قدَّرَ اللهُ وما شاءَ فعلْ

نمرُّ في حياتنا بشتى أنواع الحوادث، فمنها السعيد الذي نفرح ونُسعد به ونتمنى أن تطول أيامه، بل نتمنى أن يدوم، ومنها التعيس الذي نشعر أنه يُشقينا ويُتعبنا ونتمنى أن يزول اليوم قبل الغد، وإنَّ كل هذا وذاك هو من قدرنا الذي قدَّره الله تعالى علينا.

  • التصنيفات: تربية النفس -


نمرُّ في حياتنا بشتى أنواع الحوادث، فمنها السعيد الذي نفرح ونُسعد به ونتمنى أن تطول أيامه، بل نتمنى أن يدوم، ومنها التعيس الذي نشعر أنه يُشقينا ويُتعبنا ونتمنى أن يزول اليوم قبل الغد، وإنَّ كل هذا وذاك هو من قدرنا الذي قدَّره الله تعالى علينا.

قال الصحابي عبادة بن الصامت رضي الله عنه يوماً لابنه: "يا بُني، إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «{C}{C}إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: ربِّ؛ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة{C}{C}»، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «{C}{C}من مات على غير هذا فليس مني{C}{C}» [سنن أبي داود - كتاب السنة - باب في القدر].

والمُشكل الذي يظهر لنا هاهنا هو اعتقادنا أن بعض ما يقدر لنا من أقدار هو شرٌّ لنا، فنبدأ بلوم أنفسنا، ونقول لو أننا فعلنا كذا، أو لو أننا ما فعلنا ذلك، أو نلوم آخرين على ما حصل، ونحملهم أسباب ومسؤولية ما حدث، وهذا تفكير قاصر وفهم خاطئ قد يهلك صاحبه، يقول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: «{C}{C}وإن أصابك شيء، فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان{C}{C}» [صحيح مسلم - كتاب القدر - باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله].

لقد بدأت قصة حياتنا بحدث قدري، وأقصد قصة أبينا آدم عليه السلام، فقد عاتبه موسى عليه السلام أنه أخرج ذريته من الجنة، فكان جواب آدم عليه السلام مقنعاً، ومن إنسان موقن بقدر الله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{C}{C}احتج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمر قُدِّرَ عليَّ قبل أن أُخلق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدمُ موسى مرتين{C}{C}» [صحيح البخاري - كتاب أحاديث الأنبياء - باب: وفاة موسى وذكره بعد].

ولقد ظن أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين تكلم المنافقون وغيرهم في حادثة الإفك أن ذلك شرٌ لهم، وتمكَّن الحزن والهمُّ والتعب من نفوسهم، وعلى رأسهم بالطبع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف لا يكون ذلك وهو الرجل الغيور على أعراض المسلمين فضلاً عن عرضه شخصياً، ولم يكن الأمر هيناً، فإنه يُطعن بأحب وأقرب الناس إلى قلبه وهي زوجته عائشة رضي الله عنها.

وعلَّم الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحاب نبيه رضي الله عنهم درساً بليغاً في هذه الحادثة، فيقول الله تعالى: {{C}{C}لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ{C}{C}} [النور: 11]، يقول ابن كثير الدمشقي في الخير الذي تحقق: "أي: في الدنيا والآخرة، لسان صدق في الدنيا، ورفعة منازل في الآخرة، وإظهار شرف لهم باعتناء الله بعائشة أم المؤمنين، حيث أنزل الله تعالى براءتها في القرآن العظيم الذي: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، ولهذا لما دخل عليها ابن عباس رضي الله عنه وهي في سياق الموت، قال لها: أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحبك، ولم يتزوج بكراً غيرك، وأنزل براءتك من السماء" [تفسير القرآن العظيم - ابن كثير الدمشقي - ج 6 - ص 25].

ولقد خاطب القرآن كلَّ من مسَّه شيء من حديث الإفك، سواء أكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم شخصياً، أم أُم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أم آل أبي بكر الصديق أم صفوان بن المعطل رضي الله عنه، بأن الذي حصل خير لهم وليس شراً؛ لأنهم لم يعترضوا على قدر الله تعالى، فهم تألموا وتأثروا معنوياً وصحياً وربما عاتب بعضهم بعضاً، ولكنهم مع الله تعالى كانوا في غاية الأدب والرضا، فلم يعترضوا ولم ينبسوا ببنت شفه تُغضب الرب تبارك وتعالى.

أما أولئك المبتَلون فقالوا بلسان المقال أو بلسان الحال: "قدَّر الله وما شاء فعل"، وخصوصاً السيدة عائشة رضي الله عنها صاحبة الشأن، لقد تصرفت في غاية الإيمان والعقل والرضا، فحين طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها أن تدافع عن نفسها، أوكلت الأمر بالكلية إلى الله تعالى وهي متعلقة به راضية بقدره، وتعلم أن ذلك ابتلاءً، وترجوه هو من يخلصها من هذه الشدة.

تقول أم المؤمنين رضي الله عنها لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بلهجة الراضية بقدر الله الراجية رحمته: "إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس، ووقر في أنفسكم وصدقتم به، ولئن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم إني لبريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني بريئة لتصدقنّي، والله ما أجد لي ولكم مثلاً، إلا أبا يوسف إذ قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تَحولتُ على فراشي وأنا أرجو أن يبرئني الله، ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحياً، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله، فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجُمان من العرق في يوم شاتٍ، فلما سرَّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها، أن قال لي: «يا عائشة أحمدي الله، فقد برأكِ الله» [صحيح البخاري- كتاب الشهادات - باب تعديل النساء بعضهن بعضاً].

لقد كان الصبر الجميل هو المفتاح الذي جاء بالفرج لأمِّنا عائشة رضي الله عنها، ليس الصبر فحسب، بل بأعلى مراتب الصبر، وهو الرضا بقدر الله تعالى.

وهذا الموقف هو بالضد من موقف تلك المرأة التي أمرها رسول محمد صلى الله عليه وسلم أن تصبر عندما أصيبت بموت عزيز على قلبها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: «{C}{C}اتقي الله واصبري{C}{C}» قالت: "إليك عني" فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي"، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: "لم أعرفك"، فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» [صحيح البخاري - كتاب الجنائز - باب: زيارة القبور].

فالله تبارك وتعالى يريد منا أن نصبر عندما نُبتلى، أو حين ينزل القضاء بقدر الله تعالى بغير ما نشتهي، فعلينا أن نقول لساعتها: "قدَّر الله وما شاء فعل"، إنه قدر القوي الحكيم الغالب القاهر وليس لأحد الاعتراض أو التذمر منه، فضلاً عن الرفض. فإلى كل من أصيب بمرض عضال، وإلى كل من فقد عزيزاً على قلبه، وإلى كل من قدر الله تعالى أن يعيش فقيراً أو مُبعداً عن وطنه وناسه، وإلى كل من لم يُرزق بالذرية، وبالعموم إلى كل من جرت المقادير بغير ما يحب ويشتهي، ليس أمامك إلا أن تقول: "قدَّر الله وما شاء فعل"، فإن الحلَّ في ذلك، لأنك لا تدري أين الخير؟

الله وحده هو الذي يعلم الخير من الشر، فاختار لك هذا القدر، هذا أولاً، وأما ثانياً فلأنك ليس الأسوأ في هذا الكون، فهناك دائماً من هو أسوأ من حالك.

فقدرُ الله تعالى فيه الخير مطلقاً، فلست تدري يا من منعت الذرية ما الذي سيجري لو رزقت أولاداً عاقين أو منحرفين، ولست تدري أيها الفقير لو ملكت المال الوفير ماذا ستصنع به، وكيف ستكون حياتك؟ يقول الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]، فنحن نرضى بالذي يختاره الله لنا، وصدق ذلك القائل حين قال: "الخيرُ فيما اختار الله تعالى". تضيق الدنيا على البعض منا، فلا شيء يتحقق له، الأمور عسيرة، ولا ضوء في نهاية النفق المظلم الذي يسير فيه حسب رأيه هو، فيفقد الإيمان، وينسى الأمل، وتتلاشى ثقته بنفسه، فيتيه في ظلمات اليأس ويتمنى الموت.

والحل لم يكن يوماً في تمني الموت، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يتمنى أحدكم الموت؛ إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يَستَعتِب -يتوب ويطلب من الله المغفرة-» [صحيح البخاري - باب التمني - باب ما يكره من التمني]، فنحن لا ندري أين الخير، فربما كان الابتلاء والشدة خير لنا ونحن لا نعلم، فلقد جعل الله سبحانه وتعالى نجاة يوسف عليه السلام من كيد النساء في أن يلبث في السجن بضع سنين. ولا بد لنا مع كل هذا أن نعرف أن الله أرحم بنا من أنفسنا ومن جميع من يُحبنا، فكم نحب أنفسنا؟ فالله يحبنا أكثر، وكم تحب الأم صغيرها؟ فالله يحبه أكثر منها، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «{C}{C}أترون هذه طارحة ولدها في النار؟{C}{C}» قلنا: "لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه"، فقال: «{C}{C}الله أرحم بعباده من هذه بولدها{C}{C}» [صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته].

وفي العموم فإن تراحم الناس فيما بينهم في هذه الدنيا إنما برحمة واحدة من الله تعالى أما ما خُبِّئَ لنا من رحمة الله تعالى في الآخرة فهي تسع وتسعون رحمة، فتلك هي رحمته الواسعة بنا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{C}{C}جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها، خشية أن تصيبه{C}{C}» [صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب: جعل الله الرحمة مائة جزء].

ومن جميل القصص التي قرأتها، وأثَّرت فيّ بشكل كبير، ولست أدري إن كانت حقيقية أم لا، ولكن مضمونها جميل وذا مقصد عميق، تقول القصة:

"سافر رجل وزوجته في رحلة بحرية، أخذت السفينة طريقها في البحر، ومضى على انطلاقها أيام عدة، ثم ما هي إلا أن هاجت عاصفة شديدة كادت أن تودي بالسفينة وبمن فيها، فالرياح كانت عاتية لدرجة أنها كانت تتلاعب بتلك السفينة يميناً وشمالاً، والأمواج الهائلة تقذف بعضاً من مياه البحر إلى داخلها.

امتلأت السفينة بالماء وانتشر الذعر والخوف بين الركاب كافة وأصيبوا بالهلع، حتى أنَّ قائد السفينة لم يُخفِ قلقه الذي تحول إلى خوف، وأعلن بكل جرأة للركاب أنهم في خطر شديد، وأن فرصة النجاة تكاد تنعدم، وهم بحاجة إلى معجزة من الله تعالى لينجوا. فقدت الزوجة السيطرة على نفسها، فأخذت تصرخ وكأنها بلا وعي، ولا تعلم ماذا تصنع؟ وذهبت بسرعة نحو زوجها لعلها تجد عنده حلاً للنجاة من هذه الشدة. فوجئت المرأة بزوجها هادئاً وهو يجلس في أحدى زوايا السفينة يتمم ببعض الكلمات التي لا يسمعها غيره، استشاطت غضباً واتّهمتهُ بالبرود وعدم الاكتراث بما يجري، وهم على شفا الهلاك، نظر إليها الزوج نظرة غريبة، وبوجه عابس وعين غاضبة استل خنجراً من تحت ثيابه ووضعه على عنقها.

- وقال لها بكل جدية وبصوت حاد:ألا تخافين من هذا الخنجر؟

- نظرت إليه بتعجب، وقالت:لا.

- فقال لها: لماذا؟

- فقالت: لأن من يُمسك بالخنجر رجل أثق به وأحبه.

-هنا انفرجت أسارير الرجل، وهدأ روعه، وابتسم، وقال لها بلجة واثقة: وهكذا أنا، فإن هذه الأمواج الهائجة والرياح العاتية يمسكها من أثق به وأحبه، وهو الله تبارك وتعالى، فلماذا هذا الخوف إن كان هو المسيطر على كل الأمور؟، وحتى لو كتب لنا الموت في هذه اللحظة، فإنها ساعة أجلنا ولا مفر من الموت".

فإذا أتعبتك حوادث الحياة، وشدت عليك عواصفاها، وعصفت بك أزماتها، وشعرت أن كل شيء يسير بالضد مما تريد، فلا تيأس من رحمة الله ونصره وفرجه، فإنه يقول: {{C}وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 78].

لا تخفْ حين تكون مع الله تعالى، فإن الوقت لم يفت بعد، فإن الله تعالى يعرفك أكثر مما تعرف نفسك التي بين جنبيك، ويعرف سبحانه وتعالى الأصلح لمستقبلك الذي لا تعلم أنت عنه شيء، فهو أعلم بالسّرِّ وأخفى منه، فإن كنت تحبه فثق به تماماً واترك أمورك له فهو يحبك، وسيقدر لك الخير وما ينفعك، مع الإشارة أن لا يستوجب الأمر أن يكون قدر الله تعالى في المنح، لأنه ربما كان الشر في المنح، وبذلك يكون الخير في المنع.


عبد الستار المرسومي