كلمة إلى الشام

نافع بن خالد العلواني

قالوا: تحب الشام قلت جوانحي *** مقصوصة فيها و قلت فؤادي

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -


بسم الله، و الحمد لله، الحمد لله و كفى، و الصلاة و السلام على عباده الذين اصطفى.

أما بعد:

فقد طلب إليّ بعض الإخوة الأكارم في موقع "طريق الإسلام" أن أوجه كلمة إلى الإخوة في سوريا، في بلاد الشام التي أحبها.
 

قالوا: تحب الشام قلت جوانحي *** مقصوصة فيها و قلت فؤادي


كلمة أواسيهم بها في هذه الظروف العصيبة التي فرضت عليهم من ظالم غشوم. قلت: كيف أخاطبهم، و أتحدث إليهم، و قد غُيّبتُ عنها أكثر من أربعة عقود!! أتحدث إلى الأهل و الإخوة و هم من أربعين سنة لم يروا شخصي، ولم يسمعوا صوتي حتى بالهاتف -إي و الله- خوفاً من الطغاة. أأخاطب لداتي و أترابي، وهم بين مفقود و شهيد و طريد. أنا الآن لا أعرف أحداً ممن في الداخل، و لا يعرفني أحد



ذهب الذين أحبهم *** و بقيت مثل السيف فردا


فلمن أخاطب، والديار خالية، و المنازل مقفرة.. لقد تفرق الشمل المجتمع، وخلا المكان المزدحم كما يقول الطنطاوي:



ما في الديار مخبر *** إلا صدىً لمصوّت
ناديت أين أحبتي *** فأُجِبت أين أحبتي

إخوتي الكرام:

إن المصائب عندما تكبر، يعجز الفكر عن تصورها، و اسمحوا لي أيها الإخوة أن أستعير عبارات كتبها الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى في نكبة الجزائر، و لو كان الشيخ حياً لهاله ما سيشاهده و يراه.

إن المصيبة لو كانت في لصِ ينزل على دارِ، أو حريق يشبّ في غرفة، لكانت مصيبة سهلة، إذ يضطرب الحي، فيهرب اللص، أو تخمد النار و ينتهي الأمر. ولكن تصوروا ما يصيب الناس حين تفاجئهم وسط الليل و هم آمنون في دورهم، أو الطلاب في مدارسهم، أو المصلون في مساجدهم، أو الحرائر في خدورهن، الطيارات تصبّ عليهم الحمم، و المدافع ترتج لها الأرض، و الدبابات أغلقت الدروب و سدّت مسالك الطرق، و الجند -الشبيحة الآن في سوريا- دخلوا كل بيت و كل غرفة بسلاحهم، فيذهل الرجل عن أهله، و يُقتل الأب أمام بناته، والأبناء أمام أهليهم، ويُنالُ من البنت بحضرة أبيها، و من المرأة على عين زوجها، و إن هرب أحد لحقه الموت .. و أين المهرب من النار، و قد أحاطت من كل جانب؟؟

و إن أُفْلِتَ ولد من الموت عاش باليتم حياة ليست خيراً من الموت؛ و لأنها إن نجت -للزوجة- من الموت عاشت تتجرع حزنها على زوجها أو على ولدها أو على الإثنين. و قاست مرارة الحاجة و ذل السؤال.

إخوتي الكرام:

صبر الجزائريون فانتصروا، وصبرت دمشق و سوريا أيام الفرنسيين فانتصرت. و اليوم، قد كتب الله لكم أن تقارعوا أعتى ظلم مرّ في الوجود، و سيُكتب لكم النصر لأنكم تعلمون أن الفلاح إنما يكون بالصبر، أوضح ذلك ربنا في سورة آل عمران و هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُ‌وا وَصَابِرُ‌وا وَرَ‌ابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلّ?كُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].

قال العلماء: "إنها أربعة أوامر أمرنا بها سبحانه ليمحّص عباده تمحيصاً واقعياً عملياً في معركة من أهم معارك الإسلام و هي معركة أحد، فيقول سبحانه: -كما قال الشعراوي- فيا من آمنتم بي إيماناً صادقاً صافياً، استمعوا إليّ يا من آمنتم بي: اصبروا: و هذا أمر بالصبر، و لكن هب أن عدوك صبر مثلك عندها يأتي الأمر الثاني؛ و صابروا: و هذا أمر ثانٍ أي أصبر منهم. و رابطوا: أمر ثالث، و اتقوا الله: رابع.

و لكن قد يقول قائل: ما الغاية من هذه الأوامر؟
و الجواب: إن الغاية: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

و ماهو الفلاح؟
و الجواب: إن الفلاح الذي يقصده الحق في الآية هو: فلاح الدنيا و الآخرة. و فلاح الدنيا: هو الانتصار على خصومكم كما قال علماؤنا، و أن تعيش يا عبد الله معيشة آمنة مستقرة حرة كريمة عزيزة. و فلاح الآخرة: أن يأخذ المؤمنون حظهم من النعيم المقيم و الخلود و عندما يقول الله: اصبروا، فلا بد من وجود مشقة، لأنك مؤمن و الإيمان يوصلك إلى الجنة، و الجنة محفوفة بالمكاره، فاصبر يا عبد الله و صابر لتنال عز الدنيا و خلود الآخرة، فالإسلام دين العزة، و بالله عليك -أخي الكريم- الذي ترابط الآن في سوريا، ألا تشعر بعزة لا يشعر بها المتخاذلون، وبلذة يفتقدها القاعدون المترفون.

يروي المؤرخون: أن المقداد بن الأسود، فارس رسول الله صلى الله عليه و سلم شوهد في حمص في سوق الصيارفة، وكان رضي الله عنه ضخماً بديناً و كان بضخامته قد أخذ عرض طاولة الصيرفي، فقال له بعض من حوله: "إن الله عذرك" أي لضخامة جسمك لا تستطيع التحرك في الجهاد كثيراً!! فقال: "ما تركت لنا سورة التوبة لنا عذراً" يشير رضي الله تعالى عنه إلى الآية: {انفِرُ‌وا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ‌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41].

و يروي المؤرخون: أنه رأى جندياً من المسلمين حزيناً فسأله عن شأنه، فأخبره أن الأمير ضربه، فاستعظم المقداد أمر الضرب لمسلم و سأله عن السبب، فقال الجندي: "كنت قد جشرت دابتي في المرعى، و الأمير كان قد أمر أن نتهياً و لا نجشر الدواب، و لا علم لي بذلك، فلما رآني وبخني و ضربني، فجلست حزيناً لأني ما رأيت مثل هذا اليوم"، أخذ المقداد بيد الجندي وسار إلى أمير الجند ويسأله عن القضية و يثبت صدق الجندي، و أنه لا علم له بالأمر بالمنع، عندها قال المقداد للقائد: "لا بد أن يقتص منك" فرضي القائد، و لكن الجندي عفى و رضي. فقال المقداد عندها كلمة ينبغي أن تقرع أذن كل مسلم، قال: "إنما أريد أن أموت ليبقى الإسلام عزيزاً في نفوس أهله، ولله العزة و لرسوله".

إخوتي الكرام في سوريا الحبيبة:

إن الآية الحادية و الأربعين من التوبة: {انفِرُ‌وا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ‌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41] وهذه في غزوة تبوك. قال العلماء في قوله تعالى: {انفِرُ‌وا} تهييج على النفور ليبقى الدين مرتفعاً، وحين ترفعون كلمة الله و منهج الله إنما يفتح لكم باب الرفعة و العزة. فأنتم يا أهل سوريا المقاتلين و غير المقاتلين، الشيوخ و الشباب، و المرضى و الأصحاء يشملكم الأجر لأنكم الآن نافرون خفافاً و ثقالاً، و الخفيف: هو الصحيح السليم الذي لا ترهقه الحركة، ويقوم إذا أثير و كانت تُحمد خفة الحركة في القتال عند العرب



قوم إذا الشر أبدى ناجزيه لهم *** طاروا إليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانا

و الثقيل: هو المريض أو المسن، ولئن كان باستطاعة الصحيح أن يقاتل، فماذا يفعل المريض، و كيف يكتب له الأجر؟
و الجواب: نجده عند سعيد بن المسيب و كان مريضاً، إذ قالوا له: "إن الله أعفاك من الخروج إلى المعركة يشيرون إلى قوله تعالى في سورة الفتح: {لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَ‌جٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَ‌جِ حَرَ‌جٌ وَلَا عَلَى الْمَرِ‌يضِ حَرَ‌جٌ} [الفتح:17] فقال سعيد رضي الله تعالى عنه: "أكثّر سواد المسلمين و أحرس متاعهم" وقد روى الزهري قال: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو و قد ذهبت إحدى عينيه. فقيل له: "إنك عليل" فقال: "استنفر الله الخفيف و الثقيل، فإن لم يمكنني القتال كثّرت سواد المسلمين و حفظت المتاع".

و ذكر أهل التأريخ أن أبا طلحة قرأ سورة التوبة فلما وصل إلى هذه الآية: {انفِرُ‌وا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ} قال لأولاده: "أي بني! جهزوني" فقال بنوه: "يرحمك الله! لقد غزوت مع ر سول الله صلى الله عليه و سلم حتى مات، و مع أبي بكر حتى مات، و مع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك" فقال: "لا، جهزوني" فغزا في البحر فمات في البحر. فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها، و لم يتغير رحمه الله تعالى.

وقال ع?د الله بن أم مكتوم -وكان ضريراً- وقيل اسمه عمرو: "أنا رجل أعمى، فسلموا لي اللواء؛ فإنه إن انهزم حامل اللواء انهزم الجند، و أنا لا أدري من يقصدني بسيفه فما أبرح" فأخذ اللواء يومئذ مصعب بن عمير.

إخوتي الكرام:

كلمة أخيرة، ووصية قيمة، ذكرها علماؤنا و أشار إليها الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه القيم (كيف نتعامل مع القرآن). قال رحمه الله تعالى: "اتفق المؤرخون على أن الانطلاقات السياسية، أو العسكرية الكبرى لا بد أن يكون وراءها فلسفة (إيديولوجية) تشريعية أو اجتماعية، أو معنوية أو غيرها.... و أي انطلاقة عسكرية محرومة من هذه الفلسفة، فإنها تشبه غابة لصوص و تنتهي" و التاريخ شاهد على ذلك فمحمد علي باشا المعروف بمحمد علي الكبير، ألباني مستعرب ولد في قوله 1770 م و تاجر بالدخان فأثرى وكان أمياً، تعلم القراءة في الخامسة و الأربعين من عمره، غدر بالمماليك و قتلهم عام 1226 هـ. جاء مع المتطوعين لرد الغزاة الفرنسيين عن مصر، ثم صار والياً عليها و استولى على سوريا، و كاد أن يرث الخلافة العثمانية، و لما لم يكن وراء اندفاعه العسكري ايديولوجية انتهى.

التتار قوة عسكرية طاغية، ملكوا العالم، ثم زالوا بسرعة لعدم وجود فلسفة ايديولوجية وراءهم، وكذلك الدولة العثمانية في نهايتها. فمحمد الفاتح كان أول الأمر صوّاماً قوّاماً وراءه عقيدة -القرآن و العمل الصالح- ففاز، و بعد مماته انقلب الأمر ملكاً فانتهت .. و هكذا.

و أنتم اليوم في انطلاقة إسلامية، و في ثورة ضد الطغيان و الظلم، فلتكن وراءكم ايديولوجية تصون حركتكم عن الانحراف، و تحفظها من اللصوصية. فاجعلوا الإسلام عقيدتكم و فلسفتكم و ايديولوجيتكم، و اجعلوا القرآن أساساً لهذه الفلسفة. فالتغيير الإسلامي الكوني كان وراءه القرآن الكريم، و هذا سر نجاح هذه الأمة خلال القرن الأول الهجري فاقتدوا بهم.



أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع


ولكي نعود إلى قرآننا و ديننا لا بد أن نفهم القواعد التي انطلق منها سلفنا: عمر يقول لقائده :"متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم امهاتهم أحرار".

فلنقدر الحرية، و كان عمر فاهماً للقرآن عندما يقول: "لو عشت لهم لوصل إلى الراعي في صنعاء حظّه من هذا المال ما أحد أولى بهذا المال من أحد".

و هذا بدوي يقول لقادة الفرس: "جئنا لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده".
أنتم أيها الإخوة الكرام وظيفتكم الوقوف أمام طغيان الاستبداد و الحكم، و أمام طغيان المال، و عدوكم جمع الطغيانين {إِنَّ فِرْ‌عَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْ‌ضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
و لتكن رسالتكم للناس جميعاً تحريرية تنويرية كما قال الغزالي. فكما كان لموسى وظيفة تحريرية: {وَلَقَدْ أَرْ‌سَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِ‌جْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‌} [إبراهيم:5] كذلك كانت رسالة نبينا تحريرية تنويرية قال الله فيها: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِ‌جَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‌} [إبراهيم:1] لنقلهم من ظلمات الجهل و الاستبداد و الرذيلة و الفوضى و التخلف إلى المعرفة و الشورى و العزة و النظام و العدل و الاقتصاد. و أبشروا فإن الفرج قريب و الفتح على الأبواب: {لِلَّـهِ الْأَمْرُ‌ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَ‌حُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ‌ اللَّـهِ ۚ يَنصُرُ‌ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّ‌حِيمُ} [الروم:4-5]
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام