خطايا المشروع العلماني ومآلاته في الوطن العربي ..رؤية إيمانية

ثمة سُحب رمادية تتبدَّى في أجوائنا العربية -تصاحب نهوضًا للمشروع الإسلامي، خاصة في دول ما يُسمى بالربيع العربي- وتتمثل في جهود ومحاولات سياسية حثيثة تتقدمها، وتمهِّد لها كتائب إعلامية مقروءة ومرئية، تبغي إعادة تشكيل وتسويق للمشروع العلماني الغربي بما يناسب المرحلة الحالية، ليكون قائدًا وموجهًا لعملية التحول الحادث في تلك الدول.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر -

 

ثمة سُحب رمادية تتبدَّى في أجوائنا العربية -تصاحب نهوضًا للمشروع الإسلامي، خاصة في دول ما يُسمى بالربيع العربي- وتتمثل في جهود ومحاولات سياسية حثيثة تتقدمها، وتمهِّد لها كتائب إعلامية مقروءة ومرئية، تبغي إعادة تشكيل وتسويق للمشروع العلماني الغربي بما يناسب المرحلة الحالية، ليكون قائدًا وموجهًا لعملية التحول الحادث في تلك الدول، وذلك من خلال فرض هَيْمنتها على مؤسسات، منوط بها تشكيل صياغات مقترحة لدساتير جديدة، باستحداث بدعة جديدة -في مصر مثلاً- أسموها المبادئ فوق الدستورية، وتهدف في النهاية إلى ضمان سيطرة المشروع العلماني على الهُوية الجمعية لشعوب تلك الدول، دون الاستناد على شرعية شعبية مقبولة تُخوِّل لها ذلك الأمر.

تلك الشرعية التي يتمتع بها المشروع الإسلامي إلى حد ما، والتي قد تؤهِّله إلى غلبة في انتخابات نيابية قادمة، يبغي من خلالها إحداث نهضة مرجوة وتغيير منتظر، ومن هنا يبرز صراع فكري -عقدي في حقيقته- بين كلا المشروعين؛ الإسلامي من ناحية، والعلماني من الناحية الأخرى!

ولأن لأصحاب المشروع العلماني كذلك دعاواهم في التغيير والإصلاح والتحديث، فربما يكون مستحسنًا الإشارة إلى جذور وأُسس كلا المشروعين -في إيجاز غير مُخِل- حتى يكون إدراكنا للأفكار المطروحة والأحداث الجارية مُرتكزًا على أرض صُلبة وتربة خصبة، يُمكن البناء عليها فيما يتأتَّى من تصورات ومنطلقات.

أبدأ بأُسس وجذور المشروع الإسلامي الذي غُيِّب ودعاته دهورًا طويلة لصالح الفكرة العلمانية، والتي دان بها كثيرٌ من النُّخب العربية الحاكمة.

تتمثَّل جذور المشروع الإسلامي للنهضة، والتي ترتكز عليها أطروحاته المتنوعة مفرداتها في:
1- القرآن الكريم: كتاب الله الخاتم في رسالته الأخيرة لأهل الأرض، وما اشتمَل عليه من توجيهات قِيَمية وأخلاقية وتشريعية في أسباب قيام الأُمم وسقوطها، وحياة الأفراد وسلوكياتهم وعلاقاتهم ببعضهم البعض، وكذلك علاقاتهم بالأمم التي يَحيون في حدودها.

2- السنة النبوية المطهرة الشارحة للقرآن الكريم، والمُطبِّقة لمبادئه في الواقع البشري.
3- التجربة الإنسانية فيما بعد عصر النبوة، وعلى مدى قرون متطاولة، والمرتكزة على البندين الأولين، والتي أثمرت حضارة إنسانية رائعة -بشقيها: الإنساني والمادي- في مجالات شتَّى.
4- الاجتهادات الدؤوبة المستمرة -شرعية وحياتية- تدفع باتجاه الأخْذ بأسباب التقدم في مجالات شتَّى، ففي ميزان الإسلام ترابُط وثيق بين أعمال المصالح وقيمة الصلاح، وأي عمل تبتغي به مصالح الناس والمجتمعات، هو عمل صالح، له من الأجْر الجزيل عند الله عز وجل إذ من سُننه في كتابه الكريم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

إن الأخذ بتوجيهات الكتاب الخاتم، والاهتداء بهدي النبي الخاتم، لهما من سنن النهوض وقوانينه في هذه الأمة، فعليها أُنزِل الكتاب، وفيها بُعِث الرسول؛ لتتمثَّل فيها طليعة النهوض بأسباب الإيمان؛ فـ{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9]، هذا الكتاب يهدي لأقوم وأصلح الأمور في كل شيء وفي كل مجال؛ سياسة كان الأمر أم اقتصادًا، تجارة ومالاً كان أم اجتماعًا، علمًا كان أم أدبًا وثقافة وفنًّا؛ ولأن السنة المطهرة تابعة للكتاب الخاتم، فلا ينبغي أن ينفصِلا أبدًا؛ إذ لا بد للأخذ من مَعينهما معًا، فيقول النبي الكريم: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة» [1].

هذه الجذور أو الأسس هي التي قامت عليها حضارة إسلامية رائدة، ظلَّت تشع من نورها على العالم بأسْره حتى عدة قرون خلَت، وكانت مراكز إشعاعها تنتقل ما بين المدينة ودمشق، وبغداد والإسكندرية؛ لتنشر الأخلاق والعلم والعمل جميعًا، وليُرى آثارها في شرق آسيا وجنوبها، وفي آسيا الصغرى والأندلس حاضرة الإسلام في أوروبا آنذاك، مما كان له من جيد الأثر على عقليات أفذاذ أوروبا وعلمائها آنذاك، فساهم في إحداث النهضة العلمية في أوروبا. يؤكد هذا المعنى د. جورج صليبة، المحاضر في جامعة كولومبيا الأمريكية -على سبيل المثال فحسب-، إذ يقول: "إن النهضة الأوروبية لم تأت من فراغ، وأن العالم يَدين للعلماء العرب والمسلمين بالفضل في التوصل إلى النهضة العلمية، فالإسهامات العربية والإسلامية في علوم الفلك، قدَّمت لعلماء العالم منهجًا علميًّا سليمًا، وحسابات دقيقة وضَعها علماء؛ مثل: ابن الشاطر، والطوسي، وهي الحسابات والنظريات التي ساهمت في النهضة الأوروبية، ومثَّلت استمرارية للفكر العلمي العربي الإسلامي الذي ربَط بين المشاهدة والملاحظة والقياس" [2].

لا أريد الاسترسال في هذه النقطة، إنما أريد في الورقة الصغيرة هذه، الكشفَ عن جذور المشروع العلماني وخطايا حامليه والداعين إليه، خاصة من علمانيينا العرب.

جذور وخطايا المشروع العلماني:
ولعل أوَّل الخطايا التي يرتكبها أصحاب المشروع العلماني في وطننا العربي، أنهم -في محاولاتهم لإعادة تسويقه- يُصورون للناس أن مشروعهم هذا الداعي إلى التطور والحداثة، إنما هو وليد لحظة فارقة، ثارَت فيها الشعوب على طغاتها، وهو مبتوت الصلة تمامًا بتلك الأنظمة الفاسدة، ولسان حالهم يقول: "ألا ترون، لقد ثُرنا مع الثوار ضدهم؟!" والحقيقة غير ذلك تمامًا.

  وهذه كذبة كبرى تنسف مصداقية علمانيينا الثوار الأحرار، الذين يجهدون أنفسهم وينفقون أموالهم؛ من أجل أن يكون لمشروعهم الدور الأكبر في توجيه هُويَّات أوطانٍ، ولشخوصهم في قيادة شعوب ثارَت على فكرتهم، ومَن احتموا بها، واتخذوا منها هاديًا طوال العقود المديدة الماضية، ذلك أن المشروع العلماني، كان ولا يزال يسيطر على توجهات بعض النخب الحاكمة في بلادنا منذ ظَفِرت بنوع من الاستقلال عن المحتل الأجنبي الذي خرَج بجيوشه وعتاده، وخلف وراءه أنظمة محلية حاكمة تتَّصل أوردتها بشرايينه!

وفي العقيدة العلمانية، وإن شئت فقل: (المِلة العلمانية)، إن تحديث المجتمعات ونهوضها، إنما يكون عبر بوابة إقصاء الإسلام تمامًا من الحياة العامة، أو حشْره في المساجد ودُور العبادة مرحلة أولية، فالإسلام عندهم -على غير مِلتهم- سببٌ للتخلف والرجعية، ومقاوِم للعلم والتقدم والنهضة، ويضربون للناس أمثالهم البارعة -ضلَّت أمثالهم- في أن أوروبا لم تلج أبواب نهضتها إلا عندما أُقْصِي (الدين) من واقع الحياة، وعند هذه النقطة يسكتون، ويتعامون عن الحقائق قصدًا؛ من أجْل تعْميَة الجماهير والعامة، ويُصمون آذانهم، وتتباكم أفواههم إلا من ندائهم الهادر: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].

وهذه الخطيئة تتوالد عنها خطايا متتابعة، فعلمانيُّونا يكذبون ويتحرون الكذب إلى أبعد الحدود، فهم في تلبيسهم الأمورَ على الناس، يقولون: "إن أوروبا حتى تنهض ثارَت على الدين"، لكن لا يقولون أبدًا: إن أوروبا ثارَت على الكنيسة بفسادها وطغيانها ومظالمها، التي لم يَنجُ منها عظيمٌ أو حقير، ولم ينجُ من صَلفها عالم فذٌّ، أو جاهل أحمقُ، فأحْرَقت الكنيسة كتبَ العلماء التي تحوي نظرياتهم في مجال العلوم والفلك، بل وصَل الأمر بالكنيسة -(الدين) عند علمانيينا الأبرار- أن أحْرَقت كثيرًا من العلماء، وسجنت وعذَّبت آخرين؛ حتى يعودوا عن أفكارهم، لمجرد أنها خالفت ما تعتقده الكنيسة من معتقدات [3].

تلك المعتقدات المحرفة التي حارَبها دين الإسلام، فنهضت حضارته، وحاربتها أيضًا شعوب أوروبا، فنهضت حضارتها، لكن شتَّان بين حضارة تنهض، أساسُها وحي السماء، وأخرى تنهض، أساسُها القصور في عقول البشر!

ولأن الإسلام دين، والكنيسة عندهم دين، فلا بد من الثورة عليه وتحطيمه؛ حتى تنهض البلاد، وتتَّجه في مسارات التحديث إلى غاياتها، هكذا تكون النتائج التي تُستخلص من مقدماتها! لكن علمانيينا لا يتميَّزون بخبث ومكرٍ أبدًا، بل هم متدينون بالفطرة ومؤمنون بالسليقة، فالعلمانية في حقيقتها لا تعادي الدين؛ لأن الدين هو شأن خاص بالفرد وعلاقته بربه في معبده، أو في صومعته سِيَّان، هكذا يُضللون ويفترون! لكن لا يقولون أبدًا -والناس بصفة عامة لا تعلم-: إن فكرتهم هذه  مرَّت بمراحل تطور المفهوم، كانت كالتالي:

مراحل تطور مفهوم العلمانية:
• أول ما ظهرت العلمانية بصورة عملية، كانت في حدود العام 1648، ومع نهاية حرب الثلاثين عامًا، تلك التي خاضتها بعض الشعوب الأوروبية ضد طغيان الكهنة وظلم الكنيسة (الدين)، والتي انتهت بتوقيع صلح ويستفاليا، عندئذ ظهرت الدولة القومية الحديثة، التي قامت  بتأميم ممتلكات الكنيسة لصالحها، ومن هنا ظهر أول لفظ لـ (علماني secular)، و(علمانية secularism) في اللغات الأوروبية.

في القرن 18 وفي فرنسا تحديدًا، ظهرت مجموعة المفكرين والفلاسفة الموسوعيين، المدافعين عن مُثُل الاستنارة والعقلانية المادية؛ إذ صار المصطلح عندهم يعني: "المصادرة الشرعية لممتلكات الكنيسة لصالح الدولة".

• اتَّسع المجال الدلالي للكلمة؛ لتتَّجه نحو مزيد من الإبهام والتركيب على يد (جون هوليوك) (1817 - 1906)، -أول مَن صكَّ المصطلح بمعناه الحديث- فقد عرَّف هوليوك (العلمانية) بأنها: "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الإيمان بالقبول أو الرفض".

• كانت هناك تطورات لاحقة للمصطلح، لم تغيِّر كثيرًا في مدلوله؛ إذ تقلَّص عند بعض المفكرين إلى "فصل الدين -الكنيسة- عن الدولة"، وصار هذا المعنى من أكثر المعاني شيوعًا في العالم؛ شرقه وغربه [4].

ما سبَق يعد أبرز المراحل التي تطورت من خلالها المفاهيم العلمانية في أوروبا، والملاحظ أن العلمانية الأوروبية هذه، لم تكن أبدًا ثورة ضد الدين بمفهومه الحق؛ ذلك أن أوروبا لم تكن متدينة في يوم من الأيام، ولم تكن رسالة عيسى -عليه السلام- موجهة إليها، إنما انتقَلت المسيحية إلى الشعوب الأوروبية قسرًا، وفُرِضت عليهم فرضًا، من خلال اعتناق الإمبراطور قسطنطين لها، فأصبَحت أقرب إلى المذهب السياسي منها إلى العقيدة الدينية، مع ما لازَمها من تحريف شديد، وطغيان كنسي غارق في الجهالة، أغرق معه البلاد الأوروبية فيما سُمِّي عصور الظلام، منذ ظهور ما يسمَّى بالمسيحية الرسمية في مجمع نيقية عام 325م [5].

وهذا ما يصل بنا إلى تفنيد فِرْيتين أو خطيئتين كبريين، يحاول علمانيونا -بسوء نيَّة مطلق، أو بانعدام فهْمٍ مطلق، وإن كانت الأولى أرجحَ- أن يسوقوهما لدى الناس، وهما: تلازُم العلمانية مع الحرية والديمقراطية، ثم تلازُم العلمانية والتحديث؛ أي: حتى يتم التحديث وتنشأ النهضة، وتَنعم البلاد بالحريات والديمقراطية، فلا بد من إقصاء (الإسلام) من واقع الحياة، كما حدَث في أوروبا عندما أَقْصَت (الدين - الكنيسة ومظالمها)! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5].

ولأن علمانيينا بارعون في تضليل العقول وتلبيس المفاهيم، فالعلمانية عندهم قرينة التحديث والديمقراطية، والعلمانية نقيض الدين، فالنتيجة رفض الدين لهما معًا، فلا بد من نقض تلك الفكرة منطقًا وواقعًا، على الأقل من جانب اقتران الثلاثية هذه بعضها ببعض في التجربة الأوروبية، دون التطرق لعلاقة الدين بمفهومي التحديث والحريات، فذلك له مكان آخر، وهذه النقطة تقودنا إلى نتيجة خطيرة تمثِّل أحد خطايا المشروع العلماني الكبرى في البلاد العربية، وأعني بها: الارتباط الوثيق بين الاستبداد والعلمانية، "خاصة في البلاد العربية".

فمن ناحية المنطق، فمقولة: إن الديمقراطية -كنظام للممارسة السياسية- مرتبطة بالعلمانية، مقولة خاطئة عمليًّا، فالديمقراطية هي نظام مؤسسي -أو هي آلية تختلف أشكالها ووسائلها- يرتب إجراءات اختيار ممثلي الشعب، واختيار الحاكم، بالصورة التي تجعل الإرادة الشعبية الحرة هي صاحبة الحق في اختيار ممثِّليها وحاكمها، ومُحاسبتهم وعزْلهم، وكل مكونات الديمقراطية، تمثِّل أدوات لتنظيم عملية الاختيار الشعبي الحر، فالأحزاب هي مؤسسات سياسية تنظِّم العمل الجماعي التعددي، والانتخابات تنظم التنافس السياسي، والفصل بين السلطات ينظِّم سلطات الدولة، والتداول السلمي للسلطة، يضمن دور الإرادة الشعبية الحرة في اختيار حاكمها كلَّ مدة زمنية، ومن ثَمَّ اختياره مرة أخرى، أو رفضه؛ ولهذا لا يمكن أن يكون هناك نظام ديمقراطي، لا يأتي بالإرادة الشعبية الحرة، ولا يمكن أن تكون ديمقراطية تلك التي تَفرض مبادئَ أو قِيَمًا على الإرادة الشعبية الحرة.

ذلك هو المنطق الواضح الذي يُسلمنا إليه واقع العلمانية واستبدادها في بلادنا، وآية ذلك أن الغرب العلماني أدرَك منذ مدة -ومعه جنوده الأوفياء من علمانيينا الثوار- أن الديمقراطية سوف تأتي بالنظام الذي يختاره الشعب؛ لذا أصبح يخشى من الديمقراطية؛ لأنه إذا كانت الغلبة للتيار الإسلامي، فإن الديمقراطية سوف تأتي بنظام إسلامي؛ لأن الديمقراطية تبدأ بوضْع الدستور، وهو أبو القوانين والوثيقة المنظمة للنظام السياسي، والدستور يجب أن يعبِّر عن الإرادة الشعبية الحرة، ويعبر عن هُوية المجتمع والمرجعية السائدة فيه، ففي الديمقراطية الصحيحة، يكون الدستور إسلاميًّا، إذا كان المجتمع إسلاميًّا، ويكون الدستور علمانيًّا، إذا كان المجتمع علمانيًّا. ففي الديمقراطية الحقة يكون الدستور معبِّرًا عن التيار السائد في المجتمع، وتسمح قواعد الديمقراطية بالتنافس بين جميع القوى السياسية في ظل هذا الدستور.

فإذا كانت الديمقراطية في الغرب تحتوي على قِيَم وآليات، فعندما نطبِّق هذه الآليات في البلاد العربية والإسلامية، فسوف تنتج قِيَمًا مختلفة؛ لأن الديمقراطية في الغرب تنتج قِيَمًا علمانية؛ لأن المجتمعات نفسها علمانية؛ لذا فالإرادة الشعبية الحرة في البلاد الغربية، تختار القِيَم العلمانية. وعندما تُطبَّق الديمقراطية في البلاد العربية والإسلامية، فسوف تنتج في الغالب قيمًا إسلامية؛ لأن التيار الحضاري الإسلامي هو التيار السائد في هذه البلاد.

  ففى مصر مثلاً نجد أن الطبقة العلمانية، تريد فرض ديمقراطية لا تقوم على الإرادة الشعبية الحرة الكاملة، بل تقوم على أساس أن الطبقة العلمانية تمثِّل النُّخبة صاحبة حق الوصاية على الشعب، وتريد هذه الطبقة فرْض رؤيتها العلمانية، ثم تترك الشعب يختار داخل الإطار المفروض عليه، ولأن العلمانية ليستْ خيارًا شعبيًّا؛ لذا فبناء نظام علماني في بلد له هُوية إسلامية، يمثل نموذجًا مستبدًّا بالضرورة، وأيضًا فإن بناء نظام إسلامي في بلد علماني، سيكون نموذجًا للاستبداد أيضًا [6].

وما نُعايشه في لحظتنا الآنية في بعض البلاد العربية، ومحاولة استبداد العلمانيين بالمشهد السياسي، وحملات الترهيب والتخويف من المشروع الإسلامي، التي يُنفق عليها أموال طائلة، ربما يكون مُغنيًا عن شهادة (جون إسبوزيتو) بروفيسور الأديان والعلاقات الدولية في جامعة جورج تاون من "أن العلمانية في الشرق الأوسط صارَت متلازمة مع الديكتاتورية، رغم أنها تَزعُم الانفتاح والليبرالية، والديمقراطية والحرية، ويضرب أمثلة على ذلك بتحالُف الجيش وأجهزة الأمن مع النُّخَب العلمانية الحاكمة لإحباط التحولات الديمقراطية" [7]، والتي كانت غالبًا ما تأتي بالإسلاميين في مقدمة المشهد السياسي، عبر صناديق الانتخاب في الجزائر وتركيا وتونس، وذلك خلال عقود مضَت.

وأما مقولة ارتباط عملية النهضة والتحديث بالعلمانية -بما يعني أن الدين ضدها- فذلك أيضًا مردود عليه من خلال التجربة الأوروبية المقدسة لدى علمانيينا، فالحقيقة أن أوروبا عرَفت طريقها إلى النهضة بفضل مراكز الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا، التي كانت تشع نورًا على القارة الغارقة في دياجير الخرافة والجهل، فاستيقَظ العقل الأوروبي من سُباته، وأخَذ يَقتبس من علوم المسلمين طرائقَ البحث والتفكير التي جعَلته يَكد ويعمل في مجال اختصاصه دون وصاية ضاغطة، عندئذ ثارَت الكنيسة على هؤلاء الذين يتلقون علوم الكفار (المسلمين)، ويُعرضون عن التعاليم المقدسة، فأُعلِنَت حالة الطوارئ، وأنْشِئت محاكم التفتيش، وبدأ الصراع بين العلم وفساد الكنيسة، وليس بين العلم والدين، هكذا على إطلاقه -كما يزعم علمانيُّونا- بل بين العلم وما كانت تَعتنقه أوروبا من أفكار مُحرَّفة، ولا يزال الصراع قائمًا بين العلم و(الدين) الأوروبييّن (الأوربيين) نعت للفظي (العلم والدين)؛ كما يقول الدكتور سفر الحوالي [8]، وذلك من نتائج ما تعانيه الشخصية الأوروبية من ازدواجيَّة وتقبُّلها لها، تولَّدت عن خضوعها المستمر لسلطتين متناقضتين، وإيمانها الطويل بفكرتين متناقضتين، فالمواقع التي احتلَّها العلم من مناطق نفوذ الدين (الكنيسة)، هي في الحقيقة المواقع التي انتصَر فيها العقل واليقين على الخرافة والوهم، كما أن المواقع التي صمَد فيها الدين أمام الهجوم العلمي الكاسح، هي المواقع التي انتصَرت فيها الحقيقة الموحاة على التخرُّصات والأهواء!

هذا بعض من غَيْض خطايا كبرى للمشروع العلماني ودعاته بحق أوطاننا وشعوبنا، ذلك أنهم كذابون مخادعون -توصيفًا لمواقفهم، لا سبًّا ولا شتمًا- والنبي صلى الله عليه وسلم يُحذِّرنا من مغبَّة هذا الداء الوبيل: «إيَّاكم والكذبَ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليَكذب ويتحرَّى الكذب؛ حتى يُكتب عند الله كذابًا، وعليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليَصدُق ويتحرَّى الصدق؛ حتى يكتب عند الله صدِّيقًا» [9].

ويُخيَّل إليّ أن العلمانيين لا يُنكرون هذا أبدًا، إنما يتعامون عنه؛ لأهواءٍ ومصالِحَ، وكراهية للإسلام، وهم أصحاب العلمية في التفكير والمنهج، فيكون مثَلُهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5].

لعلي أكون قدَّمت صورة ميسرة جدًّا ومختصرة جدًّا لأُسس وجذور المشروع العلماني، الذي نبت بأرض غريبة عن أرضنا، وفي سموات وأجواء مغايرة تمامًا لأجوائنا وسمواتنا، ويُراد له منذ سنين طوال أن يتحكَّم في مقدراتنا، فيزرع في تراب بلادنا، وتُمَد له أيادي العون خارجيًّا، وتتعهَّد بحمايته ورعايته نُخَب محلية، حكَمت به الشعوب والأوطان ردحًا من الزمن، فأوجَدت الفساد والخراب؛ لأنه بتبنِّيه فسدت هي الأخرى، وضيَّعت على أمتنا كثيرًا من فرص النمو والتقدم، فرأى كثيرٌ من الباحثين -غربيهم قبل عربيهم، أو مسلمهم- علامات انهيار المشروع العلماني في بلاد الشرق الأوسط، في صالح نهوض ظاهر للمشروع الإسلامي ذي البنية الطبيعية في تربته الطبيعية، التي خُصِّصت لبنائه ونموِّه، فهو وليدها وهي مَحضنه، أو قل -في هذه الأثناء-: هو جنينها وهي رَحِمه الذي لا ينبغي بحال من الأحوال أن يقطعَها أو يعقَّها، أو تكون هي متخاذلة عن نُصرته، فيكون -أو يكونا معًا- من الفاسقين الخاسرين، وذلك دأب الذين لا يُدركون سُنن الله -عز وجل- في كونه، ولا يعون ناموسه أو قانونه في التبديل والتغيير.

مآلات المشروع العلماني في الفكرة والواقع:
في دراسة مهمة حول الإسلام والعلمانية [10]، يقول جون فول -ونقلاً عن علماء في الدين والاجتماع-: إن العلمانية تشهد نهاية عصرها، خاصة في منطقة الشرق الأوسط؛ لأسباب ذكَرها من وجهة نظر التفكير الإستراتيجي الأمريكي، الذي لا بد له من البحث عن حلفاء جُدد، يمثلون أمثلة ذات دلالة على أهمية الدين في الحياة العامة، وفي سياقات وخلفيات الحداثة؛ من أمثال: أنور إبراهيم في ماليزيا، أو الإسلاميين الأتراك، وذلك في مقابل أن تتخلى الولايات المتحدة عمَّن هم أمثال: سلمان رشدي، أو الخميني، ربما في إشارة ذات مغزًى إلى العجل العلماني -المورَّث أمريكيًّا الآن- والمعبود من قِبَل علمانيينا الزُّهَّاد في طريقه إلى السخط والغضب عليهم، ليَصدُق فيهم قول ربنا تبارك وتعالى: : {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت: 25].

  لكن ما يهمني في هذا الإطار، هو المنطلق الإيماني لنهاية هذا الفكر الأصولي العلماني، الذي تصوَّر دعاته أن العلمانية ليست خيارًا من الخيارات، بل (الخيار)، وأنها السبيل الأوحد الذي يجب أن تَنتهجه المجتمعات، أو كما يصفها عزام تميمي أنها "دين جديد" [11].

ومن خلال المنطلق الإيماني لمآلات العلمانية التي تُنازع الرمق الأخير في كينونتها العَفِنة -وكل منهج يصادم دين الفطرة- تبرز عدة نبوءات وسُنن من الكتاب الخاتم وهدي الرسول الكريم عليه السلام:

أولاً: السنن العامة ووعْد الله لعباده المؤمنين بالاستخلاف في الأرض والتمكين، وإبدالهم الأمْن بعد الخوف؛ لعبادته وتوحيده بين العالمين.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55].

ثانيًا: سُنن الله عز وجل في الإبدال والتغيير والإهلاك، فإن الغرب العلماني قد بغى وتجبَّر بقوَّته وإنجازاته في المجالات المختلفة، بدلاً من تسخيرها لخدمة الناس.
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

ثالثًا: في السنن الخاصة، وما كان من أمر الأُمم السابقة التي جاء ذكرُها في القرآن لَمَّا تجبَّروا وانحرفوا؛ كعاد وثمود وفرعون، وغيرهم.

رابعًا: في سُنة النبي الكريم عليه السلام:
انتشار الإسلام في العالم كله، فمن رواية تميم الداري، قال: سَمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليَبلغَنَّ هذا الأمر -يعني: الإسلام- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ، إلاَّ أدخَله الله هذا الدين بعزِّ عزيزٍ، أو بذلِّ ذليلٍ، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلاًّ يذل الله به الكفر» [12].

وغير ذلك من النبوءات التي تعني في مضمونها تفوُّقًا وتمكينًا للمشروع الإسلامي، بما يقابله في الجانب الآخر انكسار واضمحلال لكل فكرة أخرى تُصادم هذا الدين، ومن أبرزها الأيديولوجيَّة العلمانية.

خامسًا: ما يُنبئ عن أُفول الحضارة الغربية بصفة عامة، وتقلُّص إنتاجها الاقتصادي، وما يَستتبع ذلك من تناقص في جميع المجالات، في مقابل ازدهار بلاد الإسلام، وخاصة بلاد العرب، تلك النظريات العلمية في فرع الجيولوجيا، والتغيرات المناخية التي تقول: إن العصر الجليدي الحديث قد بدأ بالفعل، وآية ذلك ما قاله (ميخائيل بود يكو) رئيس علوم الطقس بمعهد الظواهر الجوية السوفيتي بللنغراد، في حديث صحفي نقَلته وكالة أنباء الشرق الأوسط: "القارة الإفريقية ستكون أكثر المناطق استفادة من التغيرات المناخية في المستقبل، وأن صحراءها ستتحول إلى مناطق لغابات السافنا الخضراء، وأن زيادة معدلات الحرارة ستعود بالفائدة كما كان الحال قبل ستة آلاف عام، حين كان الطقس أكثر دفئًا، وكانت النباتات تنمو في الصحراء، وتعيش بها القردة وغيرها من الحيوانات مع البشر".

والجزيرة العربية تقع على دائرة العرض للصحراء الإفريقية الكبرى نفسها.
ليقل العلماء ما يقولون في تعرُّض الغرب عامة وأوروبا بصفة خاصة إلى موجات من الجفاف والأعاصير، التي تؤثِّر سلبًا على زراعاتها وإنتاجها الاقتصادي والحياتي عامة، لكنَّ العمدة عندي الآن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يشير إلى ذلك المعنى المهم في تغير بلاد العرب اقتصاديًّا وزراعيًّا، وما ينتج عن ذلك التغير في ازدهار حضارة إسلامية قادمة، وما يُفهَم من أسباب ودوافع لهذا التغير، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة؛ حتى يكثر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل بزكاة ماله، فلا يجد أحدًا يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا» [13].

قد يقول قائل: ربما تتغيَّر الأحوال المناخية في نطاق أرض الجزيرة فحسب، فتكون كما يقال، ولا تتغيَّر أوروبا أو أمريكا مثلاً، وهذه وجهة نظر معتبرة، إلاَّ أن عالِمًا كبيرًا بحجم الألماني (ألفريد كرونر) له تعليقات عجيبة، تَشهد بأنه لا إله إلا الله، محمد رسول الله حقًّا وصدقًا، فمع التغيرات المتوقعة عالميًّا في مستقبل قريب -إن شاء الله- يَتزحزح -في الوقت الحالي- الجبل الجليدي الذي تعوم فوقه أوروبا ناحية المشرق قليلاً كلَّ عام، بمقدار بضعة ملليمترات؛ مما يؤثر إيجابًا على التربة العربية، خاصة في شمال الجزيرة، وبلاد الشام، وبالأحرى الأراضي التركية الأقرب إلى القارة الأوروبية، ولعلها معادلة ظاهرة للعيان، تَطغى أوروبا بعلمانيتها وتتجبَّر، فيتحرَّك جليدها -مُخلِّفًا وراءه بُقَعًا كبيرة من الجفاف في أراضي ألمانيا وهولندا، وإسبانيا، يُنذر بأوخم العواقب- ناحية المشرق الذي يَستفيق أهله، ويعودون إلى كتاب ربهم وهدْي نبيِّهم، ربما يكون أحد مظاهره هذا الصعود الهادئ لحملة المشروع الإسلامي، والذين عانَوْا الأمرَّين من أغلبية علمانية متطرِّفة حارَبت دين الله، وعاندت هدي رسوله صلى الله عليه وسلم.

  كل ذلك ما يشير إلى نهاية قريبة، ربما لا تكون سريعة كما يتصوَّر للمشروع العلماني، خاصة في بلادنا العربية، لكنه حتى وإن آجِلاً سيُصبح مجرد فكرة يَطويها التاريخ؛ لتكون جزءًا من مجرد نظريات فكرية أفسَدت، وأفسَد دعاتها حينًا، وذهَبت وذهبوا كما ذهب السابقون.

{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4-5].
ورحم الأيام يُنبئ عن أعاجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
____________
الهوامش:
[1] المستدرك على الصحيحين، ص (288).
[2] مجلة صوت الإسكندرية الإلكترونية.
[3] سفر الحوالي؛ العلمانية: نشأتها وتطورها، ص (150)، وما بعدها.
[4] عبد الوهاب المسيري؛ العلمانية تحت المجهر، ص (12) وما بعدها.
[5] سفر الحوالى: العلمانية، نشأتها وتطورها، ص (128).
[6] رفيق حبيب؛ مقال، مواقع ويب.
[7] مقال "الإسلام والعلمانية في الشرق الأوسط"؛ الجزيرة نت.
[8] انظر: "العلمانية، نشأتها وتطورها، ص (145)، وما بعدها.
[9] أحاديث الأحكام برقْم (3523)؛ لابن أبي شيبة.
[10] الجزيرة نت.
[11] مقال: الإسلام والعلمانية فى الشرق الأوسط.
[12] مسند الإمام أحمد (1/130)؛ نقلاً عن المبشرات بانتصار الإسلام؛ للقرضاوي.
[13] شرح النووي على مسلم، (157).


 

السيد المرشدي

المصدر: نور الإسلام