منزلة الدين عند مفكري الحرية

إبراهيم بن محمد الحقيل

لم تقف الثورة الفرنسية عند حد تمجيد الإنسان والمحافظة على استقلاله، بل وجدت فلسفة لا دينية تنكر الله تعالى وتطالب بمطاردة الدين، وأخرى ترى إلغاء أي مذهب فكري، والاقتصار على ما يكون واقعيًا يؤيده الحس وتسانده التجارب، وهو ما يسمى بالفلسفة الحسية (النقد المباح، عماد النجار، ص: 38).

  • التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة -


كان الهدف الأساس للثورة الفرنسية -التي كانت ثورة على الدين ورجاله- إلغاء سلطان الدين والدولة على الناس، وإطلاق الحرية في شتى المجالات بما فيها حرية الرأي، والحرية الاقتصادية، ونص إعلان حقوق الإنسان في فرنسا سنة 1789م على حرية نشر الأفكار والآراء، وجعلها من الحقوق المقدسة للإنسان.

ومع الغلو في رد الفعل الأوربي على الكنيسة وممارساتها، لم تقف الثورة عند حد تمجيد الإنسان والمحافظة على استقلاله، بل وجدت فلسفة لا دينية تنكر الله تعالى وتطالب بمطاردة الدين، وأخرى ترى إلغاء أي مذهب فكري، والاقتصار على ما يكون واقعيًا يؤيده الحس وتسانده التجارب، وهو ما يسمى بالفلسفة الحسية (النقد المباح، عماد النجار، ص: 38).

وتقوم الفكرة الغربية بعد نشوء العلمانية فيها ونبذ الدين، والثورة على الكنيسة على فكرة تحطيم القيود عن الإنسان، سواء كانت قيودًا دينية أم أخلاقية أم عرفية، وعدم تقييده بأي شيء سوى القانون الذي يضعه الإنسان نفسه حين اختار من يمثله في المجالس التشريعية.

يقرر (جون ستيوارت ميل) قدسية الحرية، وفك القيود عن الإنسان بقوله: "لا مجال لأي تقدم حضاري، ما لم يترك الناس أحرارًا كما يحلو لهم، وبالأسلوب الذي يناسبهم" (حدود الحرية، ايزيا برلين، ص: 18)، ويقول: "فالحرية في جوهرها هي إطلاق العنان للناس ليحققوا خيرهم بالطريقة التي يرونها، طالما كانوا لا يحاولون حرمان الغير من مصالحهم، أو لا يعوقون جهودهم لتحقيق تلك المصالح" (الحرية، ميل، ص: 76-78).

وافتتح (جون جاك روسو) كتابه (العقد الاجتماعي) الذي يعد إنجيل الثورة الفرنسية، بجملة ثائرة تقول: "خلق الإنسان حراً"، وكان البند الأول لميثاق حقوق الإنسان: يولد الناس أحرارًا، ويقرر هارولد جوزيف لاسكي بأن الحرية هي انعدام القيود، بمعنى القدرة على اتساع واختيار الفرد لطريقة حياته الخاصة، بدون أي ضغوط وتحريمات تفرض عليه من خارجه.

وهذه الحرية مطلقة حتى من قيود الدين، بل إن تحريرها من القيود الدينية هو الأساس في نشأتها؛ لأن هذه الحرية جاءت رد فعل على التسلط الكنسي على الناس بدعوى الحق الإلهي؛ ولذا لا يوجد في كافة إعلانات حقوق الإنسان أي بند يدل على عبودية الإنسان لله تعالى، ولا على خضوعه لدينه.

وإدراج حق التدين في هذه الإعلانات هو لحق الإنسان، وليس لحق الله تعالى، ولا اعترافًا بعبودية الإنسان لله تعالى؛ ولذا لا تعارض عند الغرب بين هذه الإعلانات وبين السماح بنقد الدين أو الازدراء به، أو إنكار الله تعالى أو السخرية منه، ونحو ذلك؛ لأن الحق ليس لله تعالى ولا للدين، وإنما للإنسان الذي يدين بالدين، فكما أنه يدين بالدين، فمن حق غيره أن يزدري بالدين، ومن حقه هو أيضًا أن يزدري بدين غيره، فالمرتكز في هذه الحقوق هو الإنسان فقط.

وكثير من المفكرين المسلمين حين قرروا الحرية، وادعوا أنها من دين الله تعالى، وحشدوا لها النصوص الكثيرة، مستدلين بها على أن الإسلام قد سبق إعلانات حقوق الإنسان، إلى تقرير ما قررته من حقوق الإنسان،  فإنهم لم يتناولوا هذه الإشكالية، ولم يسلطوا الضوء عليها، بل تجاوزوها مقررين الحرية بمفهوم إسلامي يُستدل له بالنصوص، وإذا عورضوا أو نوقشوا في ذلك ادعوا أنهم يتكلمون عن أمور الدنيا لا عن أمور الآخرة، بمعنى أن حرية التدين كفلها الدين للإنسان في الدنيا، ولو عوقب على كفره في الآخرة!

والحقيقة أن هذه الطريقة في التناول فيها اختزال وتبسيط مخل، سببه التقارب مع الغرب المهيمن، والضاغط بقوته السياسية والعسكرية والاقتصادية على الشعوب المسلمة، ولكن أيضًا فيها تزوير للإسلام، وتحريف لمعاني كلام الله تعالى وتبديل للشريعة، وانتقاء من النصوص حسب الهوى والمزاج؛ إذ إن الأصل في الإسلام عبودية الإنسان لله تعالى، وما خلق إلا لأجل ذلك، ولكن الله تعالى ابتلى الإنسان بالاختيار، ويثيبه أو يعاقبه على اختياره، ومعلوم أن الثواب والعقاب على الاختيار ينافي حرية الاختيار في أصلها؛ ليكون الاختيار للمعاقب وبالاً عليه يتمنى أنه لم يخير، فأي حرية يزعمها دعاة الحرية والحال هكذا؟!

إن المفكرين الغربيين حين قرروا الحرية بهذه الطريقة التي تستبعد العالم الغيبي، فلأنه لا يقين عندهم في دينهم الذي طالته أيادي التحريف، وسطوة الدين المحرف عليهم قد نقلتهم منه إلى الإلحاد وإنكار الغيب، وعدم الإيمان بالبعث والنشور، وأحسنهم حالاً من هو متذبذب بين الشك في هذه الحقائق الكبرى، والإيمان بها، فلا غرابة حينئذ أن يبني المفكر الغربي حقوق الإنسان على ما هو متيقن به، وهو الحياة الدنيا دون الآخرة، التي هي عنده محل شك أو إنكار.

لكن ما حاجة المفكر المسلم أن يستنسخ هذه الحرية، ويجري عليها عمليات تجميل ليدخلها في الإسلام، وهي مناقضة له في الأساس الذي بنيت عليه، ذلك الأساس الذي يطلق الإنسان من أي عبودية كانت، وأولها عبوديته لله تعالى.