سكنى الإسرائيليين في فِلَسْطِين

لماذا قصد الصهاينة فلسطين بالذات لبناء دولتهم؟؟؟؟

  • التصنيفات: التاريخ والقصص -

 

مِنَ المسائل المهمَّة الَّتي تَتعاورها أقلام الباحثين، وتتداولها ألسِنَة المتحادثين مسألة سكنَى اليهود في فلسطين، فقدِ اشتدت رغبتهم في ذلك منذ بضع عشرة سنة، وازداد حنينهم إلى هذا الوطن الأصيل، وتمادى ولوعهم انتجاع الأراضي المقدسة إلى درجة أن دخل على خاطر الدولة العثمانيَّة منهم ريب، وخامر قلبَها من ذلك شبهة، فشَرَعت تَسُدُ في وجوههم الأبواب، وتدفع في صدورهم إلى الوراء على رصف المرافئ بين حيفا ويافا، وأخذت تعتني بصغير خطبهم خشية الوقوع في كبيرِه، وتقتلع غرسهم قبل نموِّه، فكانوا كلما نزعوا إلى هذه البلاد أقامت الدولة دونهم حاجزًا، وكلَّما هموا بالدخول ضربت من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشتهم فهم لا ينظرون من أرض الميعاد إلا بصيصًا.

ولا نطمع أن نعرف حقيقة مقاصد اليهود في هذه المهاجرة، وأن نكنه دخيلة صدورهم والله عليم بذات الصدور، ولكن لا شبهة في أن لميلهم هذا أسبابًا معقولة، وعِللاً فواعل في نفوسهم تستفزهم إلى الرحيل إلى فلسطين كلما تيسر ذلك لهم، وما تنكر أهمية هذه الأسباب وهي البلاد المقدسة عندهم، والبقعة الطيبة، ولا يُستَغرَب حنينهم إلى هذه الأرض من عَلِم منشأهم، ومنبت أسلتهم، وعَرِف مُتقلبهم في البلاد وقرأ تاريخ هذه الأمة، وهو أعظم التواريخ اشتهارًا لكونه عبارة عن التوراة.

على أنه لم يكن الحادي الوحيد بهم مؤخرًا إلى قصد هذه البلاد أنها موطن آبائهم، وحظيرة قدسهم، ومهوى أفئدتهم، ووادي شعرائهم؛ فقد كانت في كل عهد بلادًا مقدسة وبقاعًا مباركة، لم تكن شهوتهم إلى نزولها بالدرجة الَّتي عليها الآن، فلا بد وأن يكون قد انضاف إلى هذا الاعتبار لديهم أسبابٌ أخَر، أهمها والله أعلم ما حصل لهم منذ بضع عشرة سنة، ولا يزال يحصل في البلاد الروسية وما جاورها من الأصقاع الصَّقْلبيَّة، من القهر والإعنات، وما أصابهم من نكد العيش وضنك الإقامة في بعض جهات أوروبا مما أولد فيهم شعور التضام والتساكن في بلاد لا قهر فيها ولا اضطهاد على بني إسرائيل، وأيُّ بلاد أليَقُ لسكناهم على هذه الصورة من البلاد العثمانية، وأيُّ بقعة آخذ بمجامع قلوبهم من هذه البقعة الَّتي فيها بيت المقدس!

وليست هذه بأوَّل مرة وقع فيها الاضطهاد على اليهود في أوروبا فالتجؤوا إلى الممالك الشاهانية؛ فقد كانت هذه شِنْشِنة يعرفونَها من أخزم، وقد علمنا كيف أن يهود إسبانيا حينما استلحمهم الإسبانيول وأرادوا استئصالهم قتلاً وأسرًا لحِق فلُّهم بممالك الدولة العلية، وأقاموا بالأستانة، وأزمير، وغيرهما.

وأضف إلى الوجهة المعنوية والذكر القديمة، والحماية الحديثة كون هذه البلاد طيبة النجعة، كثيرة الخيرات، غزيرة موارد الرزق، قليلة الزحام، مع عذوبة المنهل، مما جعلهم أن يتواجدوا على نزولها، ويذوبوا شوقًا إلى استيطاء أكنافها، فاجتمع لهم بذلك دين ودنيا، وعاجلة وأخرى.

إلا أنَّ بعض متحمسيهم في أوروبا وأمريكا لم يقفوا عند هذا الحد، ولا اكتفوا بالنجاة من الاضطهاد مع مُجاورة مراقد الأنبياء والأولياء؛ بل أباحوا بما في صدورهم، وحدثتهم أنفسهم بتأسيس مستعمَرة وتأثيل ولاية، وتألَّفتْ لذلك جمعية اسمها (الصهيونية) مقصدها إعادة ملك فلسطين، واسترجاع أرض الميعاد، وضم اليهود تحت راية واحدة في وطنهم القديم... إلى غير ذلك من الخيالات، الَّتي لعل اليهود أتوا بها بعد جلائهم عن إسبانيا، فكان في مجاهَرَتِهم هذه بما عقدوا عليه عزائمهم تحذيرٌ للدولة العليَّة من قبولهم في هذه البقعة المحدودة من الجنوب ببادية التِّيه، ومن الشمال بجبل لبنان، والواقعة بين مالح البحر المتوسط، وعذب بحر الجليل، ومُرِّ البحر الميت، وأباحت الدولة لهم سائرَ ولاياتها الفسيحة ليسكنوها، ولم تجعل عليهم حرجًا في مكان من أرض تظلها راية الهلال إلاَّ جوار بيت المقدس، وهكذا بعد أن فلت منهم جماعة، وتمكَّنُوا من بعض الأراضي بالشراء سرًّا، وبرشوة بعض المأمورين، ضيقت الدولة المنافذ وأوثقت الحبال وتوالت الإرادات السنيات بِمَنع دخول اليهود، وعدم تسجيل المبيع لهم بشبر من أرض الميعاد، وطالتْ مُجاهدَتُهم وفي مقدمتهم كبارهم في أوروبا في أمر الحصول على موافقة الحضرة السلطانية، فذهبت مساعيهم كلها عبثًا ولم تزل العقدة غير منحلة.

وقد كان اليهود يبذلون دون هذه الأمنية كل نفيس والنفائس عندهم، وربَّما يؤدُّون عن الدولة العليَّة جَميع ديونِها لو سَمَحَتْ لَهُم بِمَركز القدس الشريف، ولكن أبت الدولة أن تبيع شبرًا من أراضيها، خصوصًا ما كان مقدسًا عندنا؛ كما هو عند اليهود، وما وجوده في حوزتنا من جملة القوى العظيمة، والمنن الباهرة الَّتي ترجع إليها الدولة العلية، وتدل بها على أوروبا، فلنا في ذلك وجهان خطيران: أحدهما ديني، والآخر سياسي.

بقي علينا أن نبحث: هل أن إطلاق المنع لسُكْنَى اليهود في هذه الأراضي، وتجمعهم فيها إخوانًا متناصرين وجيرانًا متراصفين، هل هو من السداد والصواب أم لا؟

فنقول: أمَّا إطلاق الحرية لهم في فلسطين يشترون في كل سهل وجبل، ويبتاعون ما يشاؤون، فهو زعيم بألاَّ يُبْقِيَ في شهر واحد قطعة من هذه الأرض إلا وهي داخلة في ملك اليهود، إذ تنهال عليها أموالُهم، وتنهلُّ سُحُبُ روتشيلد، وهيرش، وغيرهما، (ومن يسُدُ طريقَ العارضِ الهطلِ)، ولا يزالون يُغالُون في الأثمان، وقد وقعت لهم هذه الفرصة حتى يَسْتَنْزِلوا بعزائم الدنانير الصُّفر أشدَّ الخَواطر المعتصمة بِمعاقل الامتناع، ولا يمضي شهر أو شهران إلا وقد عاشت مملكة بني إسرائيل على أنقاض المملكة الَّتي أخربها تيطس، ولو بعد بضعة عشر قرنًا.

فلهذا لم يكن من الحكمة ولا من الصواب إباحةُ الشِّراء لليهود أيْنَمَا شاؤوا، ولا تركُهم يتجمَّعون في بُقْعَةٍ إلى حد أن تتمَكَّنَ سطوتُهم وتعلو كلِمَتُهم، ويصير لهم صولةٌ بيْنَ عدد الرجال، ومدد المال، وإنما يمكن للدولة أن تجري على نمط آخر في أمر قبولهم وإسكانهم حرصًا على المنافع المتأتِّية من وجودهم في هذه البلاد في جانب الخزانة العثمانية، وذلك بألا تبيح لهم في كل قضاء شراء أكثر من قرية واحدة، وأن لا تُجيز لهم ابتياع قرية عامرة بأسرها، وأن يكون جميع ما يشترونه خرابًا لأجل أن يعمروه، وأن يدخلوا جميعًا في الجنسية العثمانية؛ كما هم جارون على ذلك إلى الآن، وأن تؤخذ عليهم الوثق الَّتي معها تُؤمَن غائلتهم، ويُستمتَع بفوائدهم دون أن يشوب الفائدة شيء من الخطر، أو يلحقها نتف من الضرر.

ولعمري إذا وجد منهم في كل قضاء قرية واحدة أو قريتان، فإنما ذلك نقطة من غدير، ولا يشعر بقوَّتِهم القوم، ولا يُحِسُّون بوطأة لهم، وأكثر البلاد الجنوبية من الشام بلاد إسلامية محضة، لو زدتها من اليهود بقدر ما هي عليه الآن أضعافًا ما خرجت عن كونها إسلامية.

ولما كان اليهود الداخلون إلى بلادنا يقبلون في الحال التابعية العثمانية، كنا نكسب بهم رعيَّة جديدة، وكان لا يُصِيبنا بسببهم من المشاكل مع الأجانب ما يصيبنا بسبب الأجانب المقيمين بين أظهرنا.

وما شوَّقني إلى الاستزادة قليلاً من سكنى اليهود، إلا ما رأيته من انتظام (زمارين) في قضاء حيفا، وما سمعته عن غيرها من قراهم، وحققته من استفادة بيت مال المسلمين من ارتفاع أملاكهم وريعها، وما أعلمه من ضرورة ازدياد دخل الولايات وأهمية المسألة الاقتصادية عندنا، وقد علمت أنَّ قرية زمارين هذه كانت خرابًا، فصارت جنة ناضرة، فحسبي أنه لو كان لهم في كل قضاء قريتان من نحو سبعين أو ثمانين قرية محيطة بهم، وكان دخل هاتين القريتين نحو خمسة أو ستة آلاف ليرة من أعشار وويركو، ورسوم وبدل عسكرية، وتمتع، وغير ذلك، وحسبنا في فلسطين وتخومها وجوارها عشرين قضاء، بلغ مجموع ما يزيد بسبب اليهود في دخل السلطنة نحو مائة ألف ليرة، وهذا ما عدا ما تستفيد الجمارك من مكوس البضائع الواردة باسمهم، وما يستفيده الفقراء من الشغل في أراضيهم مما يكتفون به مؤونة المهاجرة، ويسمنون به من جوعهم، وما يكون من منفعة الاقتداء بإتقان فلاحتهم وزراعتهم وإدخالهم الآلات الجديدة، وجريهم على الطرق الحديثة في إحياء الزرع والضرع.

فإذا اتَّسق لنا أن نَستفيدَ من زراعة اليهود أو صِناعَتِهم، وعمرنا بهم جانِبًا من أراضينا بدون أن يتمثَّل لنا من ورائِهِم شبحٌ سياسي، أو خيال ولو في الوهم، فلا نحجرن في الواسع، ولا نذهبن في الاحتياط أقصى مذاهب الوسواس، فإن الإفراط مثل التفريط، ومن طلب الزيادة وقع في النقصان، والبلاد محتاجة إلى المال والعمارة، واليهود قوَّامون على هذه الأمور بلا مراء، وقد قيل: إنهم لمَّا فارقوا إسبانيا صارت جسمًا بلا روح، وقد طُرِدُوا من فرنسا مرارًا في الغابر، وكانت حكومتها تستدعيهم بعد ذلك شعورًا منها بالحاجة إلى وجودهم فيها لتحريك التجارة، والأخذ والعطاء، وقد يظن الآن أنَّ بعض اليهود كلفني بالمدافعة عنهم وتسهيل أمرهم، والله يشهد أنَّني قد قرعت هذا الباب بسائق وجداني فقط، وفاتحة مقالي تؤيد ما أقول، ولكنني ممن يشعرون بحاجة البلاد إلى التقدم المادي.

وفي محفوظي أنَّه لمَّا فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه الإسكندرية كتب بهذا الفتح الجليل إلى الإمام عمر رضي الله عنه فكان من جملة ما عدَّده من محاسن المدينة المفتوحة بعد ذكر الحمَّامات والملاهي، وسائر آثار العمران قوله: "وفيها أربعون ألف يهودي يؤدون الجزية".

 

الأمير شكيب أرسلان