حتميات الحل: عن الواقع الغامق أتحدث
أبو الهيثم محمد درويش
ما تمر به دولنا الإسلامية الآن من واقع تتداخل فيه الأحداث وتتشابك الخطوب يحتاج قبل أن نتفوه بالكلمة الواحدة فضلاً عن الاشتراك في عمل أو قيادته أن نتأمل هذا الواقع وندرس تداخلاته وجميع جزئياته دراسة تحليلية وافية، قبل إصدار أي حكم أو تصدر موقف أو قيادة عمل، أو توجيه الجماهير لفكرة خاصة إن كنت ممن يستمع إليه الناس أو يبادروا لقلمه أو فعله.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
الحكم على الشيء فرعٌ من تصوره..
قاعدة جليلة اتفق عليها العقلاء والحكماء قبل الإسلام وبعده، وجعلها علماء الإسلام من أبرز قواعد الشريعة والحياة معاً، فحتى تحكم على شيء لا بد أولاً أن تتصوره على حقيقته وتفهمه فهماً سليماً لا سقيماً وتعلم جميع جزئياته، وإلا فالحكم الذي ستبنيه سيكون مبتوراً أو جائراً، أو قد يكون على الطرف الآخر خائراً باهتاً وكلا الطرفين ظلم في الحكم ناتج عن فساد في التصور.
ما تمر به دولنا الإسلامية الآن من واقع تتداخل فيه الأحداث وتتشابك الخطوب يحتاج قبل أن نتفوه بالكلمة الواحدة فضلاً عن الاشتراك في عمل أو قيادته أن نتأمل هذا الواقع وندرس تداخلاته وجميع جزئياته دراسة تحليلية وافية، قبل إصدار أي حكم أو تصدر موقف أو قيادة عمل، أو توجيه الجماهير لفكرة خاصة إن كنت ممن يستمع إليه الناس أو يبادروا لقلمه أو فعله.
نرى الكثير من الأفعال الخاطئة تصدر من قيادات عاقلة حكيمة لها من الوزن والثقل العلمي والمكانة العالية، ولكن نظراً لتداخلات الواقع الغامقة والمتشابكة، بل أقول والمصطنعة بحرفية لإرباك القادة والجماهير، وإنما نتج الخطأ في الفعل عن خطأ سبقه في التصور، إما لقلة خبرة في معاينة مثل هذه الأحداث الصعبة، أو لحسن الظن ببعض صانعي الأحداث من المحترفين العاكفين على خطط تخريبية بإستراتيجيات مرسومة بدقة ومدفوعة الثمن مسبقاً، أو لسطحية في التصور ذاته أو تسرع في فهم الواقع المرير.
وصفت الواقع بالغامق: لما نراه من سواد أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم وحذرنا من الوقوع فيه:
قال عليه الصلاة والسلام: «يكونُ بينَ يدَيِ الساعَةِ فِتَنٌ كقِطْعِ الليلِ المُظلِمِ يُصبِحُ الرجُلُ مؤمِنًا ويُمسِي كافِرًا ويُصبِحُ كافِرًا ويُمسِي مؤمِنًا، يَبيعُ أقوامٌ دِينَهم بعَرَضٍ منَ الدُّنيا» (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، تلك الفتن المتلاحقة التي تموج كموج البحر، يسقط فيها من يسقط وينجي الله فيها من يشاء برحمته.
العجب كل العجب ما نراه من تجاسر سفهاء الأحلام على التصدر والقيادة، والوقوع بالجماهير في الهوة السحيقة في وقت كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يتوخى الحذر ويخاف على نفسه الهلكة إن أدركته تلك الوقائع الغامقة ذات الأمواج المتلاحقة، عن حذيفة رضي الله عنه قال: "كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أَحْفَظُ كَمَا قَالَ: قَالَ: هَاتِ إِنَّكَ لِجَرِيءٌ وَكَيْفَ؟ قَالَ: قُلْتُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّلاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ»، فَقَالَ عُمَرُ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ إِنَّمَا أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْر. قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا. قَالَ: فَيُكْسَرُ الْبَابُ أو يفتح؟ قَالَ: قُلْتُ: لا، بَلْ يُكْسَرُ. قَالَ: ذَاكَ أَحْرَى أَنْ لا يُغْلَقَ أَبَدًا. قَالَ: فَقُلْنَا لحذيفةَ: هَل كَانَ عمر يعلم مَنِ البابُ؟ قَالَ: نَعَمْ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةٌ إِنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ قَالَ: فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ مَنِ الْبَابُ؟ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ. فَسَأَلَهُ فَقَالَ: عُمَرُ.." (متفق عليه).
بعد المقدمة السابقة تلزمنا حتميات حتى نخرج من المعضلة التي تدور فيها الأمة، خاصة بعد الثورات العربية الحديثة..
أولها: حتمية العذر.
فإذا كان الواقع متشابك ومتداخل وهناك أطراف تصطنع الأحداث بحرفية ودعم خارجي، فهذا الواقع الملغم يستلزم من كل الفصائل والطوائف والحركات أن تلتمس العذر في اختلاف الرؤى الناتج عن اختلاف تصور هذا الواقع الشائك..
- عذر على مستوى الفئات المجتمعية المختلفة.
- عذر على مستوى الفصائل والحركات الإسلامية فيما ينشأ من اختلاف وجهات النظر واختلاف طرق المعالجة.
- عذر بين القيادات والقاعدة الشعبية.
- عذر بين القواعد الشعبية بعضها بعضاً.
الحتمية الثانية: ضرورة التعاون..
فالمعضلة تمس الجميع وتكاد تحرق الجميع بنار الفرقة والاختلاف والتنازع، وأخص بالتعاون جميع الحركات الإسلامية (علماء، وساسة، ودعاة، وأتباع وجماهير)، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103].
يقول الشاعر:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً *** وإذا افترقن تكسرت آحادا
فالإنسان بطبعه كائن اجتماعي، يميل للاجتماع بغيره لقضاء مصالحه ونيل مطالبه، التي لا تتم إلا بالتعاون مع غيره ومصلحة النفس والأمة، لا تتم إلا بالتعاون على البر والتقوى، المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، وفي الحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه (رواه البخاري ومسلم)، ومن المعلوم أنه لا يتم أمر العباد فيما بينهم ولا تنتظم مصالحهم ولا تجتمع كلمتهم ولا يهابهم عدوهم إلا بالتضامن الإسلامي الذي حقيقته التعاون على البر والتقوى، والتكامل والتناصر والتعاطف، والتناصح والتواصي بالحق والصبر، ولا شك أن هذا من أهم الواجبات الإسلامية والفرائض اللازمة.
الحتمية الثالثة: عدم المسارعة بالاتهام..
فالتسرع بالاتهام أصبح سلعة رائجة وخلقاً سائداً تئن منه الأمة وتخسر الكثير من الجهود، وينتج عنه فساد ذات البين، وتشويه للرموز وتفرق وتصدع لعناصر البناء.
الحتمية الرابعة: في رقبة كل فرد: ضرورة البناء والنهوض ولو أخفق الجميع.
روى الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل»، فالشريعة الإسلامية شريعة بناء، ها هو النبي صلى الله عليه وسلم يحض على غرس فسيلة لن يأكل أحد ثمرتها، وإنما هي دلالة على العمل والبناء حتى آخر لحظة من عمر الدنيا.
وفي النهاية:
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].