الوســـطية الحــق
أم جويرية
الأمثلة كثيرة وعديدة في شأن الوسطية الزائفة والواهية، وما هي الوسطية التي جاءت في الشرع أبدًا، إنما هي أنماط لترك شرع الله والبعد عنه.
- التصنيفات: الواقع المعاصر - قضايا إسلامية معاصرة -
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله..
أما بعد:
قال تعالى في كتابه العزيز: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143].
هذا خطاب من رب العباد إلى أمة الإسلام أجمعين، أن الله سبحانه وتعالى اختار هذه الأمة وكرّمها أن تكون أمة وسط عن الأمم التي سبقتها؛ وسط في كل شيء: في تشريعاتها وأوامر الله لها، ونواهيها وأحكامها، وكل ما يتعلق بدين الله.
فلا مغالاة كما كان يفعل اليهود من تضيق، فضيق الله عليهم جزاءً لتعنتهم، ولا تفريط كما فعل النصارى ففرطوا في دينهم؛ وفي ذلك قال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، قول الحق لنا لندعو هذه الدعوة في كل صلاة حتى نكون الأمة الوسط الحق.
فقد سمى الله اليهود (المغضوب عليهم) لأنهم علموا الحق وكتموه ولم يعملوا به، والنصارى (الضالين) لأنهم عملوا بلا علم وبجهل فضلّوا، ونحن نسأل الله الصراط المستقيم؛ صراط الذين علموا وعملوا، فالوسطية هي شريعة الإسلام دون باقي الشرائع، ولكن..!
* الوسطية الحق والوسطية الزائفة:
الوسطية أصبح مصطلح مختلط على الناس حقيقته؛ جدالات كثيرة حول هذه القضية.
ديننا يسر وسمح ووسط نعم، ولكن السؤال هو: ما هي وسطية ديننا؟ هل الوسطية تكن في شرع الله؟ أي أن الله سبحانه وتعالى إذا أمرنا أمراً واضحا في الكتاب أو السنة لنا الخيرة أن نأخذ وسطيته؟ هل هذه وسطية حقّة؟
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]. إذًا الأمر واضح؟ بالطبع لا! فالعبادات توقيفية أي إن ما قضاه الله علينا في كتابه أو على لسان نبيه وجب علينا تنفيذه كما هو بصفته التي وردت في الكتاب أو السنة ولا مجال للجدال فيها فلا زيادة ولا نقصان.
ولكن اختلط على الناس أمر وسطية الدين، فظهرت البدع وهي الشيء المحدث في الدين، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مثال: الصوفية وما ابتدعوه من ذكر لله على غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم، هل نقول هنا أن الوسطية تحتّم علينا بالموافقة على ذلك؟ لا، لأنهم تركوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر ربه، فضلّوا وابتدعوا مع أن ذكر الله عبادة مشروعة في الدين وهي أصل العبادة، ولكن عندما خالفوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها، أصبحت بدعة ومردودة عليهم، ولا نقول هنا وسطية الدين تحتّم قبول هذا الفعل وهي وسطية زائفة فهي بدعة غير مقبولة.
وظهر أيضا التفريط في شرع الله بحجة وسطية الدين..
مثال: ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه في مواضع فرضية الحجاب للمرأة المسلمة، فهل مثلا من وسطية الدين أن يكون المجال مفتوحا لمن أرادت ارتداءه ومن لم ترد ذلك فهذه وسطية الدين؟ هل لمجرد شدة الحرارة التي قد تعانيها المرأة من لبس الحجاب حجة أن تترك الحجاب بحجة وسطية الدين؟ هل هذه الوسطية الحقّة؟ أو مثلا من تقول: اختلف العلماء في شكل الحجاب فبدلا من أن أتركه أضع قطعة صغيرة على رأسي لا معنى لها ولا تمت للحجاب ومقصده بشيء لأن ديننا وسط؟ بالطبع لا، فهنا كلمة الوسطية وضعت في موضع خاطئ، وسطية مزيفة، بل هو تفريط في شرع الله.
مثال: نهى الله سبحانه وتعالى عن أكل الربا أمر واضح وصريح في كتابه بترك الربا في مواضع كثيرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:130]. فهل بعد ذلك مجال لأخذ الربا بدعوى الحاجة أو تغيير مسميات وتلبيس الحق؟ هل هذه وسطية؟ وسطية زائفة ومحوّرة الألفاظ، بل هو تفريط لشرع الله.
مثال آخر من أمثلة التفريط: المرجئة والجبرية والقدرية..
ثلاث فرق من الفرق التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم التي تفترق عليها أمته؛ فالمرجئة: هم الذين تعلّقوا برجاء الله فقط دون عمل؛ أي يقولون يكفي الإيمان بالقلب ولا ينافيه عمل الجوارح.
فيقول أحدهم: "أنا قلبي أبيض وأحب الله وأعلم بوجوده، وسأدخل الجنة"؛ حتى ولو لم يعمل لآخرته شيء!! هل هذه وسطية في الدين؟ أن أقول بلساني دون عمل القلب والجوارح؟ بالطبع لا، فالإيمان قول وعمل.
فرقتين أخرتين: الجبرية: وهم الذين قالوا أن كل شيء مقدّر على العبد حتى الكفر والإيمان! هل هذا كلام يعقل؟ أن الإنسان مجبر على جميع أفعاله؟ وليس له قدرة في اختيار الحق من الباطل؟ فهؤلاء تركوا لوم الكافر على كفره لأنه مجبور عليه، ونسبوا بذلك الظلم لله سبحانه! حاشا لله! بالطبع من الواضح جدا أن للعبد قدرة على اختيار أعماله وإن كانت لا تخرج من نطاق قدر الله عليه، فهؤلاء مفرطين في قدر الله على عباده.
القدرية: فهم لغوًا قدر الله على عباده، وقالوا أن للعبد القدرة المطلقة في أعماله ولا دخل لقدرة الله وقدره في ذلك. هل هذا يعقل؟ هذا تجرّؤ على الله سبحانه، فمن المعروف أن قدر الله نافذ على عباده، وهناك الكثير من الأشياء التي لا يد للعبد فيها مثل الحياة والموت والزواج، فهؤلاء مفرّطين في قدر الله على عباده، ولكن الوسطية الحق -وهي ديننا الحق- اعتراف أن الله قدّر على العبد أشياء لأنه ضمن ملكوته ومخلوفاته، ولكن للعبد إرادة واضحة في اختيار أفعاله من خير أو شر.
وأيضا وقف تنفيذ حدود الله التي فرضها على عباده بنصوص واضحة في الكتاب والسنة من عقاب للمذنبين من أمة الإسلام كلٍ على حسب ذنبه، هل هذه وسطية وسماحة الدين؟ لا، بل هو تفريط في شرع الله لأن الله سبحانه أعلم بنا منّا وأرحم بنا من أمهاتنا، وهو أعلم بما يصلح أحوالنا، وهو الذي فرضها علينا! هل من الوسطية والرحمة التفريط في تلك الحدود؟ هل نحن أعلم من الله بما فيه صلاح المجتمع؟ هل نحن أرحم بالمذنبين من رب المذنبين؟ حاشا لله. ما هي إلا ادعاءات ونحن من نجني ثمرة ذلك الآن من تفشي للفواحش، وكثرة الجرائم، والفساد في الأرض، بل هذه الحدود هي كفّارات؛ منح من الله للمذنبين وسبحان الله العظيم.
الأمثلة كثيرة وعديدة في شأن الوسطية الزائفة والواهية، وما هي الوسطية التي جاءت في الشرع أبدًا، إنما هي أنماط لترك شرع الله والبعد عنه.
* ما هي الوسطية الحق؟
الوسطية الحق هي أن تأتي بأوامر الله وأن تجتنب النواهي التي جاءت في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتنفيذ حدوده التي كتبها لتقويم عباده بلا إفراطٍ ولا تفريط، وهي مرادف لتقوى الله سبحانه وأوامر الله ونواهيه وحدوده واضحة في الكتاب والسنة ببلاغة، وألفاظ صريحة وواضحة، فقول الله واضح بالأمر أو النهي أو الحد، وكلٍ واجبٌ علينا تنفيذه، والأصل في الأمر الوجوب ما إن جاءت صارفة تصرفه للندب، والأصل في النهي التحريم ما إن جاءت صارفة تصرفه إلى الكراهية، وهذه الصوارف لا ترتكز على آراء بل أدلة من الكتاب والسنة الصحيحة أيضا، وهنا تكمن سماحة الدين ويسره وبراحه، وهنا يكن المجال في الوسطية المطلوبة وليس في أوامر الوجوب أو نواهي التحريم.
مثال: «جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (البخاري: 5063).
هنا تظهر وسطية الدين الحق؛ عندما أراد بعض الصحابة من الزيادة في العبادات (النوافل) وأفرطوا على أنفسهم نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم الناس بربه علم أن الله سبحانه وتعالى قدّر للنفس طاقات محدودة، وجبلها على ذلك، فمن غالى في ذلك نفر وترك.
وأيضا عندما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المغالين في صلاة القيام بما لا تطيق أنفسهم: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» (البخاري: 39). فما نهاهم عنه هو الزيادة في عبادات النوافل وهي صلاة القيام لأن النفس البشرية حين تُضغَط تنفر وتمل، وقد تترك بعد الضغط.
ولم ينههم عن الصلاة نفسها! وقد سئل النبي: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل، وقال: اكلفوا من الأعمال ما تطيقون» (البخاري: 6465) وذلك في نوافل العبادات بالطبع وليس في أصل العبادات؛ فليس للنبي أن يأمر بالتقليل من الفروض! كل ذلك حتى لا يتم التفريط بعد الإفراط؛ بل الاعتدال والتوسط. وهذا هو ديننا. وكما هو معروف فالإيمان ينقص ويزيد، وهذا هو الحق.
ولكن حين كانت تنتهك حرمات الله والتفريط في شرعه، ما كان يُرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا غاضبا، فدل على عدم جواز التفريط في شرع الله بحجة الوسطية واليسر. عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم لله» (البخاري: 6786).
ومن أمثلة الأقوام الذين من قبلنا الذين أفرطوا ففرطوا اليهود والنصارى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّـهُ عَنْهَا وَاللَّـهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ . قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة:101- 102]. وأيضا النصارى حين ابتدعوا الرهبانية وما آتوها حقّها لأنها تنافي النفس البشرية وطلباتها، ولذلك ما أمرهم الله بها: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].
إذًا وسطية الدين الحق تكمن في عدم التفريط في أحكام الله وحدوده لأن في ذلك ضياع لشرع الله والدستور الذي وضعه لعباده والذي به تتحقق المنفعة، لأنه عالم بحالهم فهو خالقهم وأعلم أين صلاحهم!! ولا إفراط بزيادة عبادات النوافل بشكل مشدد لأن في ذلك منافاة للجبلة البشرية التي فطرت عليها؛ فسرعان ما تنفر وتنقلب للضد. وإن كان إفراط الصحابة قديما خير وأحب عند الله لأنه لا ينم إلا عن حب وصدق وبذل وعطاء وإن كان لا يصح. أما عن تفريطنا اليوم في شرع الله فعن ماذا ينم؟؟؟ وإن كان من تمسّك بشرع الله الآن متشدد ومتطرف في نظر البعض، فيا مرحبا بالتشدد الذي يرضي ربنا (وإن كان غير ذلك).
نسأل الله أن يهدينا للحق وإلى ما هو خير لديننا وآخرتنا وأن يصلح أحوالنا وأن يرزقنا النظرة الصادقة لوسطية الدين.
بقلم أم جويرية رحمها الله.