أقنعة بشار الخمسة
شريف عبد العزيز
السفاح بشار الأسد السائر على درب أبيه في الطغيان والاستبداد، قرر في لحظة بائسة أن يلجأ إلى الدين الذي قضى عمره كله في محاربته، وبعد أن تقطعت به السبل، ففي ازدواجية عجيبة لا يوجد مثلها إلا عند من هم على دينهم من الرافضة والشيعة، يدلي السفاح بحوار مع جريدة يصف فيه نفسه: "بأنه حامي العلمانية، ومعقلها الأخير في المنطقة، بعد أن استولت الأنظمة المتشددة على الحكم دول الربيع العربي"، وهو بذلك يستجدي التعاطف الغربي المتخوف من الصعود الإسلامي بعد الثورات العربية، ويلعب لعبة تخويف وتفزيع من مستقبل سوريا حال رحيله عنها بهذه الصورة الثورية..
- التصنيفات: الواقع المعاصر - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
فقرة من تاريخ الخداع
في سنة 1909 كانت مخططات الماسونية العالمية ممثلة في حركة الاتحاد والترقي العثمانية، والصهيونية الأوروبية للإطاحة بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني، آخر الخلفاء الأقوياء في الدولة العثمانية، والصخرة الكئود أمام مشاريع توطين اليهود في فلسطين، قد بلغت مرحلتها النهائية ولم يبق سوى إخراج سيناريو الإطاحة، وعلى الرغم من أن حركة الاتحاد والترقي كانت حركة علمانية ماسونية، تعادي الإسلام وتحاربه، إلا أنها قررت أن تستغل الدين عند مخاطبة الناس، وتوظفه للتأثير فيهم وإقناعهم بالإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني، فكانت تصّدر بياناتها بصيغة إيمانية مثل: "أيها المسلمون: كفانا أن نقوم بدور المتفرج على سلطان جبار عديم الإيمان، يسحق القرآن تحت أقدامه"، "استيقظوا يا أمة محمد"، "انهض أيها المسلم الموحد، وأنقذ دينك وإيمانك من يد الظالمين"، إلى آخر هذه الشعارات الحماسية البراقة التي استقطبت كثيرًا من الشباب العثماني المتحمس.
ولما بلغ السيل الربى، ونضج المخطط تماما، تم تدبير أحداث عنف واسعة في 31 مارس في إسطنبول، بتخطيط من يهود أوروبا، وراح ضحيتها كثير من العسكر المنتمين لحركة الاتحاد والترقي، وتحركت قوات الاتحاد والترقي لمحاصرة قصر الخليفة عبد الحميد، وتم توجيه عدة تهم للسلطان العظيم تتماشى مع روح التسخين والتحريض ضده، إذ اتهموه بحرق المصاحف! والإسراف! والظلم وسفك الدماء! ولمزيد من الخداع وإضفاء الشرعية الكاذبة على جريمتهم الشيطانية، تم الضغط على مفتي الدولة العثمانية الشيخ محمد ضياء الدين أفندي من أجل إصدار فتوى الإطاحة، وبالفعل صدرت الفتوى في 27 أبريل 1909 بوجوب عزل السلطان عبد الحميد بسبب ظلمه وفساده وتبذيره لمال المسلمين، ومعاداته للنصوص الشرعية!
واليوم تكرر نفس فصول الملهاة على أرض سوريا المجاهدة الزكية، فالسفاح بشار الأسد السائر على درب أبيه في الطغيان والاستبداد، قرر في لحظة بائسة أن يلجأ إلى الدين الذي قضى عمره كله في محاربته، كما كان أبوه، وبعد أن تقطعت به السبل، ففي ازدواجية عجيبة لا يوجد مثلها إلا عند من هم على دينهم من الرافضة والشيعة، يدلي السفاح بحوار بائس مع جريدة إنجليزية قبل أيام، يصف فيه نفسه: "بأنه حامي العلمانية، ومعقلها الأخير في المنطقة، بعد أن استولت الأنظمة المتشددة على الحكم دول الربيع العربي"، وهو بذلك يلمع نفسه ويستجدي التعاطف الغربي المتخوف من الصعود الإسلامي بعد الثورات العربية، ويلعب لعبة تخويف وتفزيع من مستقبل سوريا حال رحيله عنها بهذه الصورة الثورية..
وإذ به بعد وصلة المديح والعويل على مستقبل العلمانية في الشرق الأوسط بعد اختفائه الحتمي، يقوم بتوجيه أوامره لنكبة الإسلام في بلده الملقب بالمفتي (بدر الدين أحمد حسون) من أجل استصدار فتوى من الطراز القاعدي الجهادي الصميم، بوجوب الجهاد على كل مسلم في العالم من أجل نصرة بشار الأسد ضد أعدائه وخصومه، وذلك في أعقاب امتناع الطائفة العلوية عن إرسال أبنائها للقتال في جيش بشار ضد الثورة، حتى إن أهالي منطقة القرداحة مسقط رأس عائلة الأسد نفسه رفضت إرسال أبنائها للقتال، ودخلت في صدام عنيف ضد الشرطة العسكرية التي جاءت لضبط 2500 من المتخلفين عن التجنيد، ووصل الأمر لاستدعاء قوات إضافية، وتدخل المجلس الأعلى للطائفة العلوية في الأزمة، وانتهت برفض انضمام الشباب العلوي للقتال، والاكتفاء بما قدموه من قبل.
هذه الازدواجية ليست جديدة على نظام اعتاد أن يرتدي أقنعة عديدة يخدع بها الداخل والخارج، العرب والغرب، والمسلمون وغير المسلمين، فهو نظام قد احترف الكذب والتضليل والخداع، في كل مناسبة يرتدي القناع اللازم الذي يناسب طبيعة المرحلة، فلبشار كما كان لأبيه أقنعة خمسة، يتبادل ارتداءها حسب الأحوال والمناسبات والظروف، قناع العروبة، الإسلام، العلمانية، القومية، الممانعة.
ففي الستينيات ارتدى النظام قناع العروبة والدفاع عن قضاياها وهويتها، وصال النظام وجال باسم العروبة، ومع أول اختبار للسفاح الأب حافظ الأسد في الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات، دخل في حلف مع إيران الفارسية ضد العراق العربية، وقدم مساعدات ضخمة للنظام الخوميني، ليؤكد على زوره وكذبه وخداعه للعرب والعروبة، وجاء بشار من بعد أبيه الهالك ليؤكد على كذب دعاوى العروبة، فارتمى بالكلية على العتبات الإيرانية، وصار لا يأتمر إلا من سادته في طهران وقم ومشهد.
أيضا ارتدى النظام قناع القومية، ودعا لتجاوز الخلافات الطائفية والعرقية، وأعلن أنه حامي الأقليات غير المسلمة، فإذا بهذه الثورة تكشف عن طائفية ضيقة شديدة الدموية والوحشية، وأخذ يمزق في أوصال سوريا ولبنان، ويهيئ الأجواء والمنطقة لدويلة طائفية علوية في الشمال، وحرب تأكل الأخضر واليابس في المنطقة بأسرها، ونسي ما كان يدعو إليه من قبل من قومية تجمعنا، وقطرية تشملنا، ووحدة ما يغلبها غلاّب، إلى آخر هذه الشعارات الاستهلاكية باسم قناع القومية.
أيضا ارتدى النظام الأسدي قناع الإسلام وقت الاحتياج إليه، فزار المشاهد، وحضر الصلوات، دخل المساجد، وشهد المناسبات، على خوف واستغفال للمسلمين، واستصدر الفتاوى الجهادية لتجميل وجه جرائمه القبيح، ثم إذا به لا يعرف عن الإسلام شيئا، نصيري حتى النخاع، يستحل الدماء والأعراض والحرمات، ويخوف الغرب من حكم الإسلام، ويستعدي الخارج ضد أي مطالب بحكم إسلامي رشيد، ويصف نفسه بحامي العلمانية ومعقلها الأخير، والمدافع عن حقوق الأقليات، والذي سيؤدي سقوطه لقدوم حكم متشدد يقصي العلمانية، ويحكم باسم الإسلام.
وأخيرا ارتدى النظام قناع الممانعة والمقاومة للصهاينة والأمريكان في المنطقة، وحامل لواء الدفاع عن الأمة العربية والإسلامية، وأنه معقل الثوار الأحرار، وموطن الشرفاء والمجاهدين، ثم اتضح أنها ممانعة خطابية، ومقاومة صوتية، في بلد الميكروفونات الأول في المنطقة، فلم يطلق رصاصة واحدة على الجولان الأسيرة بيد الصهاينة، في الوقت الذي تدخل في الشأن اللبناني لسنين طويلة حتى أفسدها وأفسد المنطقة من حولها، وأطلق رصاصاته في كل اتجاه لتدعيم نفوذه ونفوذ إيران في المنطقة، ولخدماته الجليلة كحارس أمين للبوابات الشرقية والشمالية للصهاينة، ظل النظام الأسدي يحظى بدعم الغرب وتأييده، وهو ما ظهر جليًا في الثورة السورية، فلم يقدم الغرب حتى الآن على خطوة فعلية على طريق حل الأزمة أو الضغط على بشار الأسد لحلها، ناهيك عن الدور الذي يقوم به الجيش الصهيوني في قطع طرق الإمدادات على الثوار، وقصف مواقعهم بالطائرات والسلاح الثقيل، ليتأكد الجميع في أي الصفوف يقف الغرب وأمريكا وإسرائيل في هذه الثورة.
فتوى الجهاد الأخيرة أسقطت كل الأقنعة، ليس عن بشار الأسد فحسب، ولكن عن العالم الخارجي وما يسمى بالنظام الدولي والضمير الإنساني، فلم يكن لهم أي رد فعل يناسب علمانيتهم وأفكارهم الإنسانية الكاذبة، فلم يتهم الغرب بشار الأسد بالطائفية أو الإقصائية أو الإرهاب إلى آخر هذه الاتهامات التي كانت ستوجه على الفور للثوار إذا أصدروا مثل هذه الفتوى القوية، ليبقى في النهاية الحقيقة الثابتة في كل هذه الأجواء المليئة بالكذب والخداع والتضليل، وهي قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].