التمييز

في كثير من الخلافيات جانب غير منظور من التوافقات، وعلة خفائه: عدم النظر إليها للتعصب أو الهوى، أو الجهل وعدم القدرة على الإحاطة بالقضية من جميع جوانبها، فلو أن كل متخاصمين في مسألة تريثا وفتشا في جميع جوانبها، وتأمل كل إلى ما عند الآخر من رأي وأدلة بالقدر والحرص ذاته الذي ينظر به إلى ما عند نفسه لبان له ذلك الجانب، فوقف على حقيقة ماثلة: أن كثيرًا من الخلاف صوري وهمي، وأن حيز التوافق ربما كان أوسع وأرحب من حيز الاختلاف.

  • التصنيفات: أعمال القلوب -


في كثير من الخلافيات جانب غير منظور من التوافقات، وعلة خفائه: عدم النظر إليها للتعصب أو الهوى، أو الجهل وعدم القدرة على الإحاطة بالقضية من جميع جوانبها، فلو أن كل متخاصمين في مسألة تريثا وفتشا في جميع جوانبها، وتأمل كل إلى ما عند الآخر من رأي وأدلة بالقدر والحرص ذاته الذي ينظر به إلى ما عند نفسه لبان له ذلك الجانب، فوقف على حقيقة ماثلة: أن كثيرًا من الخلاف صوري وهمي، وأن حيز التوافق ربما كان أوسع وأرحب من حيز الاختلاف.

وفي الخلافيات مسائل هي أصول وأخرى فروع، وفي التفريق بينهما فائدة؛ إذ بينهما تفاوت في القدر والحكم، فالأول يعقد عليه الولاء والبراء؛ إن كان في أصول الإيمان، فهو إيمان أو كفر، أو في أصول السنة، فسنة أو بدعة، وما عدا ذلك فيمكن تجاوزه، فما لم تتميز الخلافيات بأنواعها ومراتبها يظل الخلاف أعمى؛ يُحكم بالتكفير في مسائل حقها التبديع، وبالتبديع فيما حقها التخطئة، وبالتخطئة فيما هو خلاف سائغ.

هذا (التمييز) هو العقدة الأهم في المسيرة العلمية للأمة، وهي عملية لم تتم حتى الآن بقدرها المستحق، لعل ثقلها أو تعذرها هو المانع، غير أن الحاجة إليها ماسة اليوم؛ للحد من تقلبات المواقف الملحوظة جليا على فئات بعضها طلبة علم ودعاة، وليس المطلوب الوصول إلى التمييز الكامل في كل القضايا، فهذا مما يستحيل كما يبدو، لكن العمل الدؤوب عليه يثمر يقينا التخفيف من الخلاف؛ بمعرفة مبكرة بمواقع الإقدام وما يلوح في الأفق.

وفي كتب الإجماع محاولات قديمة لإقامة هذا التمييز، مثل كتاب ابن المنذر، وابن عبد البر، و(مراتب الإجماع) لابن حزم، و(الإفصاح) للوزير يحيى ابن هبيرة، وما حكاه ابن تيمية منثورا في كتبه وجمعه عبد الله البوصي، كذلك كتب الخلاف، كـ(اختلاف الفقهاء) لابن جرير، كما أن (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) لابن رشد يخط في هذا القرطاس بجمعه أقوال الأربعة في كل مسألة، مع بيان علة كل قول، والجهد أكبر مما ذكر، وحري أن يعاد إنتاجه، وبخاصة بعد تجدد النوازل، وحاجة طائفة من المسائل القديمة إلى التحقيق، وهذه مهمة جليلة خطيرة لم تتهيأ لها البيئة حتى الآن، وأولى الأطراف بها (المجامع العلمية الشرعية) المشتغلة بقضايا النوازل أكثر من غيرها.

ليس المقصود نفي الخلاف كليا، بل منع المصطنع منه، أو ما يسمى بـ(الصوري) -الوهمي- الذي لا حقيقة له، والذي ينفذ من خلاله ذو المصالح (الذاتية) أيًا كان نوعها، فيعطلون به اجتماع الأمة أو تقاربها بالقسط، ولهم قدرة على إنجاح مهمة التنازع هذه، كما نجح الغوغاء قتلة عثمان رضي الله عنه في التحريش ما بين علي ومعاوية رضي الله عنهما في معركة صفين، فكم من مرة بات الفريقان على الصلح، بما يدل على صدق نواياهم، فيصبحون وقد نشب القتال بأفراد انبثوا في الطرفين، الاتفاق يضر بهم، والخلاف يحميهم ويحييهم، وهكذا هم أولاء القوم وأولادهم، لا يقتاتون إلا على التحريش.


لطف الله خوجة

المصدر: نور الإسلام