها أنتم، وكان
بودي أن تتلاحقوها ولكن يبدو أنها ستجرفكم في عين إعصارها. لم يكن
مسلم واحد في الأرض يتمنى لكم ذلكم. وتدفعونا الآن دفعاً للتفكير في
ذلك.
وكنت أتحدث معك يا سعادة السفير عن مبدأ الاقتصاد الأول، حتى بعيداً
عن أي قيمة أو اعتقاد ثقافي أو ديني، وهو العناية القصوى بالزبون
الحالي وبالزبون المحتمل، خصوصاً لدولة قائمة بكل فعالياتها التجارية
والصناعية والمالية على زبائن العالم، وأعتقد جازماً أنك توافقني على
ذلك. وأظنك لن تجد حجة تمنعك من أصف أن أي تضحية بواحدة من أهم
زبائنكم على الإطلاق، وبالذات في المنتجات المتعلقة بالمزارع هو من
الغباء العدمي. (وتعرف حين أقول لك المنتجات الزراعية والحيوانية أن
طبيعة هذا القطاع في الدنمارك مرتبط وثيقا بالمزارع الصغيرة التي
تديرها وتملكها آلاف الأسر الدنماركية، التي ستكون هي المعرضة أولاً
لردود فعل زبائنك الكبار). إني أحلّفك (هل أنت من الكنيسة اللوثرية
البروتستانتية؟ تدري ما أقصد) يا سعادة السفير أن تعطيني تفسيراً أو
وصفاً غير الغباء العدمي.. بل إنك لما تقيم كراهية عميقة في قلب أمة
من مليار من الأنفس فإن الغباء هنا هو.. غباء انتحاري!
إني كما ترى حتى الآن يا سعادة السفير في خطابي معك أحدثك من جهة
واحدة، وهي مصلحة الدنمارك التي تمثلها، وما سبق كله يفصح عما سيحيق
بهذه الدولة الهانئة والمستقرة بفعل عمل شنيع، وشنيع جداً يا سعادة
السفير، لم يكن له مبرر إطلاقاً إلا الغباء والتكبر والتعجرف واحتقار
لأمة تدين بدين سماوي كل فرد فيها سيقدم دمه سعيداً من أجل احترام
قيمها ورموزها.. فكيف بمجرد مقاطعة منتجاتها التي تنافسها آلاف
المنتجات؟! إنكم كنظام مشاركون جداً بما حصل، ولا تقل لي غير ذلك..
لما ذهب وفد إسلامي مشكل من 11 دولة إسلامية (تصوّر 11 دول.. كل دولة
سوق عملاقة لكم)، ما كان من رئيس وزرائكم أنديرز راسموتن إلا أن رفض
الاجتماع بهم ليسمع الدنيا واحدة من أكثر الجمل الدبلوماسية سقوطاً في
الدبلوماسية: "ليس لدي القوة في تغيير ما حصل، وحتى لو كانت لدي
القوة.. لما فعلت!".. يا إلهي!
ويقصد رئيس وزرائكم أنه لا يتدخل في حرية الصحافة في بلاده، وحرية
الصحافة، والله يا سعادة السفير على رأسنا من فوق، ولكن عندي مقال
الآن بالإنجليزية يتكلم عن المحرقة اليهودية استدعاء من كتب قرأتها من
مؤلفين في العالم الغربي يدعون به أن اليهود لعبوا على الوتر حتى صار
عواء يهدد أوروبا عموماً.. وأريد أن ينشر ولدي الواسطة.. هل ستسمحون
بنشره؟ هل تسمحون بنشر أي شيء يتعرض لما يسمى بالسامية.. لن أتحداك
أبداً. أنت تعرف الجواب. حرية الصحافة على رؤوسنا ولكن أنتم تدوسون
عليها بأجزامكم عندما تريدون ذلك.. والجزمة دائماً ليست دنماركية ولا
أوروبية.. ولكن يهودية.
فليكن..
وأقول فليكن يا سعادة السفير، فإني لست كلي استياء ولكن في قلبي فرحة،
كنت من أول من أطلع على فحش جريدتكم الأولى جايلاند بوستن في نشر رسوم
كرتون لنبينا العظيم، وعصرني قلبي حتى كدت أفقد الهواء.. ولكني أغتبط
الآن وأنا أرى كل المسلمين يلتفّون حول دينهم، وحول كرامة نبيهم.. لقد
دفعتمونا، من غير محبتكم ولكن من كراهية مرسومة، إلى ما نحب.. أن نرى
مجدداً أن الإسلامَ نارٌ لا تموت يا سعادة السفير.. لا تموت. إنها كما
يجب أن تعرف شعلة الأزل!
ونحن كثيرا أرقى منكم في التعامل بما يمس عقائد البشر وديانات السماء،
فلم نحرق الصليب في الشوارع، ولم ننشر صور الكرتون على الرموز
المسيحية. لا، نحن أكبر من ذلك.. ولكننا فعلنا شيئاً آخر سيكون أكبر
من اقتلاع كامل جرينلاند من أرضكم. اقتلاع لصلابة أرض اقتصادكم.
في قرية صغيرة في منطقتي الشرقية لا يتعدى عدد الأسر التي فيها
العشرات، كـُتبتْ لافتة على دكان صغير بأربعة رفوف. (نحن لا نتعامل مع
المنتجات الدنماركية).. هذا ردنا يا سعادة السفير.. من أكبر الأسواق
حتى دكان بأربعة رفوف.
كنا نعتقد أنكم من الذكاء بأن تحسبون حساباً حتى لأربعة رفوف!
ولكن.. غباءٌ عدمي!