دور الإعلام في وحدة الأمة
إن تحمّل الإعلام لدوره في وحدة الأمة له ضريبة لا بد أن ندركها ونصبر على تبعاتها وليست أعطية ننتظر أن نجني المدائح بسببها.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
الإعلام أداة تفاهم تقوم على تنظيم التفاعل بين الناس، ويُكوّن في المجتمع المواقف والاتجاهات، ويُغيّر القناعات والسلوك، وهو خطاب عام كما هو التعليم والوعظ تماماً، لذا لا بد من إيضاح خصائص الإعلام العام وما يميزه، فالإعلام يتميز:
1- بجمهوره غير المتسق، فهو منوّع في الأعمار والثقافة والمنطقة الجغرافية، فالتعليم يخاطب فيه المعلِّم جمهوراً متسقاً في أعماره وخلفيته الثقافية، والواعظ يخاطب منطقة جغرافية محدودة بمسجد أو مجلس؛ لذا احتاج الإعلام العام لخطاب يتكيف مع طبيعة الجمهور المنوع.
2- بالدافعية غير المتوائمة، فيتابع الإعلام المحب والمبغض والمستفيد والمترصِّد والمقتنع والمستكبر، في حين تكون دافعية التعليم رفع الجهل والحصول على الشهادة؛ لذا يستمع للمعلم والواعظ من يريد الفائدة ويجتهد في استيعاب الألفاظ، بينما على الإعلام أن يخاطب تنّوع دافعية جمهوره.
3- بأسلوبه غير المباشر في عرض الأفكار والآراء، فالمعلم والواعظ غير المباشر يُتَهم بالغموض وضعف إيصال المعلومة، في حين أن الإعلام المباشر يضعف الرسالة والتأثير، وكلما كانت الرسالة الإعلامية بعيدة عن الأساليب المباشرة كان تأثيرها أكبر؛ لذا تُعد الدراما من أنجع أساليب التأثير الإعلامي.
4- بمرجعيته غير الثابتة، حيث يعتمد الإعلام على العرض العام الذي لا يضع مرجعية غير التأثير بخلاف التعليم والوعظ والقرار الإداري وغيره... التي تعتمد على المرجعية ودقة العبارة، ومجال الرأي فيها ضيّق جداً؛ لذا يصطبغ الإعلام دائماً بأنه وجهة نظر لكنها مؤثرة.
تأثير الإعلام في وحدة الأمة:
هذه الخصائص تجعل المسؤولية الإعلامية مختلفة تماماً عن التعليم والوعظ والقرار الإداري؛ لأن له طبيعة تلقّي مختلفة لا يؤثر إلا بها، كما أن التعليم والوعظ والإدارة لن تؤثر إذا كانت تعمل وفق أُسس الإعلام.
إنّ (وحدة الأمة) مشروع كبير بحاجة إلى تنوّع المعالجة في الوصول إليه، لكن يجب أن تتفاوت الأدوار بحسب الوسائل، فدور التعليم والخطب والمواعظ في هذا المشروع يجب أن يختلف عن دور الإعلام، وكذا دور الاقتصادي والباحث والسياسي وغيره.
إن معرفة الإعلامي لدوره ومساحة تأثيره تُتيح له فرصاً من النجاح أكبر، وأن القفز على مهام غيره يضعف تأثيره ولو كان يرى تقصيراً واضحاً في مجال غيره، فلن يستطيع الإعلام أن يؤدي دور التعليم ولا دور السياسي ولا دور الهيئات العلمية والمجامع الفقهية، كما أنهم لن يستطيعوا القيام بدور الإعلام.
دور الإعلام في وحدة الأمة له أساليبه وخصائصه متى ما تعاون الإعلاميون لأداء هذا الدور واستثمروا في هذا المجال تحققت خطوات كبيرة في الوحدة، ويستطيع الإعلام بمنتجاته أن يؤثر إعلامياً على مكونات المجتمع الأخرى دون أن يؤدي الدور عنها.
الوحدة من منظور إعلامي:
تأسرنا دائماً وحدة الأمة الذهنية التي تكون بحاكم واحد وبلد واحد جنسيته واحدة، هي وحدة مثالية بعيدة عنَّا على الأقل في هذا الزمن، فلا يمكن أن نتجاوز كل وحدة أخرى بل نعارض كل اتحاد من أجل هذه الوحدة الذهنية.
إنّ دور الإعلام في الوحدة هو حشد الأمة نحو قضايا مشتركة تحقق المصلحة الشرعية للجميع، وقد تكون الوحدة وحدة العاملين للإسلام أفراداً ومؤسسات لها قضايا كبرى مشتركة ولها قضايا كثيرة فيها خلافيات.
وقد تكون الوحدة وحدة عموم المسلمين في العالم لهم قضايا مشتركة ويتطلب من الإعلام دور في قضاياهم ورسم أولوياتهم.
وقد تكون الوحدة وحدة الوطن الإقليمي الذي يحوي نسيجاً من الأجناس والديانات وتتطلب المصلحة الشرعية وحدة هذا الوطن بدلاً من التمزق والحروب الأهلية. إن دعم هذه (الوحدة) ينعش الدعوة ويجعل (للوطن) هيبةً أمام العدو الخارجي الذي قد يُذكي الخلافات داخل الوطن من أجل تعطيل قضايا الأمة المسلمة، ومع الأسف قد نُسهِم في ذلك دون دراسة واعية للمصالح والمفاسد.
وربما كانت الوحدة وحدة أمة الحضارة التي تتمثل في أهل المنطقة المسلمة من العالم بما فيها من ديانات وأعراق، وهذه (الوحدة) تعني أن يدفع الجميع ثمن هذا الانتماء وأن يلتزم الجميع بأعراف هذه المنطقة والدفاع عن مصالحها.
إن استثناء بعض (الأعراق) أو بعض (الديانات) عن الانتماء الحضاري لهذه (الأمة) جعلها تتنصّل عن تبعات هذا الانتماء، فعملت على الخذلان والتعاون مع أعداء منطقتنا، ولم يلتزموا بانتمائهم لهذه الحضارة، ونحن نتحمل جزءاً من هذه المشكلة حينما لم نؤكد على الوحدة الحضارية بيننا التي تلزم الجميع بأن يسهم في بناء هذه الوحدة ويحترم أسس (الأمة) التي ينتمي إليها.
وأحياناً تكون الوحدة بين أمم متباعدة الجغرافيا ومنفصلة التاريخ، وهي (وحدة) المواجهة حينما نقف مع غيرنا في مواجهة عدو مشترك، دولة كانت أو حضارة، فإن لهذه الوحدة تبعات تتطلب من الإعلام دوراً في القيام بها ورصِّ الصفوف فيها.
مثال: أن ترى دولنا الإسلامية أنها مع دول أمريكا اللاتينية والجنوبية يجمعها تعرضها للظلم الأمريكي والتسلُّط على ثرواتها، وقد يتطلب هذا المحور الوحدة لهذه المواجهة، يقوم الإعلام بتعزيز هذه الوحدة وحشد طاقات الأمتين تجاه هذا التسلط، ومن الحكمة إغفال القضايا الخلافية بين الأمتين وتجاوز خطوط التماس بيننا.
أداء الإعلام في بنية الوحدة:
لتعرف الوسيلة دورها في وحدة الأمة ينبغي أن تنطلق من جمهورها المستهدف برسالتها، فجمهور النخبة يختلف عن غيرهم، وجمهور العرب ليس كجمهور العجم من المسلمين، والوسيلة الموجهة للأسرة يختلف دورها عن وسيلة للأطفال أو للشباب.
إن وعي الوسيلة لجمهورها ودراستها لهم والتأكد الدائم بأن رسالتها يستقبلها المستهدف بشكل واضح، من مهام الوسيلة كي تحقق أهدافها، فوحدة الأمة لن يؤثر فيها إلا طرق وأساليب تتفق مع طبيعة الجمهور وخصائصه، لذا يتطلب من كل وسيلة إعلامية أن توظف طرق بناء وحدة الأمة منطلقة من رسالتها الخاصة التي تخاطب جمهوراً مستهدفاً بهذه الرسالة، وأرى أن الوسائل التالية ستُسهِم في بناء وحدة الأمة:
أ - القرآن الكريم وشخصية سيد المرسلين:
القرآن الكريم مصدر إجماع للأمة المسلمة بتلاوته وسماعه، وأوّل مهام الوسيلة الإعلامية تمكين هذا المصدر وتصديره، لكن يُراعى فيه الأسلوب الإعلامي في إيصاله للجمهور، فتفسيره وأحكامه هي من مهام التعليم والتأصيل، ودور الإعلام في حسن خدمته بالتلاوة المقروءة والمسموعة والمشاهدة وحسن إخراج آياته وتحزيبه وجمع آياته موضوعياً ليؤثر إعلامياً على المتلقي، وتأكيد الإجماع عليه في بُنية الوسيلة بطرق منوعة وفي أوقات مختلفة، ودخول الإعلام العام في خلافات القراءات واختلاف التفاسير وتنوّع الأحكام القرآنية؛ غير مناسب، وهذه مكانها في الكتب والتعليم والمدارسة، وفي القرآن الكريم إجماعات كثيرة في التوحيد والمحكم من العبادات والأخلاق وقصص الرسل، ما يؤثر في الأمة المسلمة عربها وعجمها، بل غير المسلمين.
وشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي الأخرى مادة إعلامية شيقة ومؤثرة وهي مما أجمع عليه المسلمون بل المنصفون من غيرهم، وعلى وسيلة الإعلام التي تسعى لوحدة الأمة أن تكون شخصية خير الخلق حاضرة في إعلامها، لا سيما في الشمائل المحمدية والخلق العظيم وما صح من السير والمجمع عليه من الأحكام دون التوسع في الخلافات التي مكانها التعليم والبحث، وعند الأحكام المختلف فيها يربط جمهور الوسيلة الإعلامية بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون تعظيم شخصه وقوله وفعله جزءاً من شخصية الوسيلة الإعلامية.
ب - تغليب المجمع عليه وتضييق المختلف فيه:
إن المتأمِّل في مسائل الناس واهتماماتهم وآرائهم يدرك أن مساحة الخلاف ضيقة جداً ولا تتجاوز 10%، وأن 90% الباقية هي قضايا مشتركة ككليات الشريعة أو معايش الناس المشتركة، مثل: توحيد الله والنبوة والآخرة والصلاة والزكاة والصيام والحج، ومدح الصدق والوفاء والتسامح وذم الكذب والخيانة والغدر، وحسن تربية الأولاد والنجاح الأسري وتطوير دخل الأسرة وأمور تحسين المعيشة، والتدريب والتطوير وعلاج الأمراض، وقضايا كثيرة يجمع عليها الناس.
إنّ للإعلام دوراً في تأكيد هذه القضايا المجمع عليها ليرسم للأمة وحدة في الشعور والهموم المشتركة سعياً لحشدها تجاه قضايا واحدة تخدم الأمة وتجعلها ترتقي نحو الاتحاد أمام الصعاب المختلفة.
إنه من المؤسف أن 90 % مما يُثار حوله النقاش والحديث هو في 10 % (تقريباً) من الخلافيات بين الناس بما يجهد الذهن ويُضيّع الأوقات ويُفرّق ولا يجمع.
إن الإثارة الإعلامية والسعي وراء تحقيق التميز جعل الاهتمام ينصب على 10 % من هذه الخلافيات، ما جعلها تظهر وكأن الأمة الأصلُ فيها الخلاف، وأنّ القضايا المجمع عليها قليلة، وكأن الخوض في القضايا المجمع عليها لا يمكن أن يتم ما لم تُحل قضايا الخلاف بتفاصيلها. إننا لا ندعو إلى إغفال 10 % من الخلافيات، لكننا ندعو إلى ألا تتجاوز 10 % من اهتماماتنا.
ت - معالجة الخلاف إعلامياً:
لا يمكن للوسيلة الإعلامية تجاوز الخلاف في الأمة، وهو جزء من حياة البشر لا ينفك عنها، وينبغي للإعلام أن يدرك دوره المميز في إدارة هذا الخلاف وتقديم نموذج رائع للجمهور في جعل الخلاف نضجاً.
هناك خلاف لا يعتد به ولا هو مجالنا هنا، وخلاف آخر في منهجية الاستدلال، وخلاف ثالث يتعلق بتنوع الآراء وتعددها. من الطبيعة البشرية الخلاف والاختلاف، ولا يمكن أن يطلب من أهل الإعلام تجاوز هذه الطبيعة، بل إن بعض هذا الخلاف الخوض فيه مطلب.
فنقد الأشخاص والهيئات والأحزاب والدول جزء من الإعلام لا ينفك عنه، لكن هناك شروط تجعل النقد والخوض في الخلاف مؤازراً للوحدة:
(1) الرحمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فلغة الرحمة والشفقة أثناء النقد تقرّب القلوب وتجمع ولا تفرّق بخلاف لغة التهكُّم والسُّخرية أو التشفي التي تفرق، بل تخسر المحايدين من الناس.
(2) العلم: أن تكون المعلومات عن الخصم صحيحة وليست مفتراة، وتمثِّل الخصم فعلاً، وليست مواقف شاذة من آحاد ينتمون للخصم، ويكون معتقداً بها الآن وليس أمراً رجع عنه، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء من الآية:63]، وجاءت مؤكدة بوضوح في قوله صلى الله عليه وسلم: «على مثلها فاشهد» (من حديثٍ أخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف، وصحّحه الحاكم).
(3) العدل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة من الآية:8]، العدل هو بذل الجهد في الإنصاف مع القريب والبعيد، وضده الظلم والبغي، وحين يؤجج الإعلام خلافاً ظالماً ضد بعضه فإن الخلاف سيتحول إلى عداوات، بل سيسهم العلم في الخصومة بدلاً من أن يسهم في جمع الأمة لوجود البغي، كما قال تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية من الآية:71].
(4) الغب: أن يتم النقد ويناقش الخلاف في زمن يسير وأوقات متباعدة؛ لأن مداومة النقد وتكراره وإن كان بعلم وعدل يعني الاستهداف الذي يبني العداوة ويؤدي إلى الفرقة ويصد عن اتباع الحق.
إن (الهدى) من شروط الإعلام الذي يوحد على الحق. (الهدى) بتجاوز (الهوى) الذي تُسيّره رغبات النفس، والهدى بتجاوز (الظن) الذي يدخل الجهل بدلاً من العلم {إنْ هِيَ إلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:32].
والإعلام الذي يبتغي من علاج الخلاف جمع الأمة يسعى جهده لعذر المخالف وسماعه وإتاحة وجهة نظره كاملة غير منقوصة ولا مبدلة. إن (الأمة) بحاجة إلى أن تسمع لبعضها، إن الاستماع لرأي الآخر أساس لفهمه ونقاشه، وكثير من المتخالفين انتهى كثير من خلافهم بمجرد سماع بعضهم من بعض.
إنّ الحق في التفاصيل لا يملكه أحد معيَّن، بل هو مشاع في عموم الأمة، وكلما كان الإعلام أكثر نضجاً كانت قدرته على جمع الحق أكبر، وكلما كان أثره أطيب على الأمة.
إننا هنا لا نلوم من يناصر الحق الذي عنده، إذ إن هذه طبيعة بشرية، لكن عرض الحق بأساليب صحيحة تدعم اجتماع الأمة وتوحدها ولا تفرق الأمة وتباعدها.
ث - إثراء الإيجابيات وحسن معالجة السلبيات:
في الأمة إيجابيات كثيرة في أفرادها وجماعاتها وسلوكها وإنجازاتها، والإعلام الواعي يتفنن في عرض النجاحات وصناعة المادة الإعلامية الجاذبة التي تدفع النجاح لمثله وتنقل التجارب الناجحة بين الأمة. ومما يوحِّد الأمة حشد النجاحات المتفرقة والبشارة بالخير والإنجاز، وعند نقاش السلبيات يتم وفق نظرة ثاقبة لا تيئيس فيها ولا شماتة.
هناك نجاح سياسي وشعبي واقتصادي واجتماعي، ومؤسسات تعليمية وخيرية ودعوية حققت سبقاً في مجالها؛ على الإعلام إبرازها وتفعيل دورها والسعي لترحيل هذا النجاح إلى منطقة أخرى وإلى شعب جديد، وتفعيل الجمهور لمزيد من البذل والعطاء؛ لأن النجاح يجتمع تحت مظلته الناس.
وتبقى السلبيات جزءاً من نسيج البشر يعالج إعلامياً بحبكة مدروسة، فلا يبالغ في حجمه ولا يُعمِّم أثره ولا يعرض بطريقة اليائس ولا ينحو منحى الساخر المتهكِّم، يوجز فيه بالوصف ويفصل بالحل وتعرض تجارب حية لعلاج السلبيات، وكذلك يستطيع الإعلام استثمار نجاحات الأمة وتوظيفها بشكلٍ رائع عندما يُسهِم في مناقلة التجارب الناجحة بين شعوبها، بل يستفيد من ذلك في حشد الأمة للتعاون والوحدة ليستفيد الجميع من هذا النجاح.
إن الإعلام الإيجابي ليس إعلاماً مخدراً، بل نضج في فهم دوره وأثره، فهو يخاطب نسيجاً عاماً يتطلب دوراً يختلف عن دور الجامعات ومراكز الدراسات ويغاير دور المسجد والمحاضن التعليمية والتربوية ويتمايز عن دور الأداء الحكومي، فهو يحشد الجمهور نحو غاية محددة وأهداف عليا ويسلك مسلك العرض، فهو لا يَأمر ولا يُقرّر.
ج - دعم أشكال الوحدة ونماذج التعاون:
إن من الأدوار المهمة للإعلام دعم أشكال الوحدة في الأمة واستثمار إيجابياتها ومعالجة سلبياتها بحنكة، ومن ذلك: منظمة المؤتمر الإسلامي، جامعة الدول العربية، رابطة العالم الإسلامي، ومجلس التعاون الخليجي.. ودعم سبل التعاون الثنائي بين الدول ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وكذلك المساهمة في حل المشكلات الطارئة في هذه الأشكال الوحدوية والسعي إلى اكتمالها، وكذلك للإعلام دور في عرض سُبل جديدة للتعاون بين الدول والمنظمات والتجمعات في هذه الأمة وعرض تجارب التكتلات في العالم ونتائجها الإيجابية؛ كالوحدة الأوروبية أو منظمة الآسيان أو غيرها من التجارب الناجحة؛ كي تكون أنموذجاً تسعى الأمة إلى تكوين وحدة مشابهة له ولو مرحلياً.
ح - معالجة تراكمات النزاع والخلاف:
النزاع والخلاف بين الشعوب في البلد الواحد وفي بلدان مختلفة تجذّر عبر السنوات بدعم فاعل أو بفعل جاهل؛ لذا ينبغي أن يُسهِم الإعلام في معالجة المشكلات التي نشأت داخل تلك الشعوب في موقفها من بعضها:
- المشاحنات السياسية تؤثر في علاقات الشعوب، رغم أن كثيراً من الحكومات لا تمثل شعوبها.
- سخرية الشعوب من بعضها إما بالجهل أو الغرور أو الغباء أو الكذب أو الكسل ما يرسخ العداوات.
- الخلافات العمالية بين أرباب العمل وعمالتهم تسبَّبت في مشكلات ضخمة في ظل غياب القوانين الصارمة التي تحفظ حقوق الجميع.
- المسابقات الرياضية.. ودورها السيئ في الخصومات والعداوات والتي يعبر عنها مع الأسف بعكس نتائجها.
وأوّل واجبات الإعلام ألا يكون جزءاً من هذا النزاع وإذكائه، وأن لا تسمح الوسيلة أن تكون ميداناً لصراع عنصري أو فئوي أو مناطقي ولا يستغلها مفسد أو جاهل لنشر بذاءاته، وعليه دور محوري في تقريب الشعوب لبعضها وذكر محاسن الشعوب والمناطق وتبادل التهاني والتبريكات بين الشعوب المسلمة من خلال وسيلتها، ومعالجة كل شرخ يمزّق الصف في حينه بحكمة وعدل وحسن إدارة لحساسية هذه الموضوعات.
خ - استثمار اختلاط الشعوب لتعزيز الوحدة:
في السنوات الأخيرة أصبح التنقل في دول العالم أكثر لأسباب العمالة والسياحة والتعليم واللجوء السياسي وأسباب كثيرة جعلت الشعوب متقاربة أكثر، ما جعل التأثير متبادلاً، وهذا التقارب له محاسنه ومفاسده، وليس هذا مكان بسطه، لكن الإعلام اليقظ يستثمر الوضع بتعزيز روح الوحدة.
فرعايا الدول الأخرى في بلد الوسيلة الإعلامية ينبغي أن يُهتمّ بهم وبمخاطبتهم وبث رسائل إعلامية لهم والاهتمام بحاجاتهم وحل مشكلاتهم ومخاطبة المجتمع لحثه على الإحسان لهم وحسن معاملتهم وتعميق روح الانتماء للقواسم المشتركة بينهم.
والمغتربون في أوروبا وأمريكا وغيرها من مختلف الجالية المسلمة، أعدادهم بالملايين، وتفوق أعداد سكان دول كثيرة، ولهم ظروف متشابهة وقواسم مشتركة كثيرة، وهي فرصة للإعلام أن يستثمر فيهم، لا سيما في تأكيد وحدة الأمة وتنمية مشاعر الحب والتقارب والتعاون بينهم.
ويمكن للإعلام أن يستثمر تجمعاً ناجحاً في أي منطقة في العالم فينقل التجربة ويطلع الآخرين عليها لترحيل النجاحات ولتثقيف المجتمعات بأثر الوحدة والتقارب والعمل في المشتركات وأن حقوق الجميع مصانة ومصالحهم محققة بخلاف تجمعات التشرذم والخلافات والصراعات التي تجعل الجالية ضعيفة مستباحة لا حقوق لها.
وليشجع الإعلام في الغرب والشرق من يدعم قضايانا ويدافع عنها وينقم بشدة على ممارسات الظلم من منظمات أو أفراد. إن هؤلاء بحاجة إلى إعلام ذكي يستثمر مواقفهم ويكوّن وحدة إعلامية معهم ليشعرهم بأن مواقفهم مشكورة، وليتشجع الصامتون عندهم على الجهر بهذه المواقف، كما أنها تعطي لمواقفنا مصداقية أكثر لا سيما أن الشهود من أهلها.
د - وحدة الأمة في مصائبها:
تمرُّ على الأمة مصائب كغيرها، بعضها طبيعية كالزلازل والفيضانات والبراكين، وبعضها بشري كالحروب من أعدائها المختلفين بحرب ظلمة أو تسلط دولة على شعبها بالقتل والسجن والتدمير، وربما كانت المصيبة في شتم الإسلام والكتاب والرسل والصحابة.
هذه المصائب من واجبات الإعلام التصدي لها ومعالجتها وتقوم على أُسس إعلامية -ليس هذا مجال الخوض فيها-، لكن للإعلام أن يستفيد من ذلك في التأكيد على وحدة الأمة ومصيرها المشترك والتذكير بطرق التعاون والتعاضد والمواجهة المشتركة للمخاطر والإدارة الجماعية للأزمات؛ وهذه كلها عوامل مهمة في دعم الوحدة وتأكيدها.
إن الإعلام الواعي لا تشغله صدمة المصيبة ولا منهجية حلها عن أدواره الأخرى في صناعة مجتمع متزن يهتم بمشكلاته لكنه يصنع منها بُعداً آخر.
خاتمة:
إن الإعلام اليوم الذي ظل سنوات يستتر بورقة الحياد، أعلن في سنواته الأخيرة أن عدَّ الإعلام أداة محايدة يجب أن لا يؤثر فيها توجهات الإدارة والملاك؛ ضرب من الخيال وخدعة كبرى، ولا يمكن لأصحاب أموال، سواء كانوا حكومة أو قطاعاً خاصاً، أن يضعوا مئات الألوف وربما الملايين وليس لهم رؤية يريدون بثها، لا سيما أن (الإعلام) مشروع اقتصادي غير فعّال، فهو مرتفع التكاليف بالغ المخاطرة بطيء الربحية لا يَقدم عليه إلا صاحب هدف غير اقتصادي غالباً، وإن كان اقتصادياً فهو مشروع يخدم مشاريع اقتصادية أخرى وليس لذاته.
إن الإعلام المؤثر فعلاً هو الذي يفهم طبيعة الجمهور ويخاطبهم بطريقة احترافية مؤثرة، إعلام يدرك الرسالة جيداً ويوصلها ولو بلسان من يعارضها.
إن تحمّل الإعلام لدوره في وحدة الأمة له ضريبة لا بد أن ندركها ونصبر على تبعاتها وليست أعطية ننتظر أن نجني المدائح بسببها.
إن الإعلام الذي يريد أن يقوم بدوره الحضاري تجاه أمته لا بد أن يدرك أن هذا الدور طريق عسرة لا بد من الصبر والمصابرة عليها، فهو بذل مال وجهد ووقت للقيام بأدوار قد لا يمدح عليها، فإن في الحياة عدواً ظاهراً يصارع وعدواً باطناً يُحِيك المؤامرة وصديقاً أحمق يعطلك وحاسداً همه فشلك.
والإعلام الذي يجعل الوحدة همه سيضاعف جهده ويتخلى عن كثير من الإثارة الإعلامية التي هي مادة الإعلام اللذيذة، وبعد الجهد والبذل سيتهم الإعلام الذي يجمع ولا يفرق حتى من محبيه بأنه بلا منهج ولا رؤية وأنه يميّع القضايا، وأنه بسيط التفكير، ولا يعرف حقيقة العداوة، وأنه مخدوع بالمثالية، كما أنه سيفقد كثيراً من مكتسباته، كالزعامة في حزبه وجماعته، وسيحجم عن كثير من القضايا التي يتقنها، كما أنه سيتيح فرصة لمن لا يعجبه من الشخصيات، وفرصة لما لا يعجبه من الأقوال والآراء يتيح لهم الفرصة في وسيلة إعلامية يملكها ووضع الآلاف وربما الملايين فيها، يفعل ذلك مقدماً مصلحة الأمة على مصلحته الخاصة لدعم وحدة الأمة ما أمكنه ذلك.
إن الإعلام الذي يريد أن يُسِهم في (وحدة الأمة) عليه أن يتحمل هذه المشاق.
عادل أحمد الماجد