المسلمون بين المقهى والبرلمان

أحمد إبراهيم خضر

"إنَّ للذلِّ ضريبةً كما أنَّ للكرامة ضريبة"، وإنَّ ضريبة الذل لأفدَحُ في كثيرٍ من الأحايين، وإنَّ بعض النُّفوس الضعيفة ليُخيَّل إليها أنَّ للكرامة ضريبةً باهظة لا تُطاق، فتختار الذلَّ والمهانة؛ هَرَبًا من التكاليف الثقال، فتعيش عيشةً تافهةً رخيصة مُفزِعة مُقلِقة تَخافُ من ظلِّها، ولتجدنَّهم أحرَصَ الناس على حياة، إنهم يؤدُّون ضريبة الذل من نُفُوسهم، ومن أقدارهم، ومن سُمعتهم، ومن اطمِئنانهم، وكثيرًا ما يُؤدُّونها من دِمائهم وأموالهم وهم لا يَشعُرون.

  • التصنيفات: تربية النفس -


مقدمة

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"إنَّ للذلِّ ضريبةً كما أنَّ للكرامة ضريبة"، وإنَّ ضريبة الذل لأفدَحُ في كثيرٍ من الأحايين، وإنَّ بعض النُّفوس الضعيفة ليُخيَّل إليها أنَّ للكرامة ضريبةً باهظة لا تُطاق، فتختار الذلَّ والمهانة؛ هَرَبًا من التكاليف الثقال، فتعيش عيشةً تافهةً رخيصة مُفزِعة مُقلِقة تَخافُ من ظلِّها، ولتجدنَّهم أحرَصَ الناس على حياة، إنهم يؤدُّون ضريبة الذل من نُفُوسهم، ومن أقدارهم، ومن سُمعتهم، ومن اطمِئنانهم، وكثيرًا ما يُؤدُّونها من دِمائهم وأموالهم وهم لا يَشعُرون.

والذلُّ لا يَنشَأ إلا عن قابليَّة للذلِّ في نُفوس الأذلاء، وهذه القابليَّة هي وحدَها التي يعتمد عليها أصحاب السُّلطان.
هذا على مستوى الجماهير، أمَّا على مستوى أصحاب السُّلطان وأصحاب الدعوات، فإنَّ الأوَّلين يستَدرِجون الأخيرين دائمًا، فإذا سلَّم الأخيرون في الجزء فقَدُوا هيبتَهم وحَصانتهم.
ومِن قواعد اللعبة التي تحكُم العلاقة بينهما: أنَّ القوي يأكُل الضعيف، ولا يُتاح للضعيف من خِلالها أنْ يُغافِل القوي فينتزع مِن يده شيئًا مِن السُّلطان".

استوقفَتْني هذه الكلمات وأنا أسطر بعضًا ممَّا شاهدته وتابعتُه في بلادي؛ فأفزعني وأقلقني، القسم الأول من هذا الكُتيِّب يتحدَّث عن الحياة التافهة الرخيصة التي يعيشها الناس، والقسم الثاني يتحدَّث عن ضريبة الكرامة التي يدفَعُها مَن يُحاوِل أنْ يرفع الناس من حالة الذلِّ التي هم فيها إلى حالة الكرامة، أمَّا القسم الثالث فيتحدَّث عن لعبة استدراج أصحاب الدعوات والواقع الذي يُمكن أنْ تنتهي إليه هذه اللعبة طالما أنَّ القاعدة العريضة من الناس تأبى إلا أنْ تعيش حياةً تافهة رخيصة.

(1) ضريبة الذل:
عُدت إلى بلادي بعد غيبة بضعة سنوات، كنتُ أظنُّ أنَّ هناك أشياء كثيرة قد تغيَّرت، وأنَّ وجه الإسلام باتَ يكسو شوارعها ومنازلها، ومدنها وريفها، وفَتياتها وشَبابها، وكل شيء فيها، لكنَّ الواقع كان مُرًّا محزنًا، لم يكن الإسلام إلا ابتسامة باهتة على شِفاه الناس، أحكَمَ النصارى قبضتَهم على اقتصاد البلاد، كلَّما ذهبت لأشتري شيئًا وجدتُ البائع نصرانيًّا، وإذا اشتريت دَواءً وجدت الصيدلي نصرانيًّا، وإذا نظرت إلى لافتات الأطبَّاء والتجار والمحامين وغيرهم وجدت النصارى يشغلون حيِّزًا مهمًّا منها، ينفذ الصليبيون مخطط الأب الحاقد على الإسلام وفْق سياسة (بطيء.. لكنه أكيد المفعول)، عمارات سكنيَّة بكاملها لا يسمح لمسلم أنْ يمتلك فيها شيئًا، لقد قوي نُفُوذُهم إلى درجة أنَّه أصبحت لدَيْهم القُدرة على إيقاف بناء المساجد التي خُطِّط لبنائها بالفعل، في حين أنَّك تلمَحُ أعمدة الكنائس الجديدة تعلو هنا وهناك.

إذا ألقيت على أحدهم السلام وأنت لا تعرفه فإنَّه قد لا يردُّ عليك، وكما تحرَّك النصارى على المستوى المادي فإنهم قد تحرَّكوا أيضًا على المستوى النفسي وبنفس القوَّة، فما عليك إلا أنْ تفتح صفحة الوَفَيَات في واحدة من كُبرَيات الصحف في البلاد لترى كيف يَصُوغون أسلوب نعْي موتاهم، فلا تعتقد إلا أنهم يوازون المسلمين في أعدادهم، هذا الذي أرادَه الأب الحاقد وتلاه على شعب الكنيسة.

عامَّة الشعب المسلم المسكين لا يدري شيئًا عمَّا يُدبِّره الصليبيون، وخاصَّة هذا الشعب يسلمون أطفالهم بأيديهم إلى مدارس النصارى؛ حيث المستوى الرفيع وتعليم اللغات، ولا يُدرِكون مَقاصِدهم الخفيَّة لتنصير أطفالنا، أو على الأقلِّ تخريجهم بعقيدةٍ مهزوزة قوامُها حبُّ النصارى وتحييد مشاعرهم نحوهم، ك?ت أعتقد أنَّ الناس في بلادي مطحونة في البحث عن لُقمة العيش، وأنهم ينتقلون من عملٍ إلى آخَر على امتداد اليوم بحثًا عمَّا يمكنهم من سدِّ أفواه أطفالهم الجائعين، فإذا بي أجدُ المقاهي مكتظَّة بالناس، الشيشة في أفواههم، والطاولة أمامهم، والنرد في أيديهم، والسيجارة لا تُفارِقهم، لا شيء يشغل بالهم، كلُّ اهتمامهم منصبَّة على متابعة الكرة والأفلام والمسلسلات والحلقات الغربيَّة، والانتقال من دور السينما إلى صالات المسرح!

كنت أظنُّ أنَّ الأزمة الاقتصاديَّة في بلادي قد حجمت من فرص الزواج، لكنَّك لا تكاد تمرُّ بضعة أيام إلا وتجد العديد من الأفراح تقام، صحيحٌ أنَّ عقود النكاح تُعقَد في المساجد لكنَّ ذلك من قبيل التبرُّك فقط، فبعض الناس يحيي أعراسَها في الفنادق براقِصٍ وراقصة ومطرب ومطربة، وبعضهم يُحييها في أماكن فسيحة قريبة من منازلهم، وبعض الناس تخلَّوا عن الاستعانة براقصة محترفة ربما اقتصادًا في النفقات، ولكنهم استعاضوا عنهنَّ براقصين وراقصات من نفس المدعوِّين والمدعوَّات الذين يشاركون أهل العروسين فرحتَهم بأجسادهم وعصيِّهم وأكفِّهم وغِنائهم وضحكاتهم، وكاميرات الفيديو تُسجِّل هذه اللحظات النادرة في حياة العروسين، وعيون الكاميرا تتحرَّك لتُتابِع كلَّ قطعة تتحرَّك في أجساد الراقصات المدعوَّات، والأدهى أنْ تجد من المدعوَّات محجَّبات يرقصن ويتمايَلن مشاركةً منهنَّ للعروسين، ولا يتصوَّرنَ أبدًا أنَّ في ذلك حرمة، بل يعتقدن أنَّه سيُغفَر لهنَّ لأنهن محجبات!

هناك فِرَقٌ جديدةٌ أخَذت مكانها في الأحياء الشعبية لإحياء الأفراح، تتكوَّن الفرقة من بضعة شباب يرتدي زيًّا مُوحَّدًا فاقع اللون، وتُحيي العُرس على أنغام "الأورج" الكهربائي وأصوات الطبل العنيف، وقد اختارت بعض هذه الفِرَق (الجبة والقفطان والعمامة)، زيًّا لها؛ لتعرف إلى أيِّ حد وصلت سخرية الناس بلباس المشايخ، العروس في ثوبها الأبيض الذي يكشف الصدر والكتفين إنْ لم يكونا عاريين أصلاً، يَراها كلُّ الناس رجالاً ونساءً في أبهى حُلَّة بأصباغها وشعرها، وعروسها الديُّوث يَجلِس بجانبها يُوزِّع ابتساماته وتلويحاته على المعجَبِين بعروسه، ثم يُشارِكهم مع عَروسه الرَّقص والأغاني، وإذا تحدَّثت عن فرحٍ إسلامي مطُّوا لك شِفاهَهم، ولوَّوا أعناقهم، وقالوا لك: "إنها ليلة فرح، ليلة واحدة في العمر، دع الناس تفرح يا أخي"! وكأنما حرَّم الإسلام على العروسين الفرح، ثم أكَّدوا لك على أنَّ الله لا يُحاسِب على ما يجري في هذه الليلة، وكم تُصاب بالإحباط وأنت ترى كلَّ ذلك إمَّا والصلاة تُقام، أو في دار المناسبات الملحَقة بالمسجد، وكم تَبكِي حُرقةً وأنت ترى أمَ? العروس امرأة محجبة ملتزمة بصلواتها وحجَّت إلى بيت الله الحرام، ووالد العروس رجل يُعلِّم الناس أمور الدِّين، ولكنَّهما مقتنعان بأنَّ العروس لا بُدَّ أنْ تفرح، وأنَّ الله لا يحاسب على ما يجري في هذه الليلة!

مَن قال: إنَّ الحركة السياحيَّة ضُرِبت في بلادي؟! قد شاهَدتُ بنفسي أرتالاً من الحافِلات الضخمة تحمل السيَّاح هنا وهناك، يزورون آثارنا الغابرة، وموتانا المحنَّطين، ويتعرَّفون على حَضارتنا العظيمة اللا إسلامية بالطبع!

كنت أركب حافلة عامة ذات يوم، فرأيت سائق الحافلة يُتابِع بنظراته من النافذة (تاكسي) يحمل سياحًا؛ سائح شابٌّ في وضع جنسي فاضح مع رفيقته، اعتَقَدَ السائق الساذج بعقليَّته الشرقيَّة المحافظة أنَّ مجرَّد النظر إليهما فقط سيجعلهما يتواريان خجلاً وحياءً ممَّا يفعلان، فإذا بهما يَنظُران إليه ويضحكان، شكَا السائق لجاره هذا الحال وهذا الانحلال الذي دخل إلى بلادنا ويُمارَس جهارًا نهارًا عيانًا بيانًا، والويل كل الويل لِمَن يفتح فمه أو يقلق راحة السائحين والسائحات، حتى ولو كانوا في أوضاعٍ يحاسب عليها القانون مَن يفعلها من أهل البلاد.

ما زالت الجامعة الأمريكية في بلادي شامخة قويَّة، ولم يكتفِ الأمريكيون بمحْو هويَّة المثَقَّفين، بل امتدَّ أُخطُبوطهم إلى طلاب وطالبات المراحل المتوسطة والثانوية، بل وعلى عامة الشعب، تحت ستار خدمات تعليم اللغة أو التدريب على الإدارة والكمبيوتر أو غير ذلك، شارَكهم هذه المهمة المجلسُ البريطاني والمركزان الفرنسي والألماني وغيرهما، وظهرت حديثًا في بلادي المدارس الأمريكية والبريطانية التي تُقدِّم شَهاداتها لاستقطاب الأبناء الذين ضاعت هويَّة آبائهم من قبلُ، أو الراغبين الطامحين في الهويَّة الغربيَّة.

مكتبة الجامعة الأمريكية في بلادي معقل لا مُنافِس له ولا نظير له ولا حتى مكتبات أعرق الجامعات عندنا يؤمُّها الأستاذ الكبير والطالب المبتدئ، إنها تَحوِي أحدَثَ المراجع والدوريات، وتضمُّ بين جنباتها أنفَسَ كتب التراث التي يتعذَّر على الباحث أنْ يعثر عليها حتى في مكتبات الجامعات الدينيَّة، ومنذ أنْ وطئتْ قدمي أرض مكتبة الجامعة الأمريكيَّة من حوالي ربع قرن وحتى الأمس القريب وأنا أشاهد منظرَيْن لا يختفيان أبدًا: الباحث الأجنبي منهمك في بحوثه ودِراساته عن بلادنا، والفتى والفتاة من أبناء بلادي وبناتها على المقاعد منهمكان في الأحضان والقبلات والعناق وما وراء ذلك.

قد تفرَح وأنت تُشاهِد الحجاب وقد غزا الجامعة الأمريكيَّة، لكنه سرعان ما تُدرِك أنَّه حجابٌ ذو سمتٍ أمريكي، إلا مَن رحم الله.

تركتُ العاصمة هَرَبًا من زحامها وحرِّها وتلوُّثها ل?قضي بضعة أيام في المدينة الثانية في بلادي، فما وجدت حالها بأرحم من حال العاصمة، إذا اخترقتَها بطولها وتابعتُ فقط أسماء محلاتها التجارية، شعرت أنَّك إمَّا في بريطانيا أو في فرنسا، أقمتُ فترةً من الوقت في منطقة تبعُد عن وسط المدينة كثيرًا، وذهبت لأشتري بعض المفروشات والأجهزة الكهربائيَّة، فوجدت أنَّ أصحابها كلها نصارى، استبشرت بمحلٍّ جديد لم يفتح أبوابه وانتظرت حتى افتتح، فإذا بصاحبه نصراني كذلك، الحديث لا ينقطع لعامَّة الناس عمَّا يجري من عربدة في الشواطئ، لا تشعر إلا بفارقٍ قليل بينها وبين ما يجري على شواطئ الأطلنطي، ناهِيك عن شَبابنا الذي يخترق الطريق بسُرعة البرق بسيَّارته، التي لا تسمع منها إلا صوت الموسيقا والأغاني الأجنبيَّة التي لا يعرف معنى كلمة واحدة فيها، السيدات والفتيات وحتى البنات الصغار يرتدين إمَّا البنطلون أو الشورت أو الجيبة القصيرة، يأكُلن الذرة و"الأيس كريم"، ويمشين يتهادين وعيون الرجال والشباب تُتابِعهن إنْ لم تُغازِلهن، الأغاني ذات الإيقاعات الشديدة والكلمات الشعبيَّة تملأ كلَّ شارع وكلَّ بيت، وكلَّ سيارة وكلَّ محل.

الغناء والرقص والتصفيق وألعاب الفيديو تستمرُّ إلى ساعةٍ مُتأخِّرة من الليل، ورغم ذلك فإنَّ الأذان يَقرَع الأسماع عند كلِّ وقت للصلاة، لكنَّ الملبِّين لنداء الصلاة قليلون، بعض الباعة يستَفتِحون بيعَهم على القُرآن الذي يُبَثُّ من الراديو، لكنَّك لا تلبث أنْ تجدَ مَن يخرُج من نافذة شقَّته ليَصِيح ويَصرُخ ويطلب غلق الراديو، قال له البائع: إنَّه القرآن، فردَّ الرجل: "لا أريد سماع قرآن".

حضرتُ خطبة جمعة هناك، ثم سألت الخطيب المسنَّ: ألا من كلمةٍ تحثُّ فيها الناس على التوقُّف عن هذه المعاصي، أجابني بأنه فعل ذلك ثم أردف بسرعة: هل أعجبتك خطبتي؟
وإذا تابعت خطب الأئمَّة في المساجد لا تجدُ فيهم إلاَّ ما ندر مَن يوقظ الناس من سباتها العميق، أو يربط لها حياتها اليوميَّة بدِينها، أو يُحذِّرها من مُخطَّطات اليهود، أو يُحدِّثها عن مجازر الصِّرب والهنادكة ضدَّ المسلمين؛ من تدميرٍ للبيوت وللمساجد، ومن ذبح واغتصاب للمسلمين، وبيع أعضائهم والتجارة فيها في المستشفيات الغربيَّة لكلِّ مَن يريد أنْ يشتري.

الإسلام في وادٍ والناس في بلادي في وادٍ آخَر، وفي غير صلاة الجمعة تَكاد المساجد تخلُو من رُوَّادها إلا ما ندر، الأذان يُسمَع والصلاة تُقام وعلى بُعد ثلاثة أمتار فقط يَتسامَر الناس في المقهى يلهون ويلعبون وكأنَّ الأذان ليس لهم!
اختلطت الأوراق كلها، فكم تشعر بالأسى وأنت ترى التليفزيون يسبق الأذان بآلة الناي أو آلة القانون، وهي تُرنِّم: "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله" حتى نهاية الأذان، أو ترى مدحًا للنبي أو دُعاء لله على أنغام الموسيقا، وأصوات المطربين والمطربات وحركات الراقصات (المحجبات) اللاتي تتمايَلن يمنةً ويسرةً ابتهالاً إلى الله وحُبًّا في نبيِّه!

المسلمون في بلادي مشغولون بالاحتفال بالموالد؛ مثل مولد "سيدي المظلوم"، هرج ومرج، ولهوٌ ولعب، وازدحام ونشل حتى الفجر، خِيام يختلط فيها الرجال والنساء؛ يَأكُلون ويشربون، وينامون ويذكرون، ويطبلون ويضحكون، ويتسامرون معًا، من الصعب عليك أنْ تخترق هذا الزحام لتصل إلى ما تريد، كلُّ ذلك تحت حماية وسمع وبصَر الشرطة التي تُنظِّم المرور وتُراقِب الموقف، حتى ينتهي الناس من الاحتفال بسيدي المظلوم بسلام، لا أقول: إن الإسلام قد مات في قلوب الناس في بلادي، إنَّه ما زال حيًّا حتى وهم على المعصية، تراه حيًّا في ترحيبهم بكلِّ ما يَرمُز عندهم إلى الدِّين، تَراه حيًّا وأنت ترى امرأةً (محجبة) تَقُودُ كلبًا، ثم ترى بضع فتيات (متبرجات) يستَوقفنَ هذه المرأة ليُحاسِبنها على هذا السلوك المُتَناقِض، كيف تسمَح لنفسها بأنْ تتمشَّى مع الكلب وهي تعلم موضع النجاسة فيه بصفتها امرأةً محجبةً، ونسَيْن أنهنَّ بتبرُّجهن على معصيةٍ لله عز وجل لكنَّك تلمس غُربة الإسلام وأنت تسمَعُ المرأة تستند إلى واقعة الكلب مع الفتية في سورة الكهف؛ لتُبرِّر سُلوكها للفتيات (المتبرجات)، ترى الإسلام حَيًّا في قُلُوب الناس في بلادي، إنهم مُجاملون وقادِرون على التغيُّر في أقل من دقيقة من النقيض إلى النقيض، ركبتُ مصعدًا في إحدى الشركات، كلُّ مَن كان فيه من عمَّال وموظفي هذه الشركة كانوا جميعًا بما فيهم عامل المصعد يتناقشون بحدَّة وحماس في أمر الكرة واللاعبين والمباريات.

كنت أنا الوحيد الغريب بينهم، فلمَّا لمحني عامل المصعد صامتًا لا أتكلَّم قطَع على الناس حديثَهم ثم قال لهم: "بلا كورة بلا كلام فارغ، ده كفاية تفتحوا إذاعة القرآن الكرم نصف ساعة، دي بالدنيا كلها".
الصورة إذًا ليست قاتمةً تمامًا، لا يخلو الأمر من مُصلِّين في المساجد، ومن فتاةٍ محجبة هنا ومنتقبةٍ هناك، وشباب طيب مُبَعثر على امتداد المدينة، ومن مسجدٍ يكتظُّ بِمُصلِّيه الذين ينتَظِرون كلمات نابعة من القلب لِخَطِيبٍ جَرِيء لا يَخشَى إلا الله، ومن إعلانات تدعو الناس لصلاة العيد في الخلاء، وأخرى تُذكِّرهم باتِّباع سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن دَعواتٍ للتفاعُل مع المسلمين في البوسنة وكفالة أيتامهم، ومن عِيادات طبيَّة ذات طبيعة إسلاميَّة، ومن أعراس إسلاميَّة، ومن نِقابات يُسَيْطِرُ عليها الإسلاميون، ومن صحف تحتجُّ على هدْم سُلَّمِ أحد المساجد، ومن أصواتٍ تقول كلمةَ حقٍّ احتجاجًا على دعوات الإجهاض والحريَّة الجنسيَّة.

(2) ضريبة الكرامة:
"إنَّني أُخالِفك يا سيدي كلَّ المخالفة في هذا الذي تقول، وأعتقدُ أنَّ الأمر لا يعدو أنْ يكون ضعفًا فقط وقُعودًا عن العمل وهُروبًا من التَّبِعات، من أيِّ شيء تخافون: من الحكومة؟ أم من غيرها؟ يكفيكم معاشكم، واقعدوا في بيوتكم واعملوا للإسلام، فالشعب معكم في الحقيقة لو واجهتموه؛ لأنَّه شعب مسلم، وقد عرفته في المقاهي وفي المساجد، فرأيته يفيض إيمانًا، ولكنه قوة مهملة، إنَّ هؤلاء الملحدين والإباحيِّين وجرائدهم ومجلاتهم لا قيامَ لهم ولها إلا في غفلَتِكم، ولو تنبهتم لدخلوا جحورهم!

يا أستاذ، إنْ لم تريدوا أنْ تعملوا لله فاعملوا للدنيا وللرغيف الذي تأكُلون، فإنَّه إذا ضاع الإسلام في هذه الأمَّة ضاع كلُّ شيء، وضاع العلماء فلا تجدون ما تأكلون ولا ما تُنفِقون، فدافِعُوا عن كيانكم إنْ لم تدافعوا عن كيان الإسلام، واعمَلُوا للدنيا إنْ لم تريدوا أنْ تعمَلُوا للآخرة، وإلا فقد ضاعَتْ دُنياكم وآخِرتكم على السَّواء".

قال الشاب هذه الكلمات أمام لفيفٍ من العلماء والوجهاء في تأثُّرٍ وشدَّة وقلبه محترقٌ مكلوم بعد أنْ رأى بعينه كيف اشتدَّ تيَّار موجة التحلُّل في النُّفوس وفي الآراء والأفكار، باسم التحرُّر العقلي، ثم في السلوكيَّات والأخلاق والأعمال، ولمس بنفسه كيف كانت موجة الإلحاد والإباحية قويَّة جارفة طاغية، لا يقف في طريقها شيءٌ، وتساعد عليها الحوادثُ والظُّروف، شاهَد الشابُّ بنفسه كيف تحوَّلت الجامعة إلى آلةٍ تُدِيرها الدولة، وكيف تُسَيطِر على عقول أفرادها فكرةُ أنَّ الجامعة لن تكون علمانيَّة، إلا إذا ثارَتْ على الدِّين، وحاربت التقاليد الاجتماعية المستمدَّة منه، واندفعت وَراء التفكير المادي المنقول من الغرب بحذافيره، وعُرِف أساتذتها وطلابها بالتحلُّل والانطلاق من كلِّ القيود.

صرَخ الشابُّ بهذه الكلمات بعد أنْ شاهَد بنفسه كيف أنَّ أحزابًا كانت على وشك أنْ تُولَد ولم يكن لها منهاج إلا الدعوة إلى الحريَّة والديمقراطية بالمعنى المعروف لهما، وهو: التحلُّل والانطِلاق.
عاصَر الشابُّ إنشاءَ المَجمَع الفكري الذي كانتْ تُشرِف عليه هيئةٌ من التيوصوفيين، وتُلقَى فيه الخطب والمحاضرات التي تُهاجِم الدِّين وتُبشِّر بوحي جديد، كما عاصَر الشاب أيضًا ظهورَ الكتب والمجلات والصحف التي كانت تنضَحُ بهذا الفكر الذي لا هدفَ له إلا إضعاف أثَر الدِّين أو القضاء عليه في نُفُوس الشعب؛ لينعم بالحريَّة فكرًا وعملاً كما يدَّعي أصحابه، ورأى كذلك هذه الصالونات التي كانت تُجهَّز في كثيرٍ من الدور الكبيرة الخاصَّة في العاصمة، والتي كان يَتطارَح فيها زوَّارها مثلَ هذه الأفكار، ويعمَلُون بعد ذلك على نشْرها بين الشباب في مختلف الأوساط، صحيحٌ أنَّه كان لهذه الموجة ردُّ فعل قوي في الأوساط الخاصَّة المعنيَّة بأمر الإسلام، لكنَّ جمهرة الشعب حينذاك كانت إمَّا من الشباب المثقَّف المعجَب بما يسمَع من هذه الأفكار، وإمَّا من العامَّة الذين انصرَفُوا عن التفكير في هذه الأمور، فلا مُنبِّه ولا مُوجِّه لهم، كان الشابُّ وهو يُتابِع ويرى ويسمع ويُعايِش هذه الموجة من الإلحاد والتحلُّل يتألَّم أشدَّ الألم، كان يرى بلادَه تتأرجَحُ في حَياتها الاجتماعيَّة، بين إسلامها العزيز الذي ورثَتْه وحمَتْه وألفَتْه وعاشتْ به واعتزَّ بها أربعة عشر قرنًا كاملاً، وبين هذا الهجوم العنيف المسلَّح المجهَّز بكلِّ الأسلحة الماضية الفتَّاكة من المال والجاه والمظهر، والمنعة والقوَّة ووسائل الدعاية.

هدَأتْ نفْس الشابِّ بعضَ الشيء بعد أنْ أفضَى بهذا الشعور إلى كثيرٍ من زُمَلائه وإلى بعض المشايخ الذين كان يَشعُر منهم باقتناعهم بوُجوب القيام بعملٍ إسلامي مضادٍّ.

التَقَى الشابُّ بجمهرةٍ من أعلام الناس المعروفين بغيرتهم الإسلامية وحميَّتهم الدينيَّة، وكان يسمع منهم بعضَ ما ينفس عنه، وكان يُقدِّر بعض جولاتهم القويَّة الموفَّقة في ردِّ هذا الكيد عن الإسلام، لكنَّ الشابَّ لم يكن يرى أنَّ هذا القدر يكفي ولا يشفي، خُصوصًا بعد أن اشتدَّ التيَّار، وصار يُراقِب هذين المعسكرين؛ فوجَدَ أنَّ معسكر الإباحيَّة والتحلُّل في قوَّة وفتوَّة، ومعسكر الإسلامية الفاضلة في تنقُّص وانكماش، اشتدَّ القلق بالشاب وانتابَتْه حالةٌ من أرَق شديد، ولم يجد النوم إلى جفنه سبيلاً من شدَّة التفكير في هذا الحال، فاعتزم أمرًا إيجابيًّا، وقرَّر أن يُحمِّل هؤلاء العلماء والأعلام هذه التَّبِعة، وأن يدعوهم في قُوَّةٍ إلى التكاتف لصدِّ هذا التيَّار، فإن استجابوا فذاك، وإلا كان له شأنٌ آخَر، فصحَّ عزمه وشمَّر عن ساعديه واستعدَّ للتنفيذ.

كان الشابُّ قد قرأ كثيرًا لأحد كبار العلماء الذي كانت تربطه معه صلة روحيَّة وعلميَّة، وكان يعرف أنَّ لهذا العالم صلات بعلماء آخَرين ووُجَهاء ورجال إسلاميين، وكان يعرف كذلك أنهم يحبُّونه ويُقدِّرونه، فعزم على زيارته في منزله ومُكاشَفته بما في نفسه، والاستعانة به في تحقيق أفكاره في الذَّود عن الإسلام، ذهَب الشابُّ إلى منزل هذا العالِم وتحدَّث معه في الأمر، فأظهر العالم الألم والأسى، وأخَذ يُعدِّد مظاهر الداء والآثار السيِّئة المترتِّبة على انتشار ظاهرة التحلُّل في الأمَّة، وخلص من ذلك إلى ضعْف المعسكر الإسلامي أمامَ هؤلاء المُتَآمِرين عليه، ثم بيَّن كيف أنَّ جُهودًا عد?دة ومُكثَّفة بُذِلت لمواجهة المنصِّرين والملاحدة، وانتهى إلى أنَّه لا فائدة من كلِّ هذه الجهود، وأنَّ الأحرى بالإنسان أنْ يعمل لنفسه، وأنْ ينجو بها من هذا البلاء، وأوصاه أنْ يعمل بقدر الاستطاعة وأنْ يدع النتائج لله، فالله لا يُكلِّف نفسًا إلا وُسعها، لم يُرضِ ولم يعجب الشابَّ قولُ هذا العالم، فأخذَتْه فورة الحماسة، وتمثَّل أمامه شبَح الإخفاق الراعب؛ إذ كان هذا الجواب هو جواب كلِّ مَن يُحدِّثه في هذا الأمر فقال في قوَّة: "إنَّني أخالفك يا سيدي كلَّ المخالفة في هذا الذي تقول، وأعتقد أنَّ الأمر لا يعدو أنْ يكون ضعفًا فقط وقُعودًا عن العمل وهُروبًا من التِّبِعات... من أيِّ شيء تخافون...؟".

بعد أن انتهى الشاب من كلماته هذه انبَرَى أحد الشيوخ الجالسين يردُّ عليه في قسوة، واتَّهمه بأنه أساء إلى العالِم وخاطَبَه بما لا يليق، وأساء إلى العلماء، وأساء إلى الإسلام القوي العزيز، الإسلام الذي لا يضعف أبدًا؛ لأنَّ الله تكفَّل بنصره، وقبل أنْ يردَّ الشاب قامَ أحد الوجهاء الحاضرين وقال: "لا يا أستاذ، من فضلك، إنَّ الحق عند هذا الشاب؛ يجب أن تنهضوا، إلى متى هذا القعود؟ هذا الشاب لا يريد منكم إلا الاجتماع لنُصرة الإسلام، إنْ كنتم تريدون مكانًا تجتمعون فيه فهذه داري تحت تصرُّفكم، افعلوا بها ما تريدون، وإنْ كنتم تريدون مالاً فلن نعدم المحسنين من المسلمين، أنتم القادة فسيروا ونحن وراءكم، أمَّا هذه الحُجَج فلم تَعُدْ تنفع بشيء".

انقَسَم المجلس بعد تعليق هذا الوجيه وكلمته إلى فريقين: أحدهما يُؤيِّد رأي الشيخ، والآخَر: يُؤيِّد رأي الوجيه، والعالِم ساكتٌ، ثم بدا له أنْ ينهي هذا الأمر فقال: "على كلِّ حال نسأل الله أنْ يُوفِّقنا للعمل بما يُرضِيه، ولا شك أنَّ المقاصد كلها مُتَّجِهة إلى العمل، والأمور بيد الله".
انتقل الحاضرون جميعًا بعد ذلك للإفطار في منزل شيخٍ جليل آخَر، فقد كان الشهر وقتَها رمضان، وبعد الإفطار دعا المضيف بحلويات رمضان فقُدِّمت، وتقدَّم العالِم ليأكُل من هذه الحلويات، فدنا الشاب منه، فلمَّا شعر به العالم قال له: أجئت معنا ها هنا أيضًا؟ قال الشاب: نعم يا سيدي، ولن أفارقكم إلا إذا انتهينا إلى أمرٍ، فأخذ العالم بيده بعضًا من الحلوى وناوَلها للشاب وقال له: خُذْ هذه وإنْ شاء الله نُفكِّر.

فقال الشاب: سبحان الله! إنَّ الأمر لا يحتمل تفكيرًا، ولكنَّه يتطلَّب عملاً، ولو كانت رغبتي في هذه الحلوى لاستطعت أنْ أشتريها وأظل في منزلي ولا أتكلَّف مشقَّة زيارتكم، يا سيدي، إنَّ الإسلام يُحارَب هذه الحرب العنيفة القاسية ورجاله وحماته وأئمَّة المسلمين يقضون الأوقات غارِقين في هذا النعيم؟ أتظنُّون أنَّ ا?له لا يحاسبكم على هذا الذي تصنَعُون؟ إنْ كنتم تعلَمون للإسلام أئمَّة غيركم وحُماة غيركم فدلُّوني عليهم؛ لعلي أجدُ عندهم ما ليس عندكم.

وهنا فاضَتْ عينا العالِم بدمعٍ غزير بلَّل لحيتَه، وبكى بعض مَن حضَر، وسادَ الصمت بالمكان وقطَع العالم هذا الصمت بأنْ قال في حزن عميق وفي تأثُّر بالغ: وماذا أصنع يا فلان؟ مُوجِّهًا حديثه إلى الشاب، فقال الشاب: الأمر يسيرٌ يا سيدي، ولا يُكلِّف الله نفسًا إلا وُسعَها، لا أريد إلا أنْ تحضر أسماء مَن تَتوسَّم فيهم الغيرة على الدِّين من ذَوِي العلم والوجاهة والمنزلة؛ ليُفكِّروا فيما يجب أن يفعلوه: تصدرون ولو مجلة أسبوعية أمام جرائد الإلحاد والإباحية، تكتبون رُدودًا وكتبًا على هذه الكتب، تُؤلِّفون جمعيَّات يَأوِي إليها الشباب، وتنشطون حركة الوعظ والإرشاد وهكذا من هذه الأعمال، فقال العالم: جميلٌ، وأمَر برفع الصينيَّة وإحضار ورقة وقلم، وقال للشاب: اكتب، وتذاكَرا الأسماء، فكتبا أسماء فريقٍ من علماء أجلاء، وجاء اسمٌ لعالِمٍ معروف يُخالِفه العالم الرأيَ في بعض القَضايا فقال: اكتبوه.. اكتبوه.. إنَّ الأمر ليس فرعيًّا يُختَلف فيه، ولكنَّه أمر إسلام وكُفر، ثم قال العالم للشاب: وإذًا فعليك أن تمرَّ على مَن تعرف وأمرَّ على مَن أعرف، ونلتقي بعد أسبوعٍ -إن شاء الله.

والتقيا بعد ذلك مرَّات عديدة تكوَّنت بعدها نواة طيبة من رجالٍ أفاضل واصَلُوا اجتماعاتهم فظهرت على أثرها واحدةٌ من المجلات الإسلاميَّة القويَّة التي كانت مشعل هدايةٍ ونورٍ لكثيرٍ من الشباب المثقَّف الذي عُرِفَ بحماسه وغيرته على الإسلام، وظلَّت هذه النُّخبة تعمل يُحرِّكها نَفَرٌ من الشباب المُخلِص الذي تكوَّنت على يدَيْه واحدةٌ من أطول الجمعيَّات الإسلاميَّة عمرًا وخِدمةً للإسلام.

حدثت وقائع هذه القصة -كما كتَبَها الشابُّ بنفسه- منذ زمنٍ ليس بالبعيد، لكن دَلالاتها ومَعانيها وأحداثها تعيشُ معنا إلى اليوم، لقد أصبح هذا الشاب فيما بعدُ عَلَمًا من أبرز وأقوى أعلام الحركة الإسلاميَّة المُعاصِرة، لم ينزل يومًا في رِحاب حاكمٍ، ولم يتقرَّب إلى حاكمٍ هاجَمَه يومًا، لم يكنْ صاحب كتب ومؤلفات، إنما قرن القول بالعمل، ما جرَّب أحدٌ عليه يومًا مقولةً غير صحيحة، ولم يُبدِ رأيًا في أمرٍ إلا كان صادقًا فيه مع ربه ومع نفسه ومع الناس، كان يقول لِمُحبِّيه إذا أنعَمَ الله عليهم بالمال الوفير: إنَّ طريقنا وَعْرٌ طويل وعلى وُعورته ومشاقِّه فهو محفوفٌ بالمكاره، ثم بعد ذلك إنَّه طريق الجنَّة الوحيد لِمَن كان يرجو الله واليوم الآخِر، إنَّ ظُلمًا سيُقابِلنا ومتاعبَ ستُواجِهنا، هناك تشريدٌ وتعذيبٌ ومصادرةٌ وتقتيلٌ؛ لأنَّ المِحَنَ سنَّة الد?وات الصادقة الحقَّة، فما جاء إنسانٌ الناسَ بغير ما هم عليه إلا آذوه وقاوَموه، فإن اهتزَّت الدعوة لدَى الصدمة الأولى دَلَّ ذلك على تفاهَتِها وكذب الداعية، أمَّا إنْ صمد وقاوَم وصبَر وكافَح واحتمل واحتسب، فإنَّ الله لن يَتِرَ مؤمنًا عملَه؛ لأنَّه بالمؤمنين رؤوف رحيم.

دعَتْه إحدى السفارات الغربيَّة يومًا ليُلقِي في الراديو محاضرةً عن "الديمقراطية"، مُقابِل مبلغٍ كبير من المال، فقال لهم: على الرحب والسعة، وبلا مقابل، ولكنْ حسب فهمي وتصوُّري لهذا الذي تسمُّونه ديمقراطية، فقالت السفارة له: لا، وإنما حسب فهمنا وتصوُّرنا نحن، فقال لهم: إليكم عنِّي إذًا، فقد ضللتم الطريق وأخطأتم التقدير، كان يحبُّه كلُّ غيورٍ على الإسلام، كما كان يُعادِيه كلُّ كارهٍ لصحوةٍ في الإسلام، كان يَخشاه أعداءُ الإسلام في داخِل البلاد وخارِجها، ولم يَنَمْ لهم جفنٌ إلا بعد أن اغتالوه عيانًا بيانًا في أكثر شوارع العاصمة حركة وازدحامًا، وبعد أنْ أعدَّت البلاد بأسرها عُدَّتها لهذا الاغتيال.

(3) لعبة استدراج أصحاب الدعوات:
لَم أكُن أظنُّ أنَّ ما قضى الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم يحتاجُ إلى موافقة عباد الله، ولكنَّني فُوِجئت أنَّ قول الربِّ الأعلى يظلُّ في المصحف -له قَداسته في قلوبنا- إلى أنْ يُوافِق عباد الله في البرلمان على تصيير كلام الله قانونًا، وإذا اختلف عباد الله في البرلمان عن حُكم الله في القُرآن، فإنَّ قَرار عباد الله يَصِير قانونًا معمولاً به في السُّلطة القضائيَّة مكفولاً تنفيذه من قِبَلِ السُّلطة التنفيذية ولو عارَضَ القرآن والسنة؛ والدليل على ذلك أنَّ الله حرَّم الخمر، وأباحَها البرلمان، وأنَّ الله أمَر بإقامة الحدود وأهْدَرَها البرلمان؛ والنتيجة على ضوء هذه الأمثلة أنَّ ما قرَّره البرلمان صار قانونًا رغْم مُخالفته للإسلام.

هذه الكلمات هي خُلاصة ما انتهى إليه أحدُ عُلَماء الإسلام بعد أنْ قضى ثماني سنوات كنائبٍ في البرلمان، وكان ذلك النائب العالِم قد أحسَّ بضرورة الخطابة على المنابر، والكتابة في الصحف، بعد طول معايشته لتلك الأساليب ازداد إيمانًا بجدواها، لكنَّه شعر أنها وحدَها لا تُحدِث تغييرًا في القوانين، ولا تأثيرًا مستمرًّا في السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية؛ فرشَّح نفسه لعضوية البرلمان؛ بحثًا عن أسلوبٍ جديد لإعلاء كلمة الله تعالى بتطبيق الشريعة الإسلامية؛ إنقاذًا للعباد من الضلالة، وتخليصًا لهم من الأباطيل، ودفعًا بهم إلى رِحاب الإسلام.

فازَ العالِم بعضويَّة البرلمان تحت شعار: "أعطِني صوتَك لنُصلِح الدُّنيا بالدِّين"، وأعطاه الناس أصواتهم ثقةً فيه رغم كلِّ وسائل التزييف والتزوير في الانتخابات، واستمرَّ النائب في عضويَّة البرلمان دورتين متتاليتين ثم قال بعدها: "إنَّه عزَّ على البيان الإسلامي أنْ يجد صَداه المنطقي في هاتين الدورتين"، ذهب النائب العالِم يومًا إلى واحدةٍ من مديريات الأمن لقَضاء مصالح مواطنيه ففُوجِئ في مكتب الآداب بنحو ثلاثين امرأة يجلسنَ على البلاط، فسأل قائلاً: ما ذنب هؤلاء؟ فقال له المسؤول: إنهن ساقطات! فسأل: وأين الساقطون؟ إنها جريمة لا تتمُّ إلا بين زانٍ وزانية، فأخبره المسؤول بأنَّ الزاني عندهم مجرَّد شاهد بأنَّه قد ارتكب الزنا مع هذه وأعطاها على ذلك أجرًا، فهي تُحاكَم ليس لأنها ارتكبت الزنا، ولكن لأنها تقاضَت الأجر، فتحوَّل المقرُّ والمعترِف بأنَّه زانٍ إلى شاهد عليها، ولا يلتفت القانون إلى إقراره واعترافه بالزنا، غضب النائب العالِم غضبةً لله، فقال المسؤول ببساطة: "نحن ننفذ قانونًا أنتم أقرَرْتموه في البرلمان"، أدرك النائب العالِم أنَّه مهما كثُرت الجماهير المنادية بتطبيق الشريعة، ومهما سانَدَها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنَّ الآمال في تطبيق الشريعة لا يمكن أنْ تتحقَّق إلا عن طريق البرلمان الذين يُسمُّونه: (السلطة التشريعيَّة)، ولأنَّ السلطة القضائيَّة لا تحكُم إلا بالقوانين التي تَصدُر عن البرلمان، وأنَّ السلطة التنفيذية لا تتحرَّك لحماية القرآن والسنَّة ولا لحماية الإسلام إلا بمقدار ما أقرَّه البرلمان من هذه الجوانب المقدَّسة.

اعتقد النائب العالِم بأنَّ الوصول إلى هذه الغاية ممكنٌ لو علم نوَّاب البرلمان أنَّ هذا هو قول الله وقول رسوله وحكم الإسلام ليُقِرُّوه، انطلق النائب العالِم فقدَّم مشروع قانون لإقامة الحدود الشرعيَّة، ومشروع قانون لتحريم الربا مع اقتراح الحلِّ البَدِيل، ومشروع قانون لتَطوِيع وسائل الإعلام لأحكام الله، ومشروع قانون لرعاية حُرمة شهر رمضان، وعدم الجهر بالفطر في نهاره، ومشروع قانون لتنقية الشواطئ من العربدة... والعديد من المشاريع الإسلامية الأخرى.

ووقَّع معه على مشاريع هذه القوانين عددٌ كبيرٌ من أعضاء البرلمان، وذهب النائب العالِم لأداء العمرة، واصطحب معه بعض أعضاء البرلمان، وعند الحجر الأسود عاهَدُوا الله جميعًا على مُناصَرة شريعة الله في البرلمان، ثم ركِبُوا الطائرة إلى المدينة المنوَّرة، ثم تعاهَدُوا في رِحاب المسجد النبوي على رفْع أصواتهم لنُصرة شرع الله لا لنُصرة انتماءاتهم الحزبيَّة، حمَّل النائب العالِم السلطات الثلاث في الدولة مسؤوليَّةَ إقرار المحرَّمات ومخالفة الشريعة، وتوعَّد وزيرَ العدل بأنَّه سيستَجوِبُه بعد بضعة أشهُر إذا هو لم يُقدِّم ما تَمَّ إنج?زُه من قوانين تطبيق الشريعة الإسلاميَّة، ولم يُقدِّم الوزير ما طلَبَه منه النائب، فوجَّه إليه النائب استجوابًا -والاستجواب في عرف البرلمانات مُلزم للمستجوب بالرد عليه ما لم تسقط عضوية الوزير أو يخرج الوزير المستجوب من الوزارة- وأصرَّ النائب على استجواب الوزير، ووقفت الحكومة خلف وزيرها، وأصرَّت على إسقاط الاستجواب، ولَمَّا اشتدَّ إصرار النائب على الاستجواب أحدثت الحكومة تعديلاً وزاريًّا لم يخرج منه إلا وزير العدل؛ أي: إنَّ الوزير أُخرِج من الوزارة ليسقط الاستجواب، وتكرَّر هذا العمل حتى أصبح قاعدةً من قواعد التعامُل مع البرلمان.

لجأ النائب العالِم مرَّة ثانية إلى أعضاء البرلمان وقال لهم: إنَّ مشاريع القوانين الإسلاميَّة وُضِعتْ في أدراج اللجان، وقد عاهَدتم الله في الحرمين على أنْ تكون أصواتكم لله ورسوله، وطالَب بتوقيعهم على المطالَبة بالتطبيق الفوري للشريعة الإسلاميَّة؛ فاستَجابوا ووقَّعوا على ما طالبَهُم به، ووضَع النائب العالِم هذه الوثيقة في أمانة البرلمان، وطالَب باسم النوَّاب جميعًا بالنظر في قوانين شرْع الله، فقام رئيس البرلمان وقال للنوَّاب: إنَّ الحكومة لا تقلُّ عنكم حماسةً للإسلام، ولكنَّنا نطلُب منكم فرصةً للمُواءمات السياسيَّة، فصفَّق له النوَّاب الموقِّعون المُتَعاهِدون في الحرمين على العمل على تطبيق شريعة الله، ووافَقُوا على طلبه، فضاعَت المطالَبة بالتطبيق الفوري للشريعة، وانتصرت الحكومة.

غلب اليأسُ النائبَ العالِم؛ لعدم جَدوَى مُحاوَلاته في سبيل تطبيق الشريعة مع أعضاء يُنادِيهم فيستَجِيبون ثم يعدلون، ثم فُوجِئ يومًا باقتِراحٍ من رئيس البرلمان للمُوافَقة على تكوين لجنةٍ عامَّة لتقنين الشريعة الإسلاميَّة، وتبيَّن حقيقة الأمر فوجد أنَّ قَرار الحكومة المفاجئ هذا لم يكن إلا تغطيةً لفضيحةٍ كبرى مسَّت كرامةَ البلاد، ولم تتَّخذ الحكومة قَرارًا لصالح الإسلام، ورحَّب النائب بالفكرة رغْم فَهمِه لأبعادها، واجتمعت اللجنة لكنَّ النائب العالِم أحسَّ عدم جديَّة الدولة في تطبيق شرع الله؛ لأنها إذا أرادت إرضاءَ الله فهناك أمورٌ لا تحتاج إلى إجراءات.

فإغلاق مصانع الخمور يمكن أنْ يكون بجرَّة قلمٍ، وإغلاق الحانات يمكن أنْ يتمَّ بجرَّة قلم، كانت هناك مظاهرُ تدلُّ على ما في الأعماق حقيقةً، تضافرَتْ كلها لتترك في نفس النائب العالِم انطباعًا- يُشكِّل في حدِّ ذاته قاعدةً من قواعد التعامُل مع البرلمانات- مُؤدَّاه: "أنَّ شرع الله لن يتحقَّق أبدًا على أيدي هؤلاء"، فُوجِئ الناس وفُوجِئ النائب العالِم بحلِّ البرلمان بعد أنْ كان هو رئيسًا للجنة مُرافَعات تطبيق الشريعة الإسلاميَّة، وظلَّ يوالي مع اللجنة عمليَّة الدراسة والتقنين عبر ثلاثين اجتماعًا، وفي غيبة البرلمان صدَر قرارٌ خطير في مسألةٍ تمسُّ حياة الناس الشخصيَّة، فوقَف النائب العالِم ضدَّ هذا القرار؛ لأنَّه مخالفٌ للإسلام والدستور، ولكنَّ القاعدة تقول: "أنَّ البرلمان كلَّه يمكن أنْ يُحَلَّ بقرارٍ إذا أرادت الدولة فرْض أمر على الناس حتى ولو كان مخالفًا للإسلام".

أمَّا أهم قاعدة يستند إليها البرلمان فقد لَخَّصها النائب العالِم بقوله: "إنَّه مهما أُوتِيت من حجج، ومهما استَندَ موقفي إلى الكتاب والسنَّة، فإنَّ من عيوب البرلمان ومسؤوليَّته الفادحة أنَّ الديمقراطية تجعَلُ القرار ملكًا للغالبيَّة المطلقة بإطلاقٍ وبلا قيد ولا شرط، ولو خالَف الإسلام"!
أحسَّ النائب العالِم بأنَّ زحفًا من التضييق عليه يشتدُّ من جانب الحكومة ومن رئيس البرلمان ومن حزب الغالبية، وافتعلتْ رئاسة البرلمان ثورات ضدَّه، واتَّهمته بأنَّه يُعطِّل أعمال اللجان، ولكنَّه استمرَّ في بذل جهوده، فقدَّم العديد من الأسئلة التي لم تُدرَج في جداول الأعمال، وقام بالعديد من طلبات الإحاطة؛ فوجدَها قد دُفِنت ولم تَقُمْ لها قائمة، ثم عاد إلى استخدام سلاح الاستجواب الذي لا يمكن ردُّه، فاستجوَبَ وزراء الحكومة عن ضرب الدولة للقضاء الشرعي والأوقاف والمعاهد الدينية ومكاتب تحفيظ القرآن الكريم، وعن ضربها لمناهج التعليم في الجامعات الدينيَّة بحجَّة تطويرها، وعن ضربها للمساجد بإصدارها قانونًا لا يسمح لأحدٍ حتى ولو كان من (المشايخ) أنْ يَدخُل دور العبادة، وأنْ يقول ولو على سبيل النصيحة الدينية قولاً يُعارِض به قرارًا إداريًّا أو قانونًا مستقرًّا، ومَن فعَل ذلك حُبِس وغرم، فإنْ قاوَم ضُوعِفت الغرامة وسُجِن.

قدَّم النائب العالِم استجوابًا إلى وزير السياحة؛ لأنَّ طلابًا في المدارس الفندقيَّة أُرغِموا على تذوُّق الخمر فرفضوا ففُصِلوا، وقدَّم استجوابًا آخَر إلى وزير الإعلام؛ بغيةَ تطهير وسائل الإعلام من العربدة التي تعصف بالقيم والأخلاق ومُقدَّسات البلاد، واستِجوابًا ثالثًا إلى وزير النقل والمُواصَلات عن صور القُصور والتقصير بهذه المرافق، وشعر النائب العالِم أنَّه يُقدِّم الاستجواب تلو الاستجواب إلى بالوعات، فوقَف في البرلمان يُحاسِب رئيسه ويتَّهمه بالخروج عن لائحة البرلمان، فأمَر رئيس البرلمان في لعبةٍ مثيرة بإدراج الاستجوابات الثلاثة في جلسةٍ واحدة، مع أنَّ كلَّ استجواب يحتاجُ إلى أيَّام، ثم دعا الهيئة البرلمانية لحزب الأغلبيَّة لتُحبِط هذه الاستجوابات، ونُودِي على وزير السياحة فتدخَّلت الحكومة التي اعترضت على إدراج هذا الاستجواب في جدول الأعمال؛ لأنَّ فيه كلمةٌ نابية هي بالضبط: (اتهام صاحب الاستجواب الوزير بأنَّه جافَى الحقيقة أثناءَ ردِّه على السؤال)، ثم طرَح الموقف على نوَّاب البرلمان فقرَّروا إحباط الاستجواب، وعطَّلوا ما يُسمَّى بالحق الدستوري للنائب في محاسبة الدولة.

ثم نُودِي على الاستجواب الثاني المقدَّم لوزير الإعلام، وكما انتصر النواب للخمر، انتصروا للرقص، رغم أنهم عاهدوا الله على نصرة شريعته.
ثم نُودِي على وزير النقل لكنَّ النواب رأوا أنَّ محاسبة الوزير تتلاقى مع أهوائهم، فقام النائب العالِم إلى المنصَّة وقال لنواب البرلمان: "يا حضرات النوَّاب المحترَمين، لستُ عابدَ منصب، ولستُ حريصًا على كرسي لذاته، ولقد كان شعاري مع أهل دائرتي: (أعطِنِي صوتك لنُصلِح الدُّنيا بالدِّين)، وكنت أظنُّ أنه يكفي لإدراك هذه الغاية أنْ تقدم مشروعات القوانين الإسلاميَّة، لكنَّه تراءى لي أنَّ مجلسنا هذا لا يرى لله حُكمًا إلا من خِلال الأهواء الحزبيَّة، وهيهات أنْ تسمح بأنْ تكون كلمة الله هي العُليَا.

لقد وجَدتُ طريقي بينكم إلى هذه الغاية مسدودًا، لذلك أُعلِن استقالتي من البرلمان غير آسِفٍ على عضويَّته".
وانصَرَف النائب العالِم إلى داره في أبريل 1981 ورُفِعت الجلسة.
رحَل النائب العالِم عن البرلمان، ثم رحل عن الدُّنيا كلها بعد ذلك بعدَّة سنوات، وبقى البرلمان يقضي ويشرع وينفذ.