ليتنا نعتذر..
لن يكون اعتذاري اليوم هو تأسيس لإساءة مستقبلية لشخص ما، ولن يكون أسفاً بارداً فيكون إهانة ثانية، وإني لأعلم جيداً أن الأعذار السيئة أسوأ من عدمها، ولن أُفسِدَ اعتذاري بالتبرير، فإن أصعب حقيقة على المرء أن يُدرِك بأنه مخطئ، ولعله أصعب أن يعترف بذلك الخطأ، ومن منا ليس بمخطئ في حق أمورٍ كثيرة!
- التصنيفات: تربية النفس -
لن يكون اعتذاري اليوم هو تأسيس لإساءة مستقبلية لشخص ما، ولن يكون أسفاً بارداً فيكون إهانة ثانية، وإني لأعلم جيداً أن الأعذار السيئة أسوأ من عدمها، ولن أُفسِدَ اعتذاري بالتبرير، فإن أصعب حقيقة على المرء أن يُدرِك بأنه مخطئ، ولعله أصعب أن يعترف بذلك الخطأ، ومن منا ليس بمخطئ في حق أمورٍ كثيرة!
ومن ثم فقط أرجو أن يكون ذلك الاعتذار جبيرة تُصلِح بعض الانكسارات، وضمادة لبعض الجروح العميقة التي قد خلفتُها ورائي، وتبلورت في قلوب ودموع لا تحصى ولا تُعَد.
مرّت سنين عمري المعدودة، وها أنا الآن فقط قد تغير إدراكي لبعض الأشياء المهمة، فقد أدركتُ أن الاعتذار ليس فقط على الأشياء والماديات، بل ينبغي أن يحوي العمر كله.
وبينما أسير عبر الأيام، أحببتُ أن أبلغ أسفي للبيوت الراحلة، للناس والقلوب، وطير النورس الذي اعتاد التحليق فوق ذلك الموطن، وعلى أشجار الزيتون، واليوم تدفّق نهر اعتذاراتي من أرض القدس فلسطين، يسري على موطني، يجوب العالم بأسره.
أعتذر إليك ربي، عن غفلةٍ غشيت كثيراً من ليالي عمري، عن دمعة سقطت في خوف أو رجاء لغيرك كان مستقبلاً مجهولاً أو حلماً ضائعاً، عن النسيان والتفريط والعصيان، وأعلم أنك سميعٌ مجيب الدعاء، أنك غفورٌ رحيم.
آسف يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأي أسف يجدر بي أن أرسله إليك؟ بدموع الزمن الحزين، أم الإنسان المقصر إذ كانت الإساءة إليك عملة بين الحقراء على موائد البخس المباع يصلون بها إلى الشهرة ويحصلون بها المال، وكنتُ أنا واقفاً في شرفتي بلوحتي "فداكَ أبي وأمي ونفسي"، ولم أفتديك بأبي ولا بأمي ولا بنفسي بعد!
أخجل لطلبي من الله شفاعتك، بدون أن أقدم شيئاً بين يدي، أعتذر لانتظاري أن تناديني فيمن تناديهم «أُمَّتِي أُمَّتِي» [من حديثٍ رواه مسلم]، وأنا العبد السقيم من الخطايا.
أعتذر إلى الإسلام، فلم أكن بلالٍ بن رباح رضي الله عنه، ولم أُعاني العذاب والقهر في سبيله بقدر ما يستحق، كثيراً ما أسأتُ إليه بدون قصد، فلم أكن قرآناً يمشي على الأرض، تقاعستُ عن نشر دعوته، وامتطاني الفتور عن العمل، فلم أكن "حسن البنا" ولا "الشافعي"، إلا أن القليل من عملي مع نيتي البيضاء عزائيَ الوحيد.
أسف يا كتاب الله، قرآني وعِزِّي وشرفي، أعتذر إليك يا نبض حياتي، هجرتُك هجر المحبِّ لمن يُحب، ولكنني أحنُّ إليك كثيراً كلما ذكرتُك? وأستحيي كلما أخلفتُ معك العهد الجديد.
آسف فأنا حافظ القرآن الذي أخجل أن أنطق بها وأنا أرى ذنوبي تنهمر يوماً فيوما، فقد كنتُ أستطيع أن أسعى وأجتهد أكثر من ذلك في الإلمام بك، ونشرك، وجعلك ساطعاً في سماء الناس الذين قد هجروك هجراً قاسياً.
أعتذر لكما أمي وأبي، عن شهقة قد انتابتكم قلقاً على حياتي أو مستقبلي، عن كلمةٍ طيبةٍ بخلتُ بها عليكم أياماً طِوال، آسف على أفٍ ومشتقاتها، فلم أجد في نفسي الصحابي الذي لم يرفع عينه على أُمّه قط، احتراماً لها، ولا الذي قام من درسِ العلم الممتع أو لحظاتِ نومٍ غالبة ليُطعِم الدجاج -كما أمرته أمه- فنهض مسرعاً لبيك يا أُمَّاه!
أعتذر على الشيب الذي يلمع في لحية أبي ليحكي قصة النعيم الذي أعيشه، فخال له أنه سيُفارقنا قبل أن تطمئن آخر شعراته السوداء على مستقبلنا المجهول في عالم يسرق فيه الكحل من طرف العين.
أصدقائي: أعتذر لكم جميعاً، فإنني لم أكن النموذج الأمثل، بل لعلي خيبتُ أملكم فيّ كثيراً، وتغيبتُ عنكم في حوائج كبيرة وشدائد لا يُستهان بها، وانشغلت بنفسي.
أعتذر إلى اليتيم الذي يسكن في الشارع المقابل من بيتنا، فلم أزره وأتفقد حاله سوى مرة أو مرتين في السنة، وبخلتُ عليه بمسحةٍ على شعره علها تُخفف من خطاياي، وبعض همومه المتراكمة من غدر الأيام.
أعتذر إلى المعاق الذي أراه كل يوم يمرُّ أمامنا، ولا حول لي ولا قوة أن أفعل له شيئاً، إلا أنني قد رأيته من الداخل هموماً تحوي هموم، وأُمّه المسكينةً هي الوحيدة التي تنشغل به في هذا العالم الموحش.
أعتذر إلى الطريق الذي كثيراً ما خالفتُ آدابه، إلى الأشخاص الذين نظرتُ لهم نظرة سيئةً لمظهرهم أو لكلمةٍ منهم، فقد اكتشفتُ أن الحكم على الناس بالظاهر أو بالمواقف العابرةِ لهو أسوأ الأحكام وأكثرها تعجلاً وظلماً.
آسف يا أساتذتي، يا كل من علمتوني حرفاً، يا معلمي القرآن، أعتذر إليكم فلم أكن الطالب النجيب بالقدر المطلوب، أتعبتكم كثيراً، وتحملتم كثيراً من أجلي، وبخلتُ عليكم بالشكر رغم أن ألفَ شكرٍ لا يكفي لواحد منكم، يعلم الله كم أحبكم.
آسف إلى كل من أحببتُ ولم أستطع أن أبدي له حُبِّي فظن أنني لا أُحبّه، أو أبديته بطريقة همجية.
أعتذر إلى وقتي، فقد أضعتُ منه الكثير وذهب أدراج الرياح، وفعلتُ حماقاتٍ كثيرةٍ راحت هباءً منثوراً، ولم أغتنمه كما يستحق، وغفلتُ كثيراً أن هناك سؤالاً ينتظرني «عن عمره فيما أفناه وشبابه فيما أبلاه» [متفق عليه].
أعتذر إلى حاضري فلم أكن كما كنتُ أريد أن أكون وكما كانت عيون كثيرة أولها أبي وأُمّي تنتظرني أن أبلغ.
إلى مستقبلي ليس اعتذاراً مستقبلياً فإني لا أنوي تقديم السوء، ولكنني أعتذر أنّي لم أُمهِّد له في وقتٍ أكثر بكوراً من ذلك، فتأخر الحلم قليلاً.
أعتذر إلى أحلامي الصغيرة الفائتة، الضائعة، إلى الماضي القصير الذي يذخر بالندم، إلى الليالي التي أمضيتها متشابهةً فلم أتذكرها في سجل ذكرياتي.
أعتذر إلى نفسـي، فقد حمّلتُها كثيراً أكثر من طاقتها، ولُمتُها عن عدم الاستجابة، عنفتُها كثيراً، وتدحرجت فيما بين النفس الأمارة بالسوء، واللوامة، والمطمئنة التي أسأل الله أن يُبلِّغني إياها.
إنها ملحمة الاعتذار الخجول، الذي تدور رحاها بين شرايين دمي، بينما العمر يتقطعه العزف الحزين من دقات القلب، ويَعبر خلاله الشعاع المغرورق عبر دمعاتِ العين، وتبوح به النفس مع كل غروب.
هشام خالد - 14/2/1434هـ