ضجيج العلماء .. الشيخ البوطي نموذجًا

خالد سعد النجار

لقد سقط البوطي سقوطًا مدويًّا بوقوفه مع نظام الأسد الذي يقتل ويقهر شعبه، وأحرق نفسه بموقفه المهادن دون أن يمتشق حسامًا..

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -


من العلماء من ملؤوا الدنيا نورًا وخيرًا وبركة، ومنهم -على قلتهم- من ملأها ضجيجًا وأضواء وشهرة، وكان حالهم كمن يسمع قعقعة ولا يرى طحنًا. كسبوا الألقاب ولم يستحوذوا على الأفئدة، ومالؤوا أصحاب السلطة والنفوذ من أجل لعاعة من الدنيا غير عابئين بأنات المظلومين ولا دماء المقهورين.

كان الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي شخصية فكرية علمية لها وزنها في المجتمع السوري، وثقلها الشعبي في سوريا يوازي ثقل الشيخ الشعراوي في مصر على فارق بينهما، ولا يمل السوريون من الفخر به في كل مجلس ومحفل، ولا يقبلون النقد فيه، بسبب أسره لهم بأحاديثه في الإذاعة والتلفزة السورية، وهو صاحب بلاغة وفصاحة آسرة إذا تحدث، وصاحب قلم رشيق مؤثر إذا كتب، وكتابه (فقه السيرة النبوية) الشهير تربت عليه كل الحركات الإسلامية المعاصرة.

وكان الشيخ البوطي في مقدمة الشيوخ المقدمين عند النظام السوري أيام الهالك حافظ الأسد (عالم أمن الدولة السوري)، وكان حافظ الأسد قد أعطى تعليماته للقصر الجمهوري بأن يدخل عليه البوطي في أي وقت دون استئذان، وكانوا يبلغون حافظ الأسد بقدومه فيفرش سجادته ويعلق سبحته في يده فلا يدخل عليه البوطي إلا وهو على السجادة؛ لينقل البوطي هذا المشهد إلى مشايخ السنة وأعيانهم.

ولما هلك باسل الأسد وشيعت جنازته اجتمع شيوخ النصيرية وشيوخ النظام من أهل السنة، وكانوا يتوقعون أن يقدم حافظ الأسد أحد علماء النصيرية للصلاة عليه، ولكنه قدم البوطي مما أغاظ أعيان النصيرية، وفي تأبينه ألقى البوطي كلمة تسابق عبراته كلماته يخبر الناس فيها أنه يرى منازل باسل في الجنة، نعوذ بالله من التملق والنفاق.

إلا أن بشار الأسد الابن كان يكره في البوطي تملقه لوالده؛ خاصة وأن البوطي أراد أن يمارس نفس النهج مع بشار، فقال له في أربعينية حافظ الأسد أنه بويع بيعة لا شائبة فيها، رغم أنه تم الحكم لبشار بتعديل مشبوه للدستور السوري خلال دقائق، لكن بشار لما تولى الرئاسة بعد هلاك أبيه ما عاد يحفل بالبوطي، ولا يأبه به؛ فيستأذن البوطي للدخول عليه مرات ولا يأذن له، ولا يقابله إلا في المناسبات التي تستدعي ذلك، فأزال الخصوصية التي كانت للبوطي أيام حافظ الأسد الأب.

كان من الأصلح للبوطي -والحال هكذا- والأحفظ لكرامته، وقد بلغ سن الهرم، أن يبتعد عن بشار، ولكنه ظل يقف على بابه ذليلًا مهينًا، فلما اندلعت الثورة السورية كان من الكياسة أن ينأى البوطي بنفسه عن تأييد النظام الذي أهانه، وأن يتربص فلا يسابق النظام إلى ما يريد، وهو يرى تهاوي الأنظمة التونسية والمصرية ثم الليبية واليمنية، ثم إن رأى بوادر نجاح الثورة السورية كان كما كان في عهد النظام السابق -شيخ الشعب وحبيبه- ولكنه الخذلان الذي أصابه فظل ينافح عن نظام كافر ظالم دموي لب عقيدته أن الإله قد حل في سيدنا علي رضي الله عنه، ومن ثم بعد مقتله يصبح من يحكمهم رباً. وكان هذا النظام يجبر شعبه أن يقول في المسيرات المؤيدة: "يالله حلك حلك، خلي الأسد محلك". تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.

والغريب أن البوطي أيّد الثورة الليبية لأن القذافي طالب بحذف كلمة من القرآن، لكنه لم يتخذ موقفًا مماثلًا ممن كانوا يدعون المتظاهرين للسجود لصورة بشار، أو يجبرون المعتقلين على القول بأن بشار إلهنا وربنا، ولم يستنكر فعلة رجال الأمن، بل حمَّل الثوار المسؤولية قائلًا: "إن ذلك يحدث بسبب خروج هذا الشخص مع المسيرات إلى الشارع والهتاف بإسقاط النظام وسبّ رئيسه والدعوة إلى رحيله".

وقد أثارت عدة فتاوى أصدرها الدكتور البوطي -ورأت جماهير الشعب السوري أنها مناصرة لنظام الأسد- حفيظة المتظاهرين في مدينة دير الزور؛ ما دعاهم إلى إحراق كتبه في جمعة "أحفاد خالد" (22 يوليو).
وكان أغرب هذه الفتاوى الصادرة عن الدكتور البوطي، بحسب رأي الكثير من المحتجين، إجازته السجود على صور رئيس النظام السوري بشار الأسد. وجاءت فتوى البوطي ردًا على سؤال وجه له عبر موقع "نسيم الشام" من سائل من دوما يسأل عن حكم الإثم الذي لحقهم بعد إجبار الأمن لهم بالسجود على صورة بشار، فأجاب البوطي بقوله: "اعتبر صورة بشار بساطًا.. ثم اسجد فوقه"، على حد قوله.

وحين وجهت اتهامات لبشار الأسد بمنع العسكريين من الصلاة في الجيش، حمّل البوطي مسئولية ذلك "إن حدث" لتصرفات فردية من الضباط، وقال: "إنه تم توجيه من قبل ولي الأمر بأن لا يمنع أحد من الصلاة في المعسكرات فرادى، خارج ساعات العمل".

أي أنه أجاز أن لا يصلي الجنود في جماعة، ولا في وقت العمل، فماذا لو كانت نوبة العمل تشمل أوقات الظهر والعصر والمغرب والعشاء؟ هل يؤخر الجندي كل هذه الصلوات؟

لقد كان يكفي البوطي اتخاذ الحياد سبيلًا إن أراد السلامة والظفر الدنيوي؛ فكفر النصيرية مجتمع عليه بين علماء المسلمين، وظلم النظام السوري لا يتنازع فيه اثنان، ودمويته مشاهدة كل صباح ومساء، وسقوطه متأكدٌ بعد استمرار الثورة رغم شدة البطش، ولا سيما بعد سقوط النظام الليبي وهو يشبه إلى حد كبير النظام السوري، وهذه الثلاث مع وضوحها في النظام السوري فإن البوطي لم يرها مع أنه الفقيه الفيلسوف المفكر، ولا أجد وصفاً يليق به إلا قول الله عز وجل: {مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف:186]، ولا أدلّ على موالاته السمجة من تشبيهه جنود النظام السوري من البعثيين والنصيريين الكفرة الظلمة الدمويين بالصحابة الكرام رضي الله عنهم، وتشبيه جيش بشار ونظامه بدولة النبي عليه الصلاة والسلام، وهم النصيريون أنفسهم الذين خرجوا من سنوات في تركيا مطالبين أن لا يفرض على أولادهم دراسة المناهج الإسلامية، وحجتهم في هذا أنهم فرقة غير إسلامية فلماذا يجبرون على دراستها!!

ومن خذلانه تمنيه أنه كان أصبعًا في يد الباطني اللبناني حسن نصر الله، ولولا خذلانه لعلم أنه -رغم ما هو فيه من بدعة وانحراف- أكرم من حسن نصر الله، لكنه الخذلان الذي أحاط به فجعل نفسه أقل منه، وصدق الله العظيم حين قال{: وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].

والشيخ البوطي من مواليد عام 1929 في جزيرة بوطان التابعة لتركيا، وهو عالم متخصص في العلوم الإسلامية، ومن أهم المرجعيات الدينية على مستوى العالم الإسلامي، ورئيس اتحاد علماء بلاد الشام، وله أكثر من ٍستين كتاباً تتناول مختلف القضايا الإسلامية، وقد اختارته جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم في دورتها الثامنة ليكون شخصية العالم الإسلامي. لكن كل هذا الزخم العلمي ضاع في أروقة السياسة ومداهنة الأنظمة، بسبب النهم الشديد للشهرة والولع برؤية الخلق عن رؤية الخالق.

ويبدو أن النظام الحكم في سوريا كان يؤمل أن تجد مواقف البوطي آذانا صاغية من السوريين، فتساعد على إجهاض الثورة وإفشالها أو محاصرتها على الأقل، إلا أن الواقع كان خلاف ذلك، فقد سقط البوطي مع النظام ونال من النقد بل والشتم ما لم يتوقعه واتسع الرقع على الراقع فتفاقمت الثورة أكثر وأكثر.

وترجح كل المصادر والتحليلات المطلعة أن قتل الشيخ البوطي كان على يد نظام بشار الأسد الذي بذل علمه وعمره كله في مناصرته، خاصة وأن حي المزرعة الذي يوجد به المسجد هو منطقة أمنية بامتياز؛ ما يجعل من الصعب على الجيش الحر اختراقها وتفجير المسجد، كما أن المسجد الذي كان يوجد به البوطي يخضع رواده لتفتيش كامل قبل الدخول إليه.

ويرى المحللون صنيع النظام لهذا العمل الإرهابي والإجرامي بغية إحداث فتنة طائفية (البوطي سني من أصول كردية)، واستمالة السنة لصفوفه بإظهار رجال الثورة على أنهم معادون للشعب السوري بكافة أطيافه السنية والعلوية على السواء. كما أنه يريد أن يشوه الثورة ويرسل إشارة لكل السوريين عن ما ستكون عليه سوريا لو انتصرت الثورة حيث الانتقام والتشفي وتصفية الحسابات مع المخالفين.

لقد سقط البوطي سقوطًا مدويًّا بوقوفه مع نظام الأسد الذي يقتل ويقهر شعبه، وأحرق نفسه بهذا الموقف المهادن دون أن يمتشق حسامًا، وكأن بقاء الأسد يعني بقاءه، ونهايته تعني نهايته أيضًا، فكانت نهايته -وهو الشيخ المسن- قبل نهاية نظامه الذي عاش في تطويع الفتاوى لخدمته، بل نهايتة على يد هذا النظام نفسه، وهذا من المفارقات العجيبة والعبر الغريبة لمن أراد أن يذكر ويتعظ.

المصادر
· حين خذل الشيخ البوطي، إبراهيم بن محمد الحقيل
· محمد سعيد رمضان البوطي، أحمد عز الدين
· من قتل البوطي، محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ.