رسالة من أم الشهيد..أم الثورات

كم كانت هذه الثورات في مصر وليبيا ثم سوريا وما بعدها..، بمثابة الزلازل التي فجرت مشاعر دفينة كانت سجينة قمع وظلم، ومع أنها أحلت برائحتها العطرة في قلوبنا، فعلى الجانب الآخر غيرت مسارا وجلبت في قلوب الكثير من الناس من الأحزان والآلام والأوجاع. فهذه ضحية فارقت الحياة، وذاك شاب فقد أحد أطرافه أو أصابه الشلل والقعود، وتلك أم حزينة وأخت باكية وزوجة تأرملت وبنت تيتمت!!

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -


كم كانت هذه الثورات في مصر وليبيا ثم سوريا وما بعدها..، بمثابة الزلازل التي فجرت مشاعر دفينة كانت سجينة قمع وظلم، ومع أنها أحلت برائحتها العطرة في قلوبنا، فعلى الجانب الآخر غيرت مسارا وجلبت في قلوب الكثير من الناس من الأحزان والآلام والأوجاع. فهذه ضحية فارقت الحياة، وذاك شاب فقد أحد أطرافه أو أصابه الشلل والقعود، وتلك أم حزينة وأخت باكية وزوجة تأرملت وبنت تيتمت!!

وهذه كلمات أسوقها على لسان هؤلاء، أم أحد الذين نحسبهم شهداء لقوا نحبهم بعد أن خرجوا من بيوتهم مسالمين يطلبون الحق والعدل، ولسان أمهات أخرى ثكالى وحزانى، إحداهن فقد ولدها عينه، وأخرى فقدت زوجها وعائلها، وأخرى وأخرى فقدت أباها وعمادها...

(1)
إنني احمد الله سبحانه وتعالى الذي شرفني بهذه المنزلة منزلة أم الشهيد، لكن قلبي هو قلب الأم فإنه يتمزق بنوبة من الآلام، آلآم نار الفراق، فراق ولدي الذي ربيته وترعرع أمامي كالنبت يكبر يومًا بعد يوم، فهرمت وانحنى ظهري، وضعف بصري، وتهتكت قواي، حتى جهزته لعرس يزف... فاليوم جاؤوا به يحملونه غارقا في دمائه، فهل شعرتم بخفقان قلبي في هذه الحظة، هل شعرتم بنزع روحي من جسدي في هذه اللحظة، إنني لا أقول إلا لله ما أخذ ولله ما أعطى.
لكن ناري لن تنطفئ إلا عندما أجد أن كل المتورطين في سفك دم ولدي قد نالوا جزاءهم، فأشعر أن كل قطرة دم سالت على هذه الأرض لن تضيع هدرًا فحينئذ تنطفىء ناري وتهدأ ثورتي.

(2)
وأما أنا فأم من فُقئت عينه، فانظر لولدي الشاب وأتحسر عندما أراه يملأ كوب الماء فتخونه العين الأخرى السليمة وبدلا من أن يسكب الماء داخل الكوب فتنقلب حوله فكيف أتحمل ما أرى؟ أشعر بحزن ولدي على عينيه ولكن أشكو حزني وبثي إلى الله، ليس علي إلا الصبر فإنني احمد الله وأدعو على كل من كان سببًا في هذه المصيبة أن يجعل الله سبحانه الدنيا أمامه مظلمة ظلمة كظلمة الليل القاتم وحينئذ استشعر بتحقق القصاص.

(3)
وأنا أم من فقد أطرافه، فصار مشلولا فيها، حزينًا على قعوده، كئيبًا في نظرته للحياة والأمور من حوله، يسمع جري الشباب وحركتهم وينظر لنفسه فيبتئس، إنني أمه التي تتعذب برؤياه وتتألم لحاله، لكنني أحتسب ذلك عند الله وأنتظر من ربي الثواب.

(4)
إن الحرية غالية... وقد قتل أبي بثمن بخس، فأنا ابنة الشهيد الذي فقد حياته ثمنًا لهذه الحرية، أطلقت رصاصة طائشة من قلب ظالم فاخترقت صدر أبي الذي هو عائلنا الوحيد فماذا نفعل دونه في هذه الحياة؟! فكما تغيرت حياتي وانقلبت بعد استشهاد أبي وعلى قدر ما أنا فيه وأخوتي وأمي من المعاناة فلن أتنازل عن التغيير، وهذا التغيير لابد أن يكون واضحًا في كل شيء فعندما أجد التغيير الحق حينئذ اشعر بالقصاص.

(5)
ربما عندما نجد دماء شهدائنا التي روت أراضي الصحراء قد أنتجت بها الخضرة، وأجد التحري لكل رموز الفساد والتمكن من الوصول إليهم ومعاقبتهم، وأجد الهمة والمسارعة في استرداد أموال بلادنا التي نهبها هؤلاء، فيتم حصرها وجمعها والاستفادة منها في استصلاح وزيادة التنمية وبناء المصانع المتعددة بأنواعها وبناء المستشفيات الراقية التي تستعد لاستقبال كافة أفراد الشعب، وعندما أجد رجال الدولة يمرون بالشوارع يتفقدون أحوال المسلمين كما كان يفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتتضح لهم صورة الفقراء والثكالى والايامى والمعدمين والطامحين والمغلوبين على أمرهم. وعندما أجد همتهم في بناء وزيادة المشاريع التي تؤوي الناس وتحصر وتجمع الشباب الذين أصابهم الاكتئاب بسبب عدم توفير المسكن الذي يؤويهم والزوجة التي ترعاهم. وعندما أجد نهضة علمية واهتمامًا بعلماء بلادنا وعقولهم، إذ هم بمثابة الكنوز الذهبية التي لو تمت العناية بها ووضعها في أماكنها الصحيحة سيتم من خلالها تطوير كافة أوجه التخلف وسوف نعوض بعقولهم كل الخسائر التي سادت من جهل الاستبداد القديم. وعندما يتولى أمورنا خيارنا ويوضع كل امرئ في مكانه المناسب، و ينتهي الإدمان والإباحية، وتسكن القلوب وتطمئن إلى الفضيلة بعمل جاد وجهد مسئول.

وحينما أجد أن طبقات الشعب كلهم سواء، فينتهي زمن الفقراء بكفاية كل احتياجاتهم والنهوض بهم بكافة الطرق، وحينما ينتهي عهد البطالة وتنمى المشاريع التي تتيح الفرص للعديد من العاملين للاستفادة منهم ومن طاقتهم المخزونة، فلا مجال للانحراف فيدخل أحدهم في دائرة العمل المثمر له ولأمته. وعندما أجد الاهتمام بالمدارس والتدريس واختيار أمهر المدرسين ويتم اختيار المتخصصين في إدارتها فينتهي زمن الدروس الخصوصية وزمن استنزاف دم الأهالي ومعاناتهم في تعليم أولادهم فتكون المدرسة كافية لتخرج الطالب المتفوق حقًا. وعندما تنتهي الرشوة والمحسوبية، والوصولية والانتهازية، والتنمر إلى كل مركز مرموق والإشرئباب نحو كل مكانة عليا. وعندما أجد رياح الإيمان تنتشر في سماء الأمة مليئة بالرغبة في الإصلاح والرفق في تغيير المنكر، والدعوة إلى الإصلاح بالحكمة والموعظة الحسنة.

عندما أجد انه قد تحقق ذلك فحينئذ استشعر بالقصاص العادل والنتيجة الواضحة لثورة القلوب والأرواح.


أميمة الجابر - 28/6/1432 هـ