طبيعة الاختراق الإيراني لتركيا معالم النفوذ ومخاطر التأثير
علي باكير
تشهد العلاقات التركية- الإيرانية تدهورًاً سريعًا منذ اندلاع الثورة السورية في مارس من العام 2011، بعدما عرفت صعوداً خلال بداية فترة حكم حزب العدالة والتنمية. ويشوب هذه العلاقة حالياً نوع من التشنج والحذر المتبادل رغم الجهود التركية لاحتواء الخلاف المتفاقم بين الطرفين حول مجموعة واسعة من المواضيع: من الملف الاقتصادي، إلى النفط والغاز، إلى ملف حزب العمال الكردستاني، إلى السياسة الإيرانية في العراق والمنطقة، وأخيرًاً ولس آخرًاً إلى موقف النظام الإيراني ممّا يجري في سورية.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
تشهد العلاقات التركية- الإيرانية تدهورًاً سريعًا منذ اندلاع الثورة السورية في مارس من العام 2011، بعدما عرفت صعوداً خلال بداية فترة حكم حزب العدالة والتنمية. ويشوب هذه العلاقة حالياً نوع من التشنج والحذر المتبادل رغم الجهود التركية لاحتواء الخلاف المتفاقم بين الطرفين حول مجموعة واسعة من المواضيع: من الملف الاقتصادي، إلى النفط والغاز، إلى ملف حزب العمال الكردستاني، إلى السياسة الإيرانية في العراق والمنطقة، وأخيرًاً ولس آخرًاً إلى موقف النظام الإيراني ممّا يجري في سورية.
خلال المرحلة السابقة دفعت تركيا ف?تورة كبيرة بوقوفها أمام الغرب عندما أرادت الوصول إلى تفاهم عادل يحفظ للإيرانيين حقوقهم في الملف النووي ويجنّب طهران والمنطقة مزيدًا من التأزّم، كما أدّت دوراً كبيراً في كسر حاجز العقوبات الذي يعمل على تآكل الاقتصاد الإيراني والدفع به نحو الانهيار؛ رغم الضغوط الكبيرة التي تعرضت لها من الولايات المتحدة والغرب، ناهيك عن الحملات الإسرائيلية التي كانت قد بدأت تستهدف تركيا إعلاميًاً واقتصاديًاً وسياسيًاً، وحتى عسكريًاً؛ عبر الاعتداء على (أسطول الحرية) أو عبر إقامة تحالفات جديدة مع اليونان وقبرص اليونانية.
كيف قابلت إيران كلّ هذا الجهد التركي في أوّل اختبار حقيقي لنيّاتها؟ بدأت طهران باتهام تركيا بأنها مشاركة في مؤامرة للإطاحة بالنظام السوري وبأنها ذراع الغرب في المنطقة، وبدأنا نسمع بشكل مكثّف عن أطماع تركيا، ثم شرعت مختلف القيادات السياسية والعسكرية الإيرانية في توجيه تهديدات لأنقرة، لا بل إنّ طهران شرعت في التحرّك داخل تركيا وتوظيف عديد من الجهات للضغط على الحكومة، مستغلة المساحة التي تتيحها الديمقراطية والحرية في التعبير للتشويش على الرأي العام، كما استخدمت بعض الجهات الإقليمية الخاضعة لنفوذها وتأثيرها لمهاجمة تركيا وانتقادها.
ولحسن حظ الأتراك فإنّ هذا الاختبار كشف لهم عن التوجّه الحقيقي لإيران، في الوقت الذي كانت فيه شريحة لا بأس بها تعتقد أنّ طهران مخلصة وصادقة في علاقاتها مع تركيا؛ إذ تبيّن لهم فيما بعد أنّ النظام الإيراني لا يمكن الوثوق به، خصوصاً أنه لا يفوّت أي فرصة ليستثمرها في نشر حالة عدم الاستقرار الإقليمي، والتسبّب أيضاً في شروخ عميقة اجتماعية وطائفية وسياسية في المنطقة، ناهيك عن أنّ جهود التخريب هذه بدأت تصِل إلى الداخل التركي، وهو ما ساعد في تسليط الضوء على الخطر الإيراني.
هذه الخلاصة هي نتيجة نقاش بدأ يطفو على السطح في تركيا، ويقوده عدد من الكتّاب والباحثين والإعلاميين، حتى بعض الشخصيات الرسمية المعروفة والمحسوبة على الحكومة. ويُعتبر بولنت كينيش، أستاذ العلاقات الدولية وصاحب كتاب (إيران: تهديد أو فرصة؟)، واحدًاً من هؤلاء.
يقول (كينيش)، المتخصّص بالشأن الإيراني والمحرّر المسؤول في صحيفة (زمان) التركية الواسعة الانتشار؛ "إنّ هناك جهوداً إيرانية حثيثة تُبذل لاختراق المجتمع التركي لغاية التمدّد الشيعي الحاصل أخيراً في المنطقة، وهو ما يمثل تهديداً حقيقياً لتركيا". ويضيف: "لقد اتّسعت دائرة الحديث عن هذا التهديد أخيرًاً، لكن ما يجب ملاحظته هو أنّ هذا التهديد مختلف عن التهديدات الأخرى للإمبريالية الأمريكية أو التأثير الإسرائيلي، لكونه مقنّعًاً ومختبئًاً ويعمل في البنى ال?حتية، ويَدّعي أنه صديق".
وأمام هذه الصفات يشير كينيش إلى وجود إشكاليتين، "الأولى تكمن في ارتفاع تأثير هذا النفوذ الإيراني لأنه غير مرئي بالنسبة إلى العامة من الناس، والثانية في عدم القدرة على التأهّب والاستعداد لمواجهته نظراً إلى طبيعته وخصائصه المذكورة أعلاه".
النفوذ الإيراني داخل تركيا شبيه إلى حدّ ما في تركيبته بالنفوذ الإيراني داخل الدول العربية، وإن كان بقدرة تأثير وتخريب أقل، لا سيما من الناحية المذهبية، لكن ذلك لا ينفي أنّ لإيران مصادرَ يمكن الاعتماد عليها في تركيا وتوظيفها لخدمة المصالح الإيرانية أو للإضرار بالمصالح التركية نفسها.
من إيجابيات الأزمة السورية رغم كل التحديات التي فرضتها على تركيا، أنّها كشفت طبيعة النفوذ الإيراني في الداخل التركي بشكل غير مسبوق؛ إن من حيث المفاهيم والآليات والأدوات، وإن من حيث أنصار النظام الإيراني على الساحة التركية. وقد تبيّن أنّ هؤلاء ليسوا محصورين في إطار واحد أو تحت يافطة أو تجمّع واحد. حتى الحزب الحاكم مخترق بعناصر متعاطفة مع إيران إن لم تكن مؤيدة لها عمومًاً، وهو ما يعني أنّ إيران كانت حريصة طيلة الفترة الماضية على الاستثمار في الداخل التركي في أكثر من مجال: في الإعلام، في الاقتصاد، في السياحة، وحتى في دعم الأقليات الطائفية في تركيا.
الاختراق الإعلامي والتأثير على الرأي العام:
بعدما كان الحديث عن الموضوع يقتصر غالباً على مناقشات خلف الأبواب المغلقة وفي إطار محدود وضيق منعًاً لإثارة أي حساسيات؛ بدأت بعض الجهات التركية تشكو من نشاط اللوبي الإيراني في تركيا، وذلك بشكل علني للمرة الأولى. فتسارع الأحداث الإقليمية، وتضارب رؤى وبرامج البلدين إقليمياً، واشتعال الثورة في سورية؛ كل ذلك سرّع من المحاولات الإيرانية للتصدي لموقف تركيا أو إثارة المشاكل لها على الأقل في عدد من المواقع والبلدان الإقليمية، والأهم في قلب تركيا من الداخل.
ولا تختلف طريقة عمل اللوبي الإيراني المتخصص في التأثير على الرأي العام في تركيا -والذي يضمّ عادة أفراداً أو مؤسسات أو جماعات موالية لإيران- عن طريقة عمله في الدول العربية، وإن كان لإيران نفوذ أكبر وأوسع وأكثر تأثيراً في العالم العربي عنه في أنقرة، حيث يصار عادة إلى تجيير طاقات عمل هذا اللوبي لدعم المصالح الإيرانية أينما وجدت في المنطقة، وفي حالتنا هذه دعم النظام السوري.
وتعتمد طريقة العمل الإيرانية في هذا المجال على ثلاثة مداخل رئيسية:
? الأقليات الطائفية المرتبطة بإيران عقائديًاً أو سياسيًا، وغالبًا في هذه الحالة الأقليات الشيعية والعلوية.
? التيارات المتعاطفة مع النموذج الإيراني، سواءً من الناحية ا?ثورية أو من الناحية الدينية، والتي باستطاعتها أن تخدم الأجندة الإيرانية في البلد المستهدف، أو تغطي على الطابع الطائفي للعنصر الأول، سواء كانت إعلامية أو ثقافية أو حزبية أو أكاديمية، وغالباً ما تكون سنيّة في هذه الحالة.
? وأخيراً هناك المدخل المالي الذي يتم من خلاله شراء ذمم ضعاف النفوس أو الذين عادة ما يقومون بعرض ولائهم مقابل أتعاب مالية أو خدمات أخرى.
ويضمّ هذا اللوبي صحفيين وإعلاميين ومثقفين وسياسيين أيضاً، كما يضم إلى جهده المجموعات التي لها تقاطع مصالح أو تخاصم حزب العدالة والتنمية. ويستهدف هذا اللوبي مؤخراً التأثير على الرأي العام التركي، وهو فاعل في هذا المجال، حيث تستطيع أن تجد سيلاً من المقالات والتقارير التي يكتبها المحسوبون على هذا اللوبي في الإعلام التركي.
ولا يقتصر عمل هذا اللوبي على بثّ الروايات التي تساند النظام السوري، بل إنّ عمله يستهدف القرار السياسي للحكومة التركية أيضاً.. وهو إن لم يحقق كل أهدافه، إلا أنه نجح على ما يبدو في إرباك المبادرات التركية الداعمة للثورة السورية، أو التشويش عليها، بحيث يعرقل عملها أو يصدّها.
ومن المفارقات أنّ الأحزاب العلمانية التركية التي كانت تتهم حزب العدالة والتنمية باستمرار بأنه يحوّل البلاد إلى إيران أخرى؛ أصبحت تصطف مع النظامين السوري والإيراني لدوافع تتعلق بالسياسة المحلية التركية وبالخصومة مع حزب العدالة والتنمية.
ويَعدّ المحلل التركي جوك هان باجيك أنّه من المفارقات أن نلاحظ تأثير النفوذ الإيراني على تركيا بما في ذلك على السياسة الداخلية في البلاد، في الوقت الذي يكاد فيه التأثير التركي يكون منعدماً على إيران. ورغم وجود أقلية أذرية تركية كبيرة جداً في إيران، إلا أنّ التأثير التركي عليها محدود، كما أنّه من النادر جداً أن تجد تأثيراً تركياً على المثقفين أو الإعلاميين أو الأكاديميين الإيرانيين.
ويضيف باجيك: "لا يجب أن نهمل القوة المالية لهذا اللوبي، فهناك أكثر من 1000 شركة تركية يملكها إيرانيون في تركيا، وهي مرتبطة أيضاً بشبكة من الخدمات الاجتماعية والسياسية غير الرسمية التي تعمل على التأثير في الطرف المتلقي في الوقت الذي لا يوجد فيه لتركيا شيء مماثل في إيران".
الاختراق الاقتصـادي:
من المعلوم أنّ إيران تعاني مؤخراً مصاعب اقتصادية ضخمة جداً هي الأكبر ربما منذ الحرب الإيرانية-العراقية، ويلاحظ أنّ سلسلة العقوبات المفروضة عليها عام 2012 لا تشبه أيّاً من مثيلاتها التي فرضت عليها سابقاً؛ فقد انخفض إنتاج طهران من النفط بنحو مليون برميل يوميّاً عمّا كان يتمّ سابقاً، كذلك انخفضت عائدات النفط بنحو 7 مليارات دولار شهريّاً مقارنة بعام 2011. ?قد ألهبت هذه العقوبات الضغوط الداخلية، حيث ارتفعت أسعار السلع وانخفضت قيمة العملة (الريال)، والذي فقد نحو 80 في المائة من قيمته خلال عام واحد فقط.
ونظراً إلى هذه المصاعب، تبحث إيران في يأس عن منافذ جديدة تستطيع من خلالها الالتفاف على هذه العقوبات، أو التقليل من وطأتها على الأقل؛ نظراً إلى أن الالتفاف عليها أصبح في غاية الصعوبة. وفي هذا المجال، لاحظت تقارير تركية عدة لجوء إيران إلى أنقرة للتخفيف عن الضغط الاقتصادي الداخلي الذي بدأ يولّد مشاكل اجتماعية خطيرة وصدامات مع عدد من الطبقات الاجتماعية والتجّار أنفسهم.
وفي هذا الصدد، كشف تقرير صادر عن اتحاد الغرف التركيّة أنّ 17 في المائة من الشركات (44 من أصل 253) التي أُسّست في تركيا خلال أيلول 2012 لوحده فقط؛ تبيّن أنّها مموّلة من إيران، وهي المرة التاسعة على التوالي التي تحتل فيها طهران لائحة الصدارة فيما يتعلق بالجهات التي تؤسس شركات داخل تركيا.
فقد شهد عدد المؤسسات التي تم إنشاؤها في تركيا بدعم إيراني، ارتفاعًاً سريعًاً منذ بداية عام 2012، وبلغ عددها 651 شركة، لتتفوق بذلك على ألمانيا وروسيا وأذربيجان بواقع 252 للأولى، و126 لكلّ من روسيا وأذربيجان، علماً أنّ عدد المؤسّسات الإيرانية بلغ عام 2011 نحو 2140 شركة، بزيادة بلغت نحو 40 في المائة عن عددها عام 2010.
وتثير هذه النشاطات الاقتصادية الإيرانية قلقاً لدى أوساط مختلفة من الطيف التركي؛ من سياسيين واقتصاديين، خصوصاً أنّها تركّز على القطاعات الإستراتيجية المهمّة، ومعلوم أنّ مفاتيح الشركات الاقتصادية الإيرانية يديرها الحرس الثوري الإيراني، فمعظم النشاط الاقتصادي الإيراني يركّز في تركيا على قطاع الطاقة والاتصالات والبناء.
لكن لوحظ أيضاً، ومع اشتداد العقوبات على إيران، حصول نقلة في التركيز على هذه القطاعات إلى قطاعات أخرى يأتي في طليعتها قطاع الصيرفة والمال وقطاع المعادن والذهب، علماً أنّ صادرات الذهب التركية إلى إيران ارتفعت بشكل هائل خلال الأشهر السبعة الأولى من العام 2012 لتبلغ 6 مليارات دولار، ولتشكّل زهاء 75 في المائة من قيمة السلع التركية المصدّرة إلى إيران خلال تلك الفترة.
وتخشى أوساط تركية من أن يؤدّي هذا الاختراق الإيراني للاقتصاد التركي إلى زيادة المشاكل الداخلية، على اعتبار أنّه يزيد من النفوذ السياسي لإيران وكلّ من يرتبط بها عبر هذه المؤسّسات والشركات التي تقيم معها عادة شبكة من المنتفعين، ويتمّ من خلالها تمويل عدد من الجهات المشبوهة داخل البلاد، خصوصًاً في هذه المرحلة الصعبة والحرجة التي تشتبك فيها الحكومة التركية مع النظام السوري، ناهيك عن موضوع خرق العقوبات الدولية والعقوبات المفروضة من قبل الولاي?ت المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث من الممكن أن يؤدّي التوسّع الإيراني في الاقتصاد التركي والالتفاف على العقوبات الدولية، إلى مواجهة غير مطلوبة بين أنقرة وكلّ من حلفائها الغربيين؛ واشنطن والاتحاد الأوروبي.
الاختراق الأمني:
في آب (أغسطس) من العام 2012، كشف جهاز مكافحة التجسس التابع للشرطة التركية شبكات تجسس إيرانية تعمل داخل الأراضي التركية، ولم يتم الاكتفاء بنشر بعض الصور عن اعتقال هؤلاء الجواسيس، وعن بعض الاجتماعات التي تم عقدها بينهم وبين مشغليهم الإيرانيين، إذ تم في بداية شهر أيلول تسريب تسجيلات فيديو إلى إحدى القنوات التركية التي بثّتها بدورها لتثبت مدى حجم المؤامرة وخطورتها على الأمن القومي التركي.
فشبكات التجسس الإيرانية كانت تعمل بتوجيهات ومطالب من الجهات الرسمية الإيرانية للتخطيط والتنفيذ لعمليات تزعزع الأمن والاستقرار التركي، وذلك عبر العمل على رصد منشآت حكومية إستراتيجية وعسكرية من أجل استهدافها، إضافة إلى التنسيق مع حزب العمال الكردستاني واستيقاء المعلومات منه حول عديد من المواقع العسكرية والمدنية التركية المهمة، إضافة إلى واقع بعض المدن والبلدات على الحدود مع إيران وقدرات الجيش التركي، لا سيما الجويّة؛ مقابل حصوله على مساعدات لوجستية تمكّنه من استهداف القوات التركية.
الكشف عن هذه الشبكة جاء بعدما ألقت السلطات التركية القبض على إيرانيين اثنين ومواطن تركي في منتصف شهر آب الماضي وعُثر معهم على معلومات وصور أرشيف إلكتروني يحتوي على عناصر تمسّ أمن الدولة التركية. وقد تبين أنّ هذه الشبكة لم تكن الوحيدة، إذ تمّ إلقاء القبض على جاسوس إيراني كان ينسّق مع حزب العمّال الكردستاني، وقد اعترف أنّه عضو في الحرس الثوري الإيراني، وقد قاد ذلك إلى إلقاء القبض على 9 آخرين بينهم مواطنان إيرانيان.
وفقاً لوكالة الاستخبارات التركية، فإن إيران أرسلت أكثر من 100 جاسوس متدربين بشكل احترافي عالٍ جدّاً ويعملون بأغطية متنوعة؛ كصحافيين وأعضاء في السفارة الإيرانية. ويعتقد أنّ الموقف التركي من النظام السوري واختلاف المصالح بين أنقرة وطهران حول هذا الموضوع؛ أدى إلى إيقاظ الخلايا الإيرانية النائمة التي كان عملها يتوزع على ثلاثة محاور رئيسية:
? محور يتعلق بدعم إرهاب حزب العمال الكردستاني تجاه تركيا وإثارة القلاقل والاضطرابات في شرق البلاد حيث الوجود الكردي الكثيف.
? محور يتركز على جمع المعلومات تحضيراً لاستهداف مصالح أمريكية وغربية حال تصاعد الأزمة في سورية أو حيال البرنامج النووي الإيراني.
? ومحور يتعلق بإرسال معلومات وتفاصيل عن اللاجئين السوريين والمعارضة السورية في تركيا.
لم تكتفِ إيران بقطع التعاون مع الأتراك فيما يتعلق بمكافحة حزب العمال الكردستاني، بل انتقلت إلى العمل معه أيضاً ضد تركيا! يقارن المحلل التركي كريم بالجي بين إيران وإسرائيل فيقول: "إنّ الإيرانيين كانوا دائماً جيدين في عمليات التجسس، وإنّ كلا الدولتين تتميزان فيما يتعلق بالشغف في جمع المعلومات خارج حدودهما، بغض النظر عما إذا كانوا سيستخدمون هذه المعلومات أو لا، يوظفونها أو لا، يحتاجون إليها الآن أو لا".
الكشف عن وجود 100 جاسوس إيراني يعملون بشكل فاعل على الأراضي التركية، أثار دهشة الجميع وفاجأهم بشكل لا يقبل الشك، لكنّه أعطى مؤشراً في نفس الوقت على أنّ هذا الرقم قد يكون قمّة جبل الجليد فقط.
يقول بالجي: "منذ عهد الحشاشين حتى اليوم تنخرط الحركات الشيعية في عمليات جمع المعلومات واستخدام المعلومات لاكتساب القوة أو الابتزاز أو لاختراق المجموعات التي يرون أنّها تشكل تهديدًاً لهم. المشكلة في شبكات التجسس هذه أنّها مرتبطة مع عمل بروبجندا الملالي والمؤسسات المالية التابعة للباسيج والحرس الثوري فيما يعرف بالدولة العميقة في إيران. وأدعي أنّ هناك نسبة 1 إلى عشرة بين الجواسيس والملالي و1 إلى عشرة بين الملالي ورجال الأعمال المرتبطين بالباسيج في كل الدول التي يعمل فيها الإيرانيون في المنطقة، وهي النسبة المتعارف عليها التي يجب أن تتوافر لدى أي دولة توسعية بمذهب توسعي وهوية توسعية حتى تنجح".
وعليه؛ فإذا كان هناك 100 جاسوس إيراني يعمل لصالح طهران في تركيا، فإنّ هذه المعادلة تفترض أن يكون هناك 1000 ملّا شيعي معمم و10000 رجل أعمال مرتبط بالمؤسسات المالية للحرس الثوري. ولعل هذا ما يفسّر الارتفاع الهائل في عدد المؤسسات الإيرانية التي تم افتتاحها في تركيا خلال العشر سنوات الماضية.
الاختراق المذهبي الطائفي:
تاريخياً؛ وضع علويو تركيا الذين يمثلون ما بين 5 ملايين إلى 10 ملايين مواطن على أقصى تقدير من إجمالي عدد المواطنين ذي الغالبية السنيّة؛ مسافة بينهم وبين العلويين في الدول المجاورة، كما أنّهم ركّزوا على الجانب العلماني وليس الديني. لكن ما إن اندلعت الثورة السورية حتى بدأت بعض الجهات تعمل على تجييشهم في إطار حملة دعم النظام السوري، حيث شهدت إسطنبول بداية عام 2012 على سبيل المثال توزيع عدد من المنشورات تحثهم على دعم النظام السوري.
ورغم أنّ هذه التحركات ليست على مستوى كبير بل ما دون الصغير، إلا أنها تحمل رسائل في مضامينها.. وبدا أنّ خطابًاً داخليًاً لدى بعض الجهات في الأقلية العلوية التركية على سبيل المثال، بدأ يتفاعل مع السياسة الإيرانية والدعاية الرسمية للنظام السوري؛ فالروايات حول ما يجري في سورية بالنسبة لهم واحدة، وهي مطابقة لما يقوله بعض النافذين في صفوف الحركات أو الأحزاب أو التجمعات الشيعية التابعة أو المتأثرة بالنفوذ الإيراني في العالم العربي؛ كتصريحات نصر الله في ذلك الوقت، وجلّ روايتهم تقول إنّ "لا شيء يجري في سورية، وإن هناك بضعة إرهابيين يعكّرون صفو الأمن والاستقرار في البلاد ويمنعون الرئيس الأسد من المضي قدماً في الإصلاحات، وعدا عن ذلك فالحياة طبيعية والناس تخرج وتتفسح"!
يقول علي ييرال، رئيس جمعية أهل البيت في هاتاي-تركيا: "نحن نعرف تماماً أنّه لا تجري أي عمليات قمع في سورية، طبعاً هناك بعض المشاكل الصغيرة، لكن يجب إعطاء نظام الرئيس الأسد الوقت اللازم لتطبيق الإصلاحات الديمقراطية، فالملايين تقف في صفّه". ونستطيع من خلال المقارنة أن نرى مدى التقارب الشديد على سبيل المثال بين هذا التصريح وبين ما صرح به أمين عام (حزب الله) حسن نصر الله آنذاك من أن لا شيء يجري في حمص!
اختراق أمن الطاقة:
لا تتورع إيران عن استخدام الاقتصاد في الألعاب السياسية الإيرانية المعهودة للضغط والابتزاز؛ فعلى سبيل المثال: بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا وإيران عام 2010 نحو 10.7 مليار دولار، منها 3 مليارات دولار صادرات بضائع تركية إلى طهران، والبقية في أغلبها واردات نفط وغاز منها. أما في عام 2011، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 16 مليار دولار، تدفع تركيا منها نحو 12.5 مليار دولار ثمن الواردات من النفط والغاز، علماً أنّ إيران تبيعه لأنقرة بأسعار أغلى بكثير من سعر السوق! وهو ما يزيد الهوّة في عجز الحساب الجاري في تركيا، ناهيك عن استخدام الغاز والنفط الإيرانيين للابتزاز، كأن يتمّ قطعه في أوقات حرجة بالنسبة إلى الداخل التركي، أو في أوقات تتعلق بمسائل سياسية.. إذ تبيع طهران الغاز لأنقرة بسعر يفوق سعر السوق بكثير، إذ تشتري تركيا على سبيل المثال المتر المكعب الواحد من الغاز من أذربيجان بسعر 330 دولاراً، وتدفع لروسيا نحو 400 دولار للمتر المكعب الواحد، وهو السعر الذي يتطابق مع سعر السوق العالمية، أما إيران فتبيع تركيا المتر المكعب الواحد من الغاز بقيمة 505 دولارات! وهو الأمر الذي دفع أنقرة إلى اللجوء للمحاكم الدولية للبَتّ في القضية أمام تعَنّت الإيرانيين في تعديل السعر.
إضافة إلى مشكلة السعر وإمكانية استخدام الابتزاز عبر قطع الإمدادات الإيرانية خلال فصل الشتاء (وهو ما تكرر عدة مرات)؛ تعتمد أنقرة على دولتين بشكل شبه كامل فيما يتعلق بإمدادات الطاقة من الغاز والنفط، هما روسيا وإيران، وهو ما يعدّ اختراقاً كبيراً لأمن الطاقة لديها، إذ من الممكن أن يؤثّر على خيارات البلاد الإستراتيجية سياسيًاً واقتصاديًاً واجتماعيًاً.
وإدراكًاً منها لهذه المخاطر، تشرع الحكومة التركية، على ما يبدو، في العمل بشكل هادئ ومن دون ضجيج للابتعاد عن إيران شيئاً فشيئاً فيما يتعلق بالاعتماد على السلع الإستراتيجية؛ فخلال العام الماضي نجحت تركيا في رفع عدد الدول التي تستورد منها النفط من 11 إلى 18، والغاز من 5 إلى 9، مع توجّه لزيادة التنويع مستقبلاً، إذ قرّرت شركة (توبراش) التركية على سبيل المثال عام 2012، أكبر مستورد للنفط في البلاد؛ إبلاغ الإيرانيين بأنها ستخفض وارداتها من إيران بنسبة 20 في المائة، مقابل رفع حجم الواردات النفطية من ليبيا بحصّة تساوي نحو 12 في المائة ممّا تستورده تركيا من إيران، وذلك بموازاة محادثات لرفع نسبة ما تستورده أيضاً من السعودية والعراق.
خلاصة:
قد تمتلك إيران القدرة الآن أو لاحقاً على تقليص تعاونها الاقتصادي وقطع إمدادات الغاز عن تركيا، والحد من تدفّق السياح الإيرانيين، ومنع أنقرة من استخدام الممر الإيراني لإيصال الشاحنات التركية إلى وسط آسيا؛ لكن هذه المخاطر لا تعد أكبر هواجس تركيا من طهران، فالأهم من كل ذلك قدرة إيران على خلق مشاكل لتركيا على الصعيد الأمني الداخلي والإقليمي، خصوصاً فيما يتعلق بقدرة طهران على القيام بعمليات أمنية تضليلية منظّمة في الداخل التركي، أو استعمال المنظمات الإرهابية على سبيل المثال كحزب العمال الكردستاني، وهو أسلوب درجت إيران على استخدامه مع عديد من الدول العربية.
** إيران تنخر كيان الأمة (ملف خاص)