العِداء للدِّين والمتعالِمون الجُدد
محمد العبدة
القليل من الفلسفة تنزع بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق في العلم يصل بالإنسان إلى الإيمان
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
حدثني أحد الإخوة: "أنه التقى منذ أيام بشخص قادم من إحدى الدول الخليجية، وتطرّق الحديث عن الدين والواقع المعاصر وما يدور في العالم الغربي عن الإسلام، فقال هذا القادم -وأراد أن يتظرّف ويُظهِر أنه شخصٌ غير عادي ومثقف-: "إن محمداً صلى الله عليه وسلم قام بمجزرة عندما قتل رجال بني قريظة". وكان تخصُّص الأخ الذي حدثني في القانون، فرد عليه بهدوء: "هذا في الأعراف القانونية أو الدولية لا يُسمّى مجزرة؛ لأن المجزرة تَعني القتل بسبب الانتماء العرقي أو الدين المحض، والرسول صلى الله عليه وسلم قتلهم لأنهم خانوا العهد وفي أحلك الظروف التي تواجه المسلمين حين كانوا مُحاصَرين من قبل الأحزاب، واستعد المسلمون بحفر الخندق. وقد قَبِلَ بنو قريظة بالتحكيم، وحكّم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه، ووافق حكمه حكم الله فيهم".
قلتُ لهذا الأخ: "مسكين هذا الإنسان، يريد أن يأتي بأفكار غريبة ليتميّز عن باقي الناس، وكأنها أصبحت (موضة) أن يُظهِر أحدهم المخالفة للمسلّمات والأصول ولو أدّى إلى الزندقة حتى يقال: إنه مثقف".
إنه نمط من ليس هو بالجاهل الذي يعترف بتقصيره أو جهله ويحب أن يتعلم، ولا هو بالمتعلِّم الذي يحب العلم ويزداد من العلم ليصل إلى برد اليقين، بل الجاهل أفضل منه؛ لأنه لا يؤذي نفسه ولا يؤذي أُمَّته كما يؤذيها هؤلاء المتعالِمون الذين يجترون كلام الآخرين.
وكما قيل: "القليل من الفلسفة تنزع بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق في العلم يصل بالإنسان إلى الإيمان".
هؤلاء الناس يملكون شيئاً قليلاً جداً من العلم، يقرأون بعض الكتب التي تشككهم في المسلَّمات والبديهيات، خاصة وأن مؤلفي هذه الكتب من الأسماء اللامعة المنتفشة التي يُضخِّمها الإعلام، بعض هذه الكتب تجادل في القرآن وتعتبره نصاً أدبياً يخضع للمناقشة والنقد، كما قال أمثالهم من الأولين: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الفرقان:5].
والحقيقة أن غالب هؤلاء المجادِلين في القرآن والسنة هم من غير المختصين، وليست لديهم الخبرة والعلم في التعامل مع النصوص.
وُجِدَتْ هذه الظاهرة في بداية العصر العباسي من أناس عُرِفوا بـ(الزندقة)، فكان الرجل منهم يتظرّف ليقال عنه أنه من التقدميين -في اصطلاحنا اليوم- وعندما يلتقي أحدهما الآخر يسأله عن اعتقاده، أي: من آراء وأفكار تُخالِف عقيدة الإسلام وأصوله، وهناك أصناف أخرى من الزنادقة في ذلك العصر.
يعمد هؤلاء المتظرِّفون لخلط الهزل بالجِدّ والمجون بالأدب، ربما حتى لا يكون قولهم دليلاً وشاهداً عليهم بالردة.
قال الشاعر ابن الرومي ساخراً منهم ومن تظاهرهم بالعلم:
المتندر المضحك المغني *** الكاتب الحاسب المعلم
الفيلسوف العظيم شأناً *** العائف القائف المعزم
الماهن الكاهن المعادي *** في نصر إبليس كل مسلم
لقد أصبح من مظاهر التحذلق في زماننا هذا أن يتكلم أحدهم بما يناقض الإسلام تماماً، فيردّد مثلاً مع بعض الكتّاب الغربيين أو المتغربين: "أن المجتمع الإسلامي هو مجتمع ذكوري يضطهد المرأة"، أو يردّد ما يسمعه من بعض الذين لا يعلمون محاولاتهم لتجريح بعض الصحابة، حتى يقال إنه ناقدٌ ومعتدل وغير متعصب وغير (ماضوي)، وأمثال هؤلاء إما مقلِّدون تقليداً أعمى أو يغلب عليهم الغباوة، وإلا هل قرأ أحدهم وتعمَّق في أسباب الحوادث وعللها، واطلع على الروايات الصحيحة من حياة الصحابة رضوان الله عليهم وأخلاقهم وأعمالهم؟!
هل يستطيع أحدهم تمييز الأخبار صحيحها من ضعيفها، ويعلم بالبرهان غثها من سمينها؟
هل يسكت المسلم عن هذه الآراء التي تتناقض مع عقيدته وتاريخه، وهل يكفي هنا الاستنكار القلبي الذي هو أضعف الإيمان؟
إن السكوت سوف يجرُّه إلى التعوُّد على سماعها أو رؤيتها، وحينئذٍ ينعدم الشعور بأضرارها، فلا بدّ إذن من الإنكار القولي وبقوة، وهذا واجب على العلماء والدعاة والمثقفين المخلصين لدينهم وأمتهم.
هذا الخبط والخلط، وهذا التعالُم المتلفع بما هو ظاهره نقد وباطنه هدم، جعل شاعراً يصرخ ويقول:
يا نوح عُد خشية أن يدهمنا الطوفان..
نريد سفناً جديدة لإنقاذ البصيرة الإنسانية الغارقة في الأمواج العكرة..