الإخوان السلفيون

محمد جلال القصاص

يجب التخلي تماماً عن صيغة الجماعات، ومناوشة الإخوان حتى يتخلوا هم أيضاً عن صيغة الجماعة، فصيغة الجماعة صيغة تصلح للممانعة والحفاظ على الحد الأدنى من الهوية ولا تصلح أبداً لإقامة مجتمع، فضلا عن صناعة حضارة على مستوى الأمة.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -



الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن أحبه واتبع هديه، وبعد:

الفكر يُحدث تغييراً على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة، ويظهر هذا التغيير بتحولات في سلوك الشخص، وأحداثٍ كبرى في واقع الناس كما الهزائم (1948، و1967)، وكما الثورات.

والأحداثُ الكبرى توجِد أسئلةً بحثية تستنفر الفكر للبدء في إيجاد تغيرات جديدة في أرض الواقع. والحدثُ الأهم الذي مرَّ بنا هذه الأيام هو (ثورة يناير) أو (ثورات الربيع العربي)، كان من المفترض أن يثير هذا الحدث تساؤلات عن من حضَّر له، ومن نفذه، وعن تداعياته، وعن سبب غياب التيار الإسلامي وخاصة السلفي عن ساحة الإعداد له؛ بل عدم قدرة عامة المنتسبين للسلفية من اتخاذ موقف سليم منه حال ظهوره!!

لم تفكر الحالة السلفية في سبب غيابها عن الإعداد للثورة، ولم تفكر في الفاعلين الرئيسيين: من هم؟ وماذا يريدون؟! وإنما تحركت متعجلة فرحةً مسرورةً في الاتجاه الذي أشير عليها أن تدخل فيه، وهو العمل السياسي من خلال الفعاليات القديمة (الأحزاب). وثانية لم تفكر!
بدا بوضوح أنها لا تملك آلية طرح الأسئلة البحثية التي بها ترصد الظواهر الاجتماعية وتحللها، ومن ثم تتعامل معها، وبدا بوضوح أنها تتحرك مندفعة بشكل جماعي في اتجاه واحد لا تحدده هي!!


المقصود هنا أن قوة التفكير والتدبر كانت غائبة، والشخصية المستقلة التي لا تقلد كانت غائبة، والأسئلة التي تنتجها الأحداث وتستوجب البحث والتحليل للظواهر ومحاولة إيجاد المتغيرات التي شكلت الظواهر، ومحاولة إيجاد ظواهر جديدة تزاحم الموجود وتفككه لم تكن موجودة أيضاً؛ والحركة جماعية، والفرقة على ذات الطريق ولأسبابٍ شخصية؛ فعامة السلفية كانوا ينكرون العمل السياسي ثم دخلوه كُلية بين عشية وضحاها. وفي داخل العمل السياسي اختلفوا على خلفيات شخصية أو حزبية، والعمل السياسي لا يُعاب في حد ذاته، فقط أرصد الحركة السريعة المندفعة بين ضدين، والغفلة عن الظواهر الاجتماعية توصيفاً وتحليلاً ومعالجة.

والسبب الرئيس في ذلك كما يبدو لي هو نوعية الشخصية؛ نوعية القيادة ونوعية الأتباع، فالقيادة قد اتخذت شيئاً من (القداسة)، فلحمها مسموم، وبالتالي: نقدها ممنوع، ولها خبرة طويلة، ولها تجربة وتضحية، وبالتالي هي: الأحرص، وهي الأرشد، والمهتدي من يطيع، ومن يُبدي رأياً فهو (آكل اللحم المسموم)، مع أن ذات الأشخاص من (آكلي اللحم المسموم)، فليس بينهم من قد بَرِئ من (اللحم المسموم)!!


ويجمل أن نقف مع أمرين:

الأول: الخلل في تركيبة الشخصية السلفية، وهو موجود في أختها الإخوانية، وفي عامة المصريين، وليس في السلفيين وحدهم، وغياب التفكير في الأحداث وتحليلها ومحاولة صناعتها، عن طريق طرح الأسئلة البحثية مما يسهل قيادة الجماهير (والنخبة الموجودة الآن لا تمتلك آلية الرصد والتحليل أيضاً).

والمفترض أن آلية طرح الأسئلة هي الخطوة الأولى لبناء النظريات التي يتم بموجبها بناء الإستراتيجيات وما تحتها من (غرف عمل، وتكتيكات) وما فوقها من سياسة هذه الإستراتيجيات. إذ إن النظريات تُبنى باستقراء واقع، أو باستقراء تجارب التاريخ (وهي تعادل في العلوم الاجتماعية التجربة المعملية في العلوم الطبيعية).

الثاني: أن عامة السلفية (القيادات من أجيال ثلاثة متواجدة الآن) جلسوا يفكرون بعد الثورة، وانتهى تفكيرهم بتقليد الإخوان. كان السؤال البحثي الذي طرأ في رأس (رؤوس العمل السلفي) جميعاً هو: كيف يتم السيطرة على الوضع؟!


تبادر لذهن الجميع أن الخطوة الأولى للتعاطي مع الواقع والإفادة منه هو السيطرة على الموجود، أو على كتلة صلبة منه، يتم ترشيدها من خلال برامج سريعة أو نصف سريعة (ندوات، ومحاضرات، ودورات) وبهذه المجموعة يتم صياغة الواقع سلفيًا!!

ولأن العقلية مقلدة أو محدودة الثقافة جداً، وضيقة الأفق، وقليلة الأدوات، راحت تستدعي نموذجاً لتقلده، ولم تجهد نفسها في البحث، كما فعل العلمانيون واستدعوا نموذجاً فعالاً مثمراً (اللاعنف لجين شارب) وتدربوا عليه في بلاده ثم جاءوا يجربون أعواماً حتى نجحوا؛ أخذ أهلنا نموذج الإخوان: أسر (جمع أسرة) بشكل هرمي ينتهي لشخص واحد (المرشد)، مع بعض التعديل فيه، فاشتدت الدعوة السلفية في شخص فردٍ منها في عمل (أخ مسؤول) في كل مكان للدعوة فيه أتباع، واشتد الكرام الأفاضل من (أهل السنة والجماعة) في عمل مجاميع عمل (لجان) في كل مكان لهم فيه أتباع، وبدأت (الجبهة السلفية) بفكرة عامة وكأن لا رأس لها، وكأنها تُعْمِل الشورى والقرار جماعي، وكأنها لجان متخصصة، ثم تحولت اللجان (عملياً) إلى ما يشبه الأسر الإخوانية، ونبت بينهم (كاهن) جديد يمسك بخيوط (اللجان)، فتقزمت وتدحرجت خلف البقية.


وأريد هنا استعراض ثلاثة أمور:
الأول: هذه الآلية نفسها.
لم تكن هي السبب في تمكين الإخوان، كان السبب في تمكين الإخوان هو ظهور نموذج الشيخ حازم أبو إسماعيل، فاجتياح الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل للعوام أوجد ما يعرف في التنمية السياسية بـ(الرأي العام)، وفيه يحدث توافق على أحد البدائل المطروحة، وبالتالي يصبح هو المسيطر. هرعوا للإخوان كحلٍ مقبولٍ مرحلياً، أو حاولوا الاستدارة على الخيار الإسلامي الصريح الذي طرحه الحازم حازم عن طريق استدعاء الإخوان أو السماح لهم مؤقتا، ومعالجتهم بعد ذلك.

وآلية الإخوان نفسها لم تكن تقليداً، بل جاءت بشكل طبيعي، أفرزها العمل في فترة ما، وقد تغيرت الظروف، واستمساكهم بها أخرج من بنيهم أضعاف أعدادهم الموجودة الآن، وكيانهم مهدد بالانشقاق وخاصة إن دخلت بينهم المسائل الفكرية، وقد كادت تشق صفهم قبل الثورة، ومن شاء أن يستيقن فليراجع سيرة الدكتور أبو الفتوح، وخاصة قبل انشقاقه. بدا جيداً وقتها أن الجماعة في طريقها لأن تنحى منحى علماني بنكهة إسلامية كما إخوان تركيا وتونس، وأن تُخرج من بينها شقاً كبيراً يعادل نصف عددها.

وهؤلاء يفرضون التنظيم على أتباعهم. وأتباعهم غير قابلين للدخول في مثل هذه الصيغة، فلو كانوا ما خرجوا من الإخوان أصلاً، وهذا الأمر بيّن لمن يتدبر في حال الفرد السلفي، وبيِّن من تفلُت الناس وعدم انضباطهم، وكثرة الانشقاقات الطولية التي تؤدي إلى تكوينات فرعية، وكثرة (المستقلين) بين الصف حتى أصبحوا ظاهرة؛ فقد استغنى كل فصيل عن أكثر من النصف بداية كي يبدأ، وارتبك بمشاكل داخلية حين بدأ.


إن طبيعة السلفية والسلفيين لا تقبل التنظيم الجاد المبني على السمع والطاعة المطلقة، والتحرك بكلمة رجلٍ واحد. حتى الجهاديين ومَن قاربهم، وأمارة ذلك في حجم مَن ينضمون؛ قِلة وتنشق سريعا.

والثاني: في طريقة التفكير التي دفعتهم لتبني هذه الآلية.
وقد مرَّ في مقدمة المقال، وأعيد لفت النظر إليه، ليتضح أن العقلية ذاتها تحتاج تجديد، وأنها مهما عظم شأنها في صدر أتباعها لم تعد تصلح، ولا بد أن تعدل من نفسها.

والثالث: الحل في:
التخلي تماماً عن صيغة الجماعات، ومناوشة الإخوان حتى يتخلوا هم أيضاً عن صيغة الجماعة، فصيغة الجماعة صيغة تصلح للممانعة والحفاظ على الحد الأدنى من الهوية ولا تصلح أبداً لإقامة مجتمع، فضلا عن صناعة حضارة على مستوى الأمة. المجتمع والأمة أكبر من جماعة أيا كانت، وبالطبع أكبر من (كاهن) (فرد) يحرك هذه الجماعة.

المجتمع يتحرك برأي عام توافقي، ويتحرك من خلال أبنية يقودها نخبة واعية متخصصة، فنحتاج لهذه النخبة والمتخصصة، ونحتاج للأبنية (الحالية بعد أن ندخلها، أو نشيد موازياً لها)، ومن ثم نُكوِّن رأياً عاماً يتوافق مع الشريعة.


وإن رحت تتدبر السيرة النبوية، وتحاول أن ترسم الأخبار مشاهداً فستجد مجتمع الصحابة يتحرك من خلال نخبة متخصصة، يتقدم كل واحدٍ منها المشهد حسب الظرف، فأهل الرأي في الحروب والرماة والمبارزون يتقدمون المشهد حال القتال فنذكر في الغزوات المقداد، والحباب، والزبير، وعلي، والحمزة، وسعد؛ والأغنياء المنفقون يتقدمون المشهد حال التجهيز للحرب وحال الحاجة لشراء ما يُصلح حال الناس فنذكر عثمان يوم العسرة ويوم بئر رومة، وطلاب العلم في صدر الحلقات، وهكذا!!

وهذا الأمر يتوافق مع الطبيعة البشرية، فالناس متخصصون بطبيعتهم، وليس ثمة من يصلح لكل شيء في كل وقت. هذه من بدع هذا الزمان. وهي من أسباب انكماش العمل وتقوقعه وقلة الابتكار فيه، واندفاعه بلا وعي في اتجاهات لا يحددها هو لا تحقق أهدافه.

إن المطلب الآن هو إقامة دولة ومن ثم حضارة، لا إقامة جماعة. وتلك قصة أخرى تحتاج قيادة متخصصة، وكوادر متخصصة، يعملون من خلال أبنية يغيرون بها واقع الناس، ويركبون فيهم إلى غيرهم من الذين يلونهم. والخطوة الأولى في القضاء على نموذج (الكاهن) و(صبيان الكهنة)، وبناء الكوادر.


محمد جلال القصاص
‏20‏/03‏/1434 هـ
‏31‏/01‏/2013 م
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام