أصحابُ القَالة أداةٌ مُمزِّقَة...وجُرثومةٌ قاتلة
«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْة؟ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ»
- التصنيفات: تربية النفس -
فئةٌ مريضةُ القلب، سيئةُ الخلق، تهوى الفساد، والتفريق بين العباد، تسعى لإثارة الفتن، وإحداث القلائل والمحن، طُبعت على الحقد والكراهية، قلَّت ديانتهم، وضعفت أمانتهم، أوقعوا الظلم على أناس، فكم من موظفٍ ظُلم، وكم من ضعيف حُرم، بمساعيهم تفرق الأحبة والأصحاب، وقُطعت العلاقات بين الإخوة والأخوات، بسمومهم تفككت الأسر، وتهدمت البيوت، وهُتكت الأعراض، وقُذفت المحصنات، وطُلِّقت النساء العفيفات، بأقوالهم وأفعالهم حصل الخوف محل الأمن، وتفكك المجتمع بأراجيفهم، ونشب الخلاف والشجار بين المجتمعات والدول، وقامت الحروب.
إنهم داءٌ عُضال، ومرضٌ مزمن فتاك، إنهم أصحابُ قَالةِ السُّوء، لخطرهم الداهم حذر النبي صلى الله عليه وسلم منهم أشدَّ التحذير، ووصف فعلهم بعمل السحرة الأشرار، فعن عبد الله بن مسعود أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْة؟ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ» [1].
هذا الأسلوب النبوي يأخذ بالألباب، ويشحذ الهمم، لمعرفة الخطر المحيط بالناس، وفي بيان هذا يقول الشيخ ابن عثيمين: "هذا من أساليب التعليم الجيدة، وهي أن يُلقي المعلِّمُ السُّؤالَ على المُخَاطَبين للتنبيه، حتى يَستثيرَ أفهامَهم، ويُعطُوا الكلامَ انتباهًا، «ألاَ أُنبئكم ما العَضْة» والنبأ والخبر في اللغة العربية معناها واحد.
والعضة: من القَطْع والتمزيق، ومنه قوله تعالى: {الَّذِيْنَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِيْن} [الحجر: 91] يعني: قطعًا وأجزاء، يُؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه، فما هي الأداة المفرقة للأمة الممزقة لهم، قال: (هي النميمة): أن ينقل الإنسان كلام الناس بعضهم في بعض من أجل الإفساد بينهم، وهي من كبائر الذنوب، وقد كُشف للنبي صلى الله عليه وسلم عن رجلين يُعذَّبان في قبورهما، وأخبر أن أحَدَهما كان يمشي بالنميمة، وذلك أنَّ بعضَ الناس والعياذُ بالله يَفتن فيكون شغوفًا بنقل الكلام، كلام الناس بعضهم لبعض، يتزين بها عند الناس، يأتي لفلان ويقول لفلان: قال فيك كذا وكذا، قد يكون صادقًا وقد يكون كاذبًا، حتى إن كان صادقًا فإنه حرام، ومن كبائر الذنوب، وقد نهى الله تعالى أن يُطاع مثل هذا الرجل، قال تعالى: {ولا تُطِع كُلَّ حَلَّافٍ مَهِين . هَمَّازٍ مَشَّآءٍ بنَمِيْم} [القلم: 10- 11].
وقال بعض أهل العلم: "مَنْ نَمَّ إليك الحديث نمَّه منك"، يعني مَن نقلَ كلام الناس إليك فإنه ينقلُ كلامك أنت، فاحذره ولا تُطِعه ولا تلتفت إليه، وفي هذا دليلٌ على حُسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يأتي بالأساليب التي يكون فيها انتباه المُخَاطَب، ولا سيَّما إذا رأى الإنسان من المُخَاطَب غفلة، فإنه ينبغي أن يأتي بالأسلوب الذي ينبهه، لأن المقصود من الخطاب هو: الفهم والاستيعاب والحفظ، فيأتي الإنسان بالأساليب المفيدة في ذلك.
فإذا قال قائل: إذا كان الشخص ينقل كلام الإنسان في الإنسان نصيحة، مثل: أن يرى شخصًا مغروراً بشخص يُفضي إليه أسراره ويلازمه، والشخص هذا يُفضي أسرار صاحبه الذي يُفضي إليه أسراره ويخدعه، فهل له أن يتكلم فيه؟ فالجواب: نعم، له أن يتكلَّمَ فيه ويقول: يا فُلان احذر هذا الشخص فإنه ينقل كلامك، ويقول فيك كذا وكذا، لأن هذا من باب النصيحة، ليس غرضه أن يُفرِّقَ بين الناس، ولكن غرضه أن يُسْدِي النصيحة إلى صاحبه، والله تعالى يقول: {واللهُ يَعلمُ المُفسدَ مِنَ المُصْلِح} [البقرة: 220] والله الموفق" [2].
تعريف النميمة والقالة:
قال النووي معرفاً النميمة: "وَهِيَ نَقْلُ كَلَامِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ عَلَى جِهَةِ الْإِفْسَادِ" [3]. قلت: وضابطها نقل كلام الناس لغرض الإفساد والخصومة. أما لمصلحة شرعية متعينة فلا يسمى ذلك بنميمة.
والقالةُ هي: "كثرةُ القَول، وإيقاع الخصومة بين الناس بما يُحكى للبعض عن البعض" [4]، إنهم ناشري الكلام بالسوء والضلال والإفساد والظلم والبهتان. الذين يتنقلون بين المكاتب والمنتديات بنقل الكلام من هذا إلى ذاك.
النمام يعمل عمل الساحر:
النمام صاحب القالة فعله كعمل الساحر بل هو أشد فتكاً، وقد سُمِّي العضة سحراً، قال الأصمعيُّ: العَضْة السِّحْرُ، بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ للسَّاحِرِ عَاضِةٌ. [5].
وعن أبي الأَحْوَص، عن عبد الله، قال: "كُنَّا نَقُولُ فِي الجَاهِلِيَّةِ: العَضْة السّحرُ، وَإِنَّ العَضْة اليَومَ فِيكُمُ القَالَةُ. قِيلَ: من قالَ. وقالَ: وَحَسْبُ الرَّجُلِ مِنَ الكَذِبِ أَنَّ كُلَّ مَا يَسْمَعُهُ يُحَدِّثُ" [6].
قال عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ عن العضة: "هي النميمة" فأطلق عليها العضة؛ لأن النمام يعمل عمل الساحر. وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال: "يُفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يُفسد الساحر في سنة". وقال أبو الخطاب في عيون المسائل: "ومن السحر: السعي بالنميمة والإفساد بين الناس".
قال ابن حزم: "واتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة. وفيه دليل على أنها من الكبائر" [7].
عقوبة صاحب القالة:
وردت نصوصٌ عديدة في عقوبة النمام صاحب قالة السوء، فعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه قالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ ثُمَّ قَالَ: بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» [8].
وعن حُذيفةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ» [9]. والقتات هو: النمام.
وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قَالَتْ: قَال النَبي صلى الله عليه وسلم: «أَلا أُخِبُركُم بِخِيَارِكُم؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: الذينَ إِذَا رُؤوا ذُكِر اللَّهُ، أَفَلا أُخِبرُكُم بِشِرارِكُم؟ قَالوا: بلى، قَال: المَشاءوُن بِالنَمِيمَةِ، المُفسِدُون بَينَ الأحِبةِ، البَاغُون البُرَآءَ العَنَت» [10].
إنها نصيحة، للحذر من صاحب القالة، فهو جرثومةٌ قاتلة ومعدية، فلا بد من نبذه وهجره، مهما حلف وبرهن على أقواله، ومما يُنبه عليه أن بعض الوسائل الإعلامية وبعض الصحفيين قد يقع في نميمة وقالة بغيضة بدافع السبق الصحفي، وفي وسائل النشر الإلكتروني قد استفحل داء النميمة تحت شعارات براقة، ومسميات زائفة، من مصطلح النقد تارة، إلى مصطلح التحذير تارة أخرى، وكلها أقاويل وشائعات لا تمت للحقيقة بشيء، نسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا من كل خلق بغيض، وأن يكفينا شر من به شر. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه مسلم (102).
[2] شرح رياض الصالحين (6/146).
[3] شرح مسلم 16/159.
[4] النهاية لابن الأثير 4 /123.
[5] تاج العروس 36/433.
[6] رواه البيهقي في شعب الإيمان (10593).
[7] قرة عيون الموحدين ص 139.
[8] البخاري (1378) ومسلم (111).
[9] البخاري (6056) ومسلم (169).
[10] رواه البخاري في الأدب المفرد (323) وحسنه الألباني.
سعد بن عبد الله السعدان