هل من الممكن أن نتحرّر من هذا الرِّق الثقافي
صالح بن عبد الرحمن الحصين
ليس غريباً أن نرى تصورات الناس من الثقافات الأخرى، بما فيهم المسلمون، منسجمة ومتطابقة مع تصورات الثقافة الغربية وكأنما ينظرون من خلال عدسات الثقافة الأوروأمريكية السائدة، مهما كانت لا تنسجم أو تتناقض مع روح الثقافة المحلية (الدين، التقاليد، أو الموروثات الثقافية).
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
الفصل الأول من العدل أن نعترف بأن ما نُسمِّيه الآن (الثقافة العالمية المعاصرة) هو في الحقيقة "الثقافة الغربية" أو بعبارة أخرى "الثقافة الأوروأمريكية".
لقد ظلّت هذه الثقافة طوال القرون الماضية ترسل أشعتها إلى العالم الخارجي في الكرة الأرضية حتى غطّت ما تغطيه الشمس بل أبلغ من ذلك دخلت الأكواخ في الغابات والمغارات في الجبال.
كانت هذه الثقافة قاهرة غلّابة، طردت الثقافات المحلية، أو أضعفتها أو عدلت فيها، لقد غيرت مظاهر الحياة، وطريقة العيش، وكانت في ذلك شاملة وعامة، فالتوسع في إقتناء الآلات والمعدات واستخدامها، وتطبيق التقنيات الحديثة في التنظيم والإنتاج، وطقوس الاحتفالات، وإجراءات البروتوكولات الدبلوماسية، وقواعد الإتيكيت الاجتماعي كلها أمثلة لهذه المظاهر.
واضح أن بعض هذه المظاهر يقتضيها الاختيار العقلاني، والفائدة العملية، ولكن بعضها كان مجرد تقليد للثقافة الغربية المستجيبة للذوق الغربي أو الـ Culture المحض، على سبيل المثال سيادة موضات الشباب والنساء، وطراز الملابس، ومظاهر تزيين الجسم، وقد ترى الرجل العربي يحرص على الاحتفاظ بهويته العربية والاعتزاز بها فيحتفظ بغطاء الرأس (الغترة والعقال)، ولكنه في الوقت نفسه يحتفظ باللباس الغربي بما فيه ربطة العنق التي لا يبدو لها وظيفة عملية في حياة العربي أو على الأقل لا يبدو لها وظيفة تقابل ما ينفقه العربي عليها من عمل ووقت ومال.
هذه المظاهر المادية من السهل إدراكها، ولكن للثقافة الغربية تأثيراً أكثر عمقاً وأبلغ أثراً على الحياة، وأعني به التأثير على اللغات المحلية، ومنها لغات شعوب العالم الإسلامي، ولا يحتاج الإنسان إلى أكثر من ذكاء الرجل العادي وقليل من التأمّل ليُدرك العدد المهول من التعابير والمصطلحات والألفاظ التي اقتبستها اللغات الأخرى عن طريق الترجمة الحرفية من اللغات الأوربية.
وبما أن اللغة كما يقال تفكير ناطق والتفكير لغة صامتة فإن من الطبيعي أن يقع تأثير هذه الظاهرة على تصورات الإنسان عن الطبيعة والحياة.
ولذا ليس غريباً أن نرى تصورات الناس من الثقافات الأخرى، بما فيهم المسلمون، منسجمة ومتطابقة مع تصورات الثقافة الغربية وكأنما ينظرون من خلال عدسات الثقافة الأوروأمريكية السائدة، مهما كانت لا تنسجم أو تتناقض مع روح الثقافة المحلية (الدين، التقاليد، أو الموروثات الثقافية).
وقد مكّن لهذا التأثير الشامل والعميق للثقافة الغربية أمران:
1- القوة المادية والمعنوية للغرب التي تعاظمت على مرّ القرون الأخيرة، فالثروة المعرفية والتقدم التكنولوجي والاختراعات ورفع شعارات الأُسس الأخلاقية (مثل حقوق الإنسان، وكرامة الإنسان، والمساواة أمام القانون، والبذل التطوعي والعمل الإنساني) والقوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والإعلامية كلها من مكونات تلك القوة المادية والمعنوية.
2- وربما يكون أهم من ذلك هشاشة الثقافات المحلية بالمقارنة مع الثقافة الغربية، في نموها واستعلائها، بما في ذلك الثقافة السائدة في العالم الإسلامي باستثناء ما هو منها مستمد من الثقافة الأصيلة أي الإسلام.
للتوضيح أعرض بعض الأمثلة التي تُعبِّر عن عمق وقوة تأثير الثقافة الغربية على التفكير والتصور في العالم الإسلامي:
أ- المثال الأول:
لقد كشف الاقتصاد الكبير المعاصر عن نتائج مدمرة للنظام المصرفي الربوي لم تكن معروفة من قبل، وبما أن هذا النظام من الآليات الرئيسة للاقتصاد الغربي، فقد استحوذ دائماً على نقد الاقتصاديين الغربي، ولعل أوضح ما يُعبّر عن ذلك ما تضمنه مقالان لعالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل الأستاذ "موريس آلية" نشرها في صحيفة لوموند في يونيو عام 1989م، من أن النظام البنكي الغربي سبّب أضراراً فادحة للاقتصاد العالمي تتلخص في وجود مرض متجذر في الاقتصاد العالمي يهدده بالانهيار أو مواجهة أزمات حادة، إذ أصبح هذا الاقتصاد عبارة عن أهرامات من الديون يرتكز بعضها على بعض بتوازن هش، وفي استعمال المال في غير وظيفته الطبيعية بتيسير النظام البنكي الغربي عمليات الـ Speculation وأصبح العالم أشبه بمائدة قمار واسعة وأصبح "الإسبكيوليشن" يستأثر، كما يقرر موريس آلية بـ 97% من تدفق النقود بين بلدان العالم ويبقى للتجارة الحقيقة 3% فقط، وذلك كله كان سبباً لما يُعانِيه العالم من ضنك وبطالة وانخفاض في مستوى العدالة الاجتماعية.
كما أوضح نقاد اقتصاديون آخرون التأثير السلبي للنظام البنكي الربوي على التخصيص الأمثل للموارد بتحيزه لقوة الائتمان في مقابل جدوى الإنتاج، وتشجيعه الاستهلاك الطائش وخلق حاجات غير حقيقية للرجل العادي لتتحول إلى ما يعتبره حاجات لا يستغني عنها، وتأثيره السلبي على الاستقرار الاقتصادي، وأثره في تعويق وجود ونمو المناخ الاستثماري الذي يشجع على الادخار والتكوين الاستثماري، وأخيراً أثره السلبي على النمو الاقتصادي، وبالرغم من ذلك كله فالتصور السائد في الثقافة الغربية أن النظام البنكي الربوي لا بديل له.
وفي خلال المائة سنة الماضية وجد علماء أجلاء في العالم الإسلامي يسلمون بالتصور نفسه، ويرون أن لا بديل للنظام البنكي الربوي آلية رئيسة يقوم عليها اقتصاد قوي مزدهر غلاب.
وبما أن هذا التصور يناقض حكماً شرعياً معروفاً من الدين بالضرورة وهو تحريم الربا الذي عد القرآن ارتكابه مؤذناً بحرب من الله ورسوله، فلم يكن أمامهم -تحت التأثير السحري القاهر للثقافة الغربية- إلا أن يقتحموا عقبة التعامي عن البديهية العقلية، فينكروا أن يكون ما تُسميه البنوك الربوية قرضاً بفائدة هو الربا المحرم، غافلين عن أن رجل الشارع في لندن أو باريس أو روما يُسميه (الربا) بل أن البنوك الربوية العربية حينما تتحدث بغير العربية تُسميه (ربا)، بل إذا أنكر كونه (الربا) فمعنى ذلك أنه لم يوجد قط ولا يوجد في الدنيا (ربا)، أن ما تُسميه البنوك الربوية العربية قرضاً بفائدة هو الصورة الأساسية للربا التي عرفت على مر التاريخ، وسمتها (ربا) كل الشعوب.
ومن ناحية أخرى فلم يتنبه هؤلاء العلماء إلى أن الواقع العملي، والتجارب الناجحة التي طبقت خلال العقود الثلاثة الماضية أثبتت إمكانية التحول في الوساطة المالية بين المدخرين والمستثمرين من النظام الربوي إلى نظام يبرأ من الربا شكلاً وجوهراً.
أن قوة الأَسْر الثقافي الذي أجبر هؤلاء العلماء على أن يعموا عن بديهة عقلية، وأن يتعامواً عن الحقائق الواقعية لا يُمثِّل في حقيقة الأمر شذوذاً من أفراد في مجال الأَسْر الثقافي بل هو في الحقيقة ظاهرة عامة واتجاه سائد، فقد أظهرت العقود الثلاثة الماضية التي وجدت فيها مؤسسات مالية سُميّت "بالمصارف الإسلامية" أو "النوافذ الإسلامية" في البنوك الربوية، أن عمل المصرفيين الإسلاميين يعاونهم -بحسن نية- أعضاء الهيئات الشرعية في المصارف من العلماء على بذل جهود نشطة لاكتشاف وابتكار مناورات فقهية تمكنهم من متابعة آليات النظام البنكي الربوية وتبنيها بعد إلباسها ثوباً لا يستر العورة في الغالب باسم "المعاملات الشرعية"، لقد تمكنوا من تبني التعامل المصرفي بالفائدة البسيطة، ثم بالمعدل العائم للفائدة، وحتى عمليات التحوَّط والمشتقات المالية في صور يستحيل إيجاد الفرق بينها وبين أصولها من آليات التعامل الربوي سواءً من ناحية الجوهر والحقيقة أم من ناحية الآثار السلبية.
وفي خاصة المملكة العربية السعودية هان على الإدارات الحكومية، بما فيها التي لها علاقة بالدين والتقوى، هان عليها أن تُعيّن موظفيها على الاقتراض بالربا، لاغراض الاستهلاك الطائش، ولم يكن ذلك من المسئولين في هذه الدوائر عن بلاهة أو غباء أو عدم إدراك للواقع، ولم يكن عن ضعف في الدين والتقوى، وإنما كان للعجز والتبلُّد أمام ضغط الواقع المتمثل في الرق الثقافي الذي ظلت الثقافة الإوربية تمارسه ضد الثقافات الأخرى.
لم تكن الخسارة الثقافية التي فرضها الرق الثقافي الذي مارسته وتمارسه الثقافة الغربية على العالم الإسلامي خسارة فكرية بل كانت خسارة عملية كبرى تمثلت في شلل العالم الإسلامي وعجزه عن إنقاذ نفسه وإنقاذ البشرية من البلاء العظيم (الربا)، وعجزه عن إيجاد بديل يحقق المبادئ الثلاثة الكبرى للاقتصاد الإسلامي:
1- أن يكون المال قياماً للناس. 2- وأن لا يكون دولة بين الأغنياء. 3- وأن يحقق العدل في التعامل.
ب- المثال الثاني:
من وجود بعض صور الإرث التي يكون للأنثى منها نصف نصيب الذكر بنى بعض المثقفين الغربيين تصوراً بأن القاعدة العامة في الميراث في النظام الإسلامي أن الذكر والأنثى حينما يكونان في درجة واحدة من القرابة للمورث فإن نصيب الأنثى يكون دائماً نصف نصيب الذكر، بنوا على ذلك أن هذا الوضع يُمثِّل انتهاكاُ للمساواة بين الرجل والمرأة.
واستنتجوا من هذا التصور أن الدافع إليه تمييز الإسلام ضد المرآة ونظرته الدونية لها، وصادق كثير من المثقفين المسلمين على هذا التصور، وشغلوا أنفسهم بعراكٍ فكري لتبرير هذا الوضع وإثبات أنه لا ينتج فرضية التمييز ضد المرآة، وعموا عن أن نصوص القرآن التي يقرؤونها أو يسمعونها بتكرارٍ كافٍ، تنطق بأن ذلك التصور زائف وغير صحيح.
إذ تتضمن النصوص في أول سورة النساء وآخرها تفصيلاً للوضع الإرثي حينما يكون الذكر والأنثى في درجة واحدة من القرابة للمورث -كلاهما أخوة مثلاً- وحينما تكون درجتهما متساوية من ناحية القوة -كلاهما إخوة أشقاء، أو لأب أو لأم- فالنصوص تتضمن سبع حالات: ثلاث منها يكون للأنثى نصف نصيب الذكر، وثلاث يكون للأنثى فيها مثل نصيب الذكر، والسابعة تتضمن صورتين يختلف فيهما اجتهاد المفسرين، فيرى بعضهم أن للأنثى ضعف نصيب الذكر في إحدى الصورتين إعمالاً لظاهر النص، ويرى آخرون أن للذكر ضعف نصيب الأنثى أعمالاً للرأي والقياس، هذا يعني أن الاطّراد في تنصيف نصيب الأنثى في الميراث لو انخرم بواحدة من السبع حالات لما صح اعتباره قاعدة عامة فكيف إذا انخرم بثلاث حالات أو أربع من السبع، هذا يعني أن النظام في تسويته في بعض حالات الإرث بين الذكر والأنثى وعدم تسويته في حالات أخرى لا علاقة له البتة بقضيه المساواة بين الرجل والمرأة.
ومن ناحية أخرى فإن المثقفين الغربيين والمسلمين لم ينتبهوا إلى البديل عن النظام الإسلامي في ميراث الأنثى والذكر الموجود الآن في العالم، خارج العالم الإسلامي، فهي حقيقة لا يمكن المنازعة فيها أن النظام الشائع خارج العالم الإسلامي يُعطي المورث الحق في توزيع تركته بين من يخلفه من أولاده وغيرهم وفق رأيه ورغبته، وفي الغالب -والأحكام تبنى على الغالب لا على النادر- أن المورِّث يفضل إيثار الذكور من أولاده بالميراث، أما بقصد عدم خروج المال عن العائلة أو بقصد آخر، وهذا أمر يظهره الواقع.
فالنظام الإسلامي يحمي المساواة بين الذكر والأنثى بأن يكون لكل منهما نصيب -من الإرث- يقدره العليم الحكيم لعوامل مختلفة ويحصنها من أهواء أو رغبات المورثين ويستجيب بذلك لمقتضيات المنطق والعدل، فالنظام الإسلامي كما هو ظاهر يحمي المساواة بين الذكر والأنثى ولا ينتهكها، وإذا فما بني على الفرضية الزائفة عن انتهاك النظام الإسلامي للمساواة بين الذكر والأنثى هو بالتالي زائف وغير صحيح.
وفي هذا المثال، كالمثال السابق، نرى كيف أن الرق الثقافي حمل المثقف المسلم على العمى حتى عن نصوص القرآن وعن ظواهر الواقع، أن تصور أن القاعدة العامة في الميراث في الإسلام أن يكون للمرأة نصف نصيب الرجل عندما يتساويان في درجة القرابة وقوتها، وأن هذا الحكم ينتهك مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، وأن هذا الانتهاك نتيجة التسليم بنقص قيمة المرأة في المجتمع عن قيمة الرجل هذا التصور فرع عن التصور العام للثقافة الغربية عن المساواة بين الرجل والمرأة، وهو أنها مساواة تماثل لا مساواة تكامل.
وهذا التصور لا يلتفت إلى أن الكون في وجوده ومسيرته يعتمد مبدأ الزوجية قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس:36]، وقال تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49]، هذا يعني أن المساواة تقوم بين كلاً الزوجين في الكون ولكنها ليست مساواة التماثل وإنما مساواة التكامل التي تختلف فيها الوظيفة دون أن تختلف القيمة فليست قيمة الإلكترون الموجب أقل ولا أكثر من قيمة الإلكترون السالب.
وبين الذكر والأنثى من البشر تقوم مساواة التكامل وليس التماثل فسيولوجياً، وبيولوجياً، وسيكولوجياً، فلماذا يمتنع عقلاً أن تقوم بينهما في بعض الأحيان مساواة التكامل سوسيولوجياً.
هل يوجد مُبرّر من الوضع العملي للإصرار على أن مساواة التماثل بين الرجل والمرأة اجتماعياً هي التصور السليم؟ هل يظهر الواقع العملي إن المرأة والرجل كسبا بهذا التصور أم خسرا؟ هل صارت المرأة بتطبيق هذا التصور على أرض الواقع أقرب إلى الحياة الطيبة (السعادة) وأبعد عن المعيشة الضنك (الشقاء)؟ هل صار المجتمع بهذا التصور أكثر عدلاً والوطن أكثر تقدماً؟
لنستحضر هذين النموذجين من عالمي الثقافة الغربية، الشيوعي والرأسمالي:
أولاً:
منذ أن قال لينين (الزعيم الشيوعي الأول): "لن نتقدم ونصف شعبنا في المطبخ".
طبقت في الاتحاد السوفييتي أكمل وأشمل وأدوم صورة لمساواة التماثل بين الرجل والمرأة، عملت المرأة خارج المنزل في مجال البناء ورصف الطرق وكنس الشوارع، وعملت باحثة في مراكز البحوث وميكانيكية ومهندسة ورائدة فضاء، كان نصيب المرأة في الأعمال المكروهة والشاقة أكثر ولكنها كسبت مساواة التماثل مع الرجل.
كانت النهاية كما وصفها (الزعيم الشيوعي الأخير) جورباتشوف في (البروسترويكا) حين كتب: "لقد وضعت الدولة السوفييتية حداً للتمييز ضد المرأة الذي كان سائداً في روسيا القيصرية… كسبت المرأة… نفس الحق في العمل كالرجل والأجر المتساوي للعمل المتساوي… ولكن طول سنوات تاريخنا البطولي والشاق عجزنا أن نولي اهتماماً لحقوق المرأة الخاصة واحتياجاتها الناشئة عن دورها كأم وربة منزل ووظيفتها التعليمية التي لا غنى عنها بالنسبة للأطفال، إن المرأة حين تعمل في مجال البحث العلمي وفي مواقع البناء وفي الإنتاج والخدمات وتشارك في النشاط الإبداعي لم يعد لها وقت للقيام بواجباتها اليومية في المنزل… وتربية الأطفال وإقامة جو أُسري طيب، لقد اكتشفنا أن كثيراً من مشاكلنا في سلوك الأطفال والشباب وفي معنوياتنا وثقافتنا وفي الإنتاج تعود إلى تدهور العلاقات الأسرية والموقف المتراخي من المسئوليات الأسرية، وهذه نتيجة مناقضة لرغبتنا المخلصة والمبررة سياسياً لمساواة المرأة والرجل في كل شيء، والآن في مجرى (البروسترويكا) بدأنا نتغلب على هذا الوضع، ولهذا السبب فنحن نجرى الآن مناقشات جادة في الصحافة وفي المنظمات العامة وفي العمل والمنزل بخصوص ما يجب أن نفعله لنسهل على المرأة العودة إلى رسالتها الإنسانية البحتة " انتهى.
ثانياً:
في العالم الرأسمالي تطور تصور مساواة التماثل بين الرجل والمرأة إلى شعار ملهم وفاعل وشبه مقدس حتى انتهى إلى الحركة النسوية (National Organization for Women NOW) ولسوء الحظ فإن الأمر انتهى بالمجتمع الأمريكي والأوروبي إلى مثل هذا الوضع؛ في الولايات المتحدة وغالب -إن لم يكن كل- البلدان الأوروبية بلغت نسبة وحدة الوالدية (Single parenting) إلى نسب مروعة تتجاوز الخمسين في المائة في كل أو أغلب الحالات، ماذاً يعني هذا؟ يعني أن النساء بإرهاقهن بمسئولية العائل الوحيد صرن مسئولات عن إعانة أنفسهن وعن إعالة أعداد تزيد عن عددهن من أفراد الشعب، مع أن دخولهن في الغالب أضعف، وفرصهن في تنمية دخولهن أقل.
في التاريخ البشري المكتوب ربما لم تقع المرأة مسحوقه في مثل هذا الوضع الظالم من قبل، لقد لوّح للمرأة بجزرة مساواة التماثل مع الرجل فغفلت عن ضربات عصا هذه المساواة التي تلهب ظهرها، على أن الدراسات الحديثة أظهرت أن المرأة في كثير من الأحيان لا تستطيع مقاومة القانون الطبيعي وتستجيب لداعي الفطرة فتختار مساواة التكامل، وتعود إلى البيت لتؤدي مسئولياتها الاجتماعية التقليدية.
فمثلاً في دراسة نشرتها في موقعها في 21 نوفمبر 2005م برفسور ليندا هرشل -وهي رائدة في الحركة النسائية وأستاذة جامعية في مادة feminism- ذكرت أن نصف النساء من الأفضل تعليمياً في الولايات المتحدة اخترن البقاء في البيت وتربية أطفالهن بدلاً من الخروج إلى سوق العمل، ونقلت عن مايرا هارت الأستاذ في "البرنس سكول" في هارفرد الذي قام في عام 2000م بمسح للطالبات في الأعوام (1981م، 1986م، 1991م)، أنه وجد 38% فقط من حاملات الماجستير يعملن خارج المنزل.
وتعلق هرشل: "أن معظم النساء يفضلن الزواج وأن يكون لهن أطفال ولذا لا يكن جادات في الثورة على الفكرة التقليدية أن وظيفة المرأة تربية الأطفال ورعاية الأسرة، ولم تقل واحدة من النساء اللاتي قابلتهن أنهن يرين هذا الوضع ينتهك العدل مع النساء، وقد عبّرت إحداهن وفق مصطلحات علم الإدارة: "زوجي يقوم بوظيفة المسئول التنفيذي وأنا أقوم بوظيفة المسئول عن إدارة المال، فهو يعمل لتوفير النقود، وأنا أقوم بإدارة استخدامها".
لمزيد من الإيضاح في تقييم تصور الثقافة الغربية لمساواة التماثل بين الرجل والمرأة، ينبغي مقارنة هذا التصور وتصور النظام الإسلامي في الموضوع.
الإسلام يقرر مساواة التماثل بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالقيمة الإنسانية فيُقرِّر المساواة بينهما في الخضوع لميزان التفاضل عند الله قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات من الآية:13].
وفي المسئولية والجزاء قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} [آل عمران:196]، ولا يتصور تعبير عن التساوي والتماثل أدق وأبلغ من تعبير {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ}، وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل من الآية:97]، وفي الكرامة الإنسانية {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:70]، و{بَنِي آدَمَ} هنا تشمل أولاد آدم الذكر وأنثى.
وفي الشخصية القانونية فالرجل والمرأة يتمتعان على السواء بالذمة المالية والأهلية الشرعية لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات وإجراء التصرفات القانونية.
وبعد ذلك يراعي الإسلام مساواة التكامل في بعض مجالات الوظائف الاجتماعية فيحمي المرأة مما توجبه مساواة التماثل من تحميلها مسئولية اجتماعية زيادة على المسئولية الاجتماعية التي تهديها إليها قوانين الطبيعة والفطرة.
وكما في المثال الأول كان من الطبيعي أن يكون لتبني مساواة التماثل دائماً بين الرجل والمرأة، كما تتصورها الثقافة الغربية، من قبل المسلمين أعراضه وتداعياته على أرض الواقع.
ولو أخذنا بلاد مجلس التعاون الخليجي مثلاً، لما عزّ علينا أن نلاحظ التغيير الساحق في حياة المرأة في فترة قصيرة من الزمن، لقد صار عادياً أن يكون طموح الطالبات في المؤسسات التعليمية: "الوظيفة"، أي العمل خارج المنزل بالأجر تحت قوامة رئيس ذكر أو أنثى، وذلك بالرغم من ضعف الدافع الذي يدفع المرأة عادة للعمل خارج المنزل وهو الدافع الاقتصادي، وقد تضاءل بصورة عالية لدى الفتيات وأهلهن تفضيل الزواج أثناء مدة الدراسة التي قد تمتد إلى العشرينات من العمر أو تتجاوزها بل أنه يوشك أن يتمثّل ظاهرة عزوف الفتيات عن فكرة الزواج بالكلية.
أما الغلو في الاستخدام، بأن توكل إلى الخادمة تربية الأطفال وربما أعداد الواجبات بالإضافة إلى أعمال المنزل الأخرى، فهو أمر تظهره الإحصاءات.
وربما يكون من تداعيات حرمان المرأة السعودية أو الخليجية نفسها من ممارسة وظائفها الطبيعية والتقليدية في إدارة مملكتها "البيت" ما يلاحظ من زيادة الاضطرابات النفسية لدى المرأة مثل الاكتئاب والتوتر النفسي وما يتبع ذلك من آثار مرضيه على الجسم.
ج- المثال الثالث:
دأبت الولايات المتحدة الأمريكية على إصدار تقرير سنوي بعنوان الحرية الدينية في العالم، ويحاكم هذا التقرير دول العالم في حمايتها أو انتهاكها للحرية الدينية، وفي سلسلة هذا التقرير توضع المملكة العربية السعودية في خانة واحدة مع الصين في تعاملها مع الإيجور، وبورما في تعاملها مع شعب أراكان، وتوصف هذه الدول بأنها الأسوأ انتهاكاً للحرية الدينية، وتوصف المملكة العربية السعودية بأنه لا يوجد فيها حرية دينية مطلقاً.
وفي التقرير الصادر عام 2011م عن العام الذي سبقه 2010م، عنى التقرير في مهاجمة المملكة العربية السعودية بأنها تسمح بنشر الكتب التي تعبر عن أيدلوجيتها، وبنشاط الدعاة الذين ينشرون هذه الأيدلوجية خارج المملكة العربية السعودية، وفي التقرير نفسه تُهاجم المملكة بأنها لا تسمح لدعاة الديانات الأخرى من العمل في المملكة ولا بنشر الكتب المعبرة عن هذه الديانات.
ومع وجود التناقض الظاهر بين الأمرين في شأن الحرية الدينية في فكر الولايات المتحدة الأمريكية إلا أن كثيراً من المثقفين السعوديين، بينهم موظفون مؤثرون من إدارت حكومية سعودية مختلفة، يصادقون على صحة النقد الموجه لبلادهم فيما يتعلق بنشر مذهبها الديني، وأن الأمريكيين على حق في مطالبتهم للمملكة العربية السعودية بأن تحجم وسائل نشر هذا المذهب.
وفي الوقت نفسه يشعرون بالحرج عندما يُواجَهون (ودائماً يُواجَهون) باحتجاج الآخرين بأن هؤلاء الآخرين يسمحون للمسلمين بإقامة معابدهم ومراكزهم الإسلامية والدعوة لدينهم في بلادهم فكيف لا تسمح المملكة العربية السعودية لغير المسلمين بإنشاء معابدهم ومراكزهم الدعوية، وبوجود الدعاة للأديان الأخرى ونشر كتب الديانات الأخرى، ولا يجدون رداً لهذا الانتقاد إلا أن هذا "مقتضى قوانيننا"، ولنا مثل كل بلد الحق في اختيار قوانيننا، في حين أن الاحتجاج موجه أساساً ضد هذه القوانين، ولذا فإن المثقفين السعوديين في داخل نفوسهم يصادقون على صحة النقد الموجه لبلادهم، وأن الآخرين على حق في توجيهه.
إن الرق الثقافي المتجذر أثره في أفكار ومشاعر المثقفين المسلمين، ولا نستثنى السعوديين، هذا الأثر الظاهر في الثقة المبالغ فيها بتصورات الثقافية الغربية وضعف الثقة في تصور ثقافتهم الأصلية، هو العامل الرئيس لعمى هؤلاء المثقفين عن مقتضيات التفكير العقلاني وعن أدراك حقائق الواقع.
فمنذ ابتدأ سلطان المسلمين السياسي في الأرض، وعلى مرّ العصور وفي مختلف الأقطار لم تتغير سياسة المسلمين فيما يتعلق برعايتهم للحرية الدينية للآخرين الخاضعين بسلطانهم السياسي، في صور لا يوجد لها مثيل في الدول الحديثة سواء في أوروبا أو أمريكا.
لقد التزموا دائماً بعدم المساس بممارسة الآخرين لأديانهم وحموا معابدهم وأعطوهم الحق في أن يكون لهم قوانينهم الخاصة وقضاؤهم الخاص، وأنظمتهم الاجتماعية وتنشئة أولادهم على تقاليدهم وثقافتهم واستُثنوا من القانون الجنائي العام، بمعيار أن كل عمل لا ينافي الأخلاق في ثقافة الأقليات الدينية فلا يُعتبر فعله جريمة في حقهم، حتى لو كان يعتبر جريمة في حق المسلمين طبقاً للقانون الجنائي العام.
وكان المسلمون يرون أن هذه السياسة يقتضيها المنطق العقلاني والعدل، كانوا يرونها شيئاً طبيعياً لا يستحق عندهم الضوضاء حولها، أو التعالي بها، أو النظرة الدونية للآخرين، وفي الوقت نفسه استثنوا جزءاً صغيراً من أرض عالم السلطان السياسي الإسلامي المترامية الأطراف، اعتبروه مركز الإسلام وفق ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغرغر حينما قال: "لا يكون دينان في جزيرة العرب" وفَهِمَ الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم، كما نصت عليه كتب الفقه، أن المقصود بجزيرة العرب اصطلاحٌ يختلف عن الاصطلاح الجغرافي فلا يشمل اليمن الذي بقي فيه اليهود حتى وقتنا الحاضر، وهذه المنطقة من أرض الإسلام أعتبرت مركز الاسلام، وحُدّد بجزء من الجزيرة العربية يشمل: -باعتبار التقسيمات الإدارية السائدة في العصور الأولى- مكة وتوابعها الإدارية، والمدينة وتوابعها الإدارية، واليمامة وتوابعها الإدارية -أي تقريباً حدود المملكة العربية السعودية الجغرافية حالياً- ففي هذا الجزء المستثنى وردت النصوص من القرآن أو من الحديث الصحيح تمنع فيها الوجود الديني الدائم لغير الإسلام سواءً في حالة الفرد، أم المنشأة، أم التنظيم، وكانوا يرون أن هذا الاستثناء -وهو يُقرّر القاعدة ولا ينقضها- هو أيضاً مقتضى المنطق العقلاني والعدل.
وكل منصف يجب أن يوافق على صحة التصور، فليس من المنطق العقلاني ولا من العدل أن يسمح لوافد للبلاد بأن يُحقِّر الاسلام، أو نبيّه، أو رموزه وكتابه المقدس، في مركز الإسلام، وغنيٌ عن البيان أن غير المسلم يعتقد أن الدين الاسلامي: غير صحيح، وأنه دين زائف، وأن نبيه كاذب أو غير سوي من الناحية النفسية هناك جانب آخر أن كل دولة لها مرجعها الثقافي الأعلى الذي يحكم قوانينها وإجراءاتها وتصرفاتها ويسمي القانون الأساسي للحكم أو الدستور، المملكة مرجعها الثقافي الأعلى ليس "قانون حكم" بل هو "مرجع أعلى" وهو القرآن وحديث الرسول الصحيح.
ولا يتصور أن دولة في العالم تسمح بوجود أشخاص، أو مراكز ثقافية، أو منشآت، تُحقِّر قانون تلك الدولة الأساسي للحكم "الدستور" وتعلن في ممارساتها زيف الدستور، وقيمه وتشوهها، فهل من المنطق أو العدل أن تسمح المملكة في جانبها للغير بمثل ذلك.
ولكن المثقفين السعوديين عندما يواجهون بهذا الهجوم قلما ينتبهون لِمِثل هذه الحقائق، فيردون في دفاعهم الاعتذاري بحجج من السهل نقضها وردها، لأنها لا تُمثِّل الحقيقة، فجل ما يردون به التمثيل بالفاتيكان في حين يرد عليهم الأخرون بأنه لا نسبة بين الفاتيكان مساحةً وسكاناً وبين المملكة، أو يردون بأن هذا مقتضى "قوانيننا الخاصة" كما للآخرين قوانينهم الخاصه، في حين أن الهجوم من الغرب على هذه القوانين وليس على الإلتزام بها.
إن استعمال حجج ضعيفة هو أسوأ من عدم إيراد أي حجج مطلقاً، فوق أنه تشويه للحقائق على أرض الواقع.
الفصل الثاني:
هل من المستحيل أن نتحرر من هذا الرق الثقافي؟ قد لا يكون الأمر مستحيلاً عقلاً، ولكنه قد يكون مستحيلاً في العادة، والواقع أنه لا يمكن أن يتحرّر الرقيق إلا إذا اقتنع بأن حالة الرق غير طبيعية، وأنه يمكن تغييرها، ثم وجد العزم على التغيير، والتاريخ يُعلِّمنا قاعدة مطردة في كل صنوف الرق سواء كانت في شكل أقنان الأرض، أو الطوائف المنبوذة، أو رق الجسم كما كان في الولايات المتحدة الأمريكية حتى صدور قانون الحقوق المدنية في الستينات الميلادية (–19)، إن ما يرسخ الرق هو اعتقاد الرقيق بأن حالة الرق هي الصورة الطبيعية وأنه لا يمكن تغييرها، وإذا حدث الوعي لدى بعض الأفراد وحاولوا الخروج على هذه الأوضاع ففي العادة ينقصهم الرؤية الصحيحة والقيادة الكفأة.
ولكن إذا كان هذا الأمر صحيحاً بالنسبة للمجموع فإن الممكن بالنسبة للأفراد أن يكون الوضع مختلفاً حيث يعون بأن الوضع غير طبيعي وأنه لابد من تغييره، وفي حالة الرق الثقافي الذي نتحدث عنه يكون هذا الأمر ممكناً إذا ما وضع معيار دقيق توزن به التصورات ويحكم عليها وفقه، ويمكن أن نلخص هذا المعيار بأن يكون التصور موافقا للمنطق والعقل وأن تكون نتائجه: النفع للجماعة الإنسانية.
ولتطبيق هذا المعيار لابد أن نعترف أن كل تناقض في الفكرة والتصور -بأن يُحكم على تصورين متماثلين بحكمين مختلفين، أو أن يُحكم على تصورين مختلفين بحكمٍ واحد- لا يسمح بإدعاء إنسجامها مع المنطق والعقل، ولتطبيق هذا المعيار نُورِد بعض الأمثلة:
1- لو أن قاطع الطريق في الصحراء أو الغابة اعترض سيارة تحمل عائلة فقتل الركاب، لسُّمِّيَ مجرماً ولوصف بأنه متوحش وهمجي ولا إنساني، ومتخلف أخلاقياً، فإذا قصف جيش في ليلة واحدة مدينة مثل هيروشيما وقتل مائة ألف شخص من النساء والأطفال وغير المقاتلين -وبعد أن تقرر وعُرِف مسير الحرب- فوفق التصور الغربي لا أحد يحكم على الفاعل في هذه الحالة بأنه متوحش أو همجي، أو غير إنساني، أو متخلف أخلاقياً، مع أنه لا فرق في الحالتين في نوعية العمل إنما الفرق في حجم العمل.
2- أسوأ أنواع الوحشية وضع إنسان تحت أشد أنواع التعذيب لانتزاع اعتراف منه، عن نفسه أو على غيره، ومع ذلك لا نرى وصف الدولة التي تختطف الناس وترسلهم في شحنات بالطائرات إلى أسوء مراكز التعذيب في العالم، وتتضامن معها دول أخرى بالإمداد اللوجستي أو على الأقل تغض النظر، ومع ذلك لا نرى أحداً يصف الفاعل بأنه متوحش، وهمجي، وغير أخلاقي، ولا عقلاني، والفارق العجيب في مثل هذه الحالة أن الفاعل يوصف بالتقدم والتحضر والمدنية.
3- ربما لم يحقر الغرب الإسلام ولم يعبّهُ بمثل ما عاب المسلمين قبولهم لنوع من تعدد الزوجات، ووصفنا تعدد الزوجات في الإسلام بأنه "نوع من أنواع التعدد" لأنه قد لا يكون أي تعدد للزوجات في الماضي والحاضر مشابها لتعدد الزوجات في الإسلام، سواء من ناحية الوظيفة أو من ناحية القيود التي تحدده.
فهل النظرة الغربية تجاه تعدد الزوجات في الإسلام يفرضها المنطق والمحاكمة العقلية؟ لا يبدو الأمر كذلك، فهذه النظرة مؤسسة في الواقع على التراث الثقافي والتقاليد وعلى الذوق الاجتماعي.
المعروف أن التقاليد المسيحية -وهي جزء من التراث الثقافي الغربي- لا تشجع الزواج حتى بواحدة، إذ ترى أن ذلك يخفض من منزلة الإنسان الروحية، والدليل على أن النظرة الغربية مؤسسة على التقاليد الموروثة والعادة الاجتماعية السائدة أن الغرب لا ينظر إلى التعدد في زواج السحاقيات واللوطيين -المشروع عند عدد من الدول الغربية- بمثل هذه النظرة، كما يتسامح الغرب بأن يكون للرجل المتزوج خليلة أو خليلات يعاملهن تماماً معاملة الزوجة ولا سيما بوجود تشريعات تحمي حقوق الخليلة وحقوق الأولاد منها.
واضح أنه لا يوجد سبب للتفريق بين الأنواع الثلاثة المذكورة: الزواج التقليدي، والزواج المثلي، والعلاقة الزوجية مع الخليلات وسبب التفريق في الحقيقة هو فعل التراث الثقافي في تصور تعدد الزوجات، في حين أن النوعين الآخرين (زواج المثليين والعلاقة مع الخليلات) وجدت دون أن تكون محملة بالإيحاءات الثقافية الغربية التي يثيرها الزواج التقليدي.
وإذا كان الجزء الأول من المعيار الذي اخترناه لتقييم سلامة التصور أو الفكرة محايدا، بمعنى أنه بمجرده لا يرفض ولا ينفي هذا التصور، فما شأن الجزء الثاني من المعيار وهو مدى النفع أو الضرر للفرد والمجتمع في هذا التصور.
نلاحظ في البداية أن الإسلام حينما شرّع نوعا من تعدد الزوجات أوضح أن الغرض منه حماية اليتامى وإضفاء نوع من الرعاية لهم حين تتزوج أمهم، حيث تعوضهم عن الأب الذي فُقِد، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّتُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّتَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء من الآية:3].
ويظهر الواقع هذه الحكمة، ففي المجتمع الذي يوجد فيه التعدد يرتفع الطلب على النساء ويقل العرض، فيُصبح لكل امرأة فرصة أكبر في الزواج، حتى أم اليتامى، أما المجتمع الذي لا يقبل التعدد فمن الطبيعي -كما يظهره الواقع- أن يكون الطلب على النساء أقل وفرصة المرأة في الزواج أقل.
وللمرأة في الواقع اهتمام ومصلحة، وبالتالي لها حق يجب أن يوفى به المجتمع، يتلخص في: الحق في الأمومة، وفي علم النفس أثبت السلوكيون أن غريزة الأمومة أقوى من غريزة الجنس ومن غريزة الجوع، ولها الحق في الزواج حسب التصور الإسلامي، فالغاية التي وردت في القرآن للزواج أن يكون كل من الزوجين سكن للآخر وأن تكون بينهما مودة ورحمة.
ولها حق في أن يكون لها بيت يكون لها مملكتها الخاصة تمارس فيه وظائف الأنثى الطبيعية، وكل هذه الحقوق أهم من بعض الحقوق التي تضمنتها وثيقة حقوق الإنسان، معنى ما سبق أن تحديد فرصة المرأة في الزواج هو في الحقيقة انتهاك لحقوقها المذكورة.
من ناحية أخرى حين يكون الطلب على النساء أكثر فإن الشبح المرعب للمرأة -الطلاق- يتوارى أو يكاد، إذ تعرف أنها إذا فقدت زوجها فإن لها فرصة للزواج من آخر، وبذلك تكون في موقع هي فيه أقوى على المطالبة بحقوقها والدفاع عن ظلمها وهذا واضح من الواقع عند المقارنة بين النساء في غرب أفريقيا، حيث يسود التعدد، وبين النساء في القارة الهندية حيث أن الثقافة السائدة دافع لعدم التعدد، ففي القارة الهندية تحمل المرأة أعباء باهظة للحصول على الزوج، ثم أن خشيتها من شبح الطلاق يشلُّ قدرتها على الدفاع عن ظلمها أو المطالبة بحقوقها، وعلى خلاف ذلك كما يُشاهَد حال المرأة في غرب أفريقيا.
إن الحقيقة لا تدرك إلا بالنظر اليها من جميع جوانبها، إن البديل عن التعدد -كما شرعه الاسلام- هو الزنا أو البِغاء، ومعروف أثر هذه السيئة على الفرد والمجتمع، إن المتأمّل في الموضوع إذا هيء له أن يلتزم بحيادية النظرة وعدم الالتفات إلى الآراء المسبقة سوف يرى ليس فقط أن التعدد كما شرعه الاسلام نافع للمجتمع، بل أنه ضروري للمجتمع السليم.
المثقفون المسلمون عندما يُواجِهون هذا النقد يُواجِهونه بدفاع إعتذاري والدفاع الإعتذاري يعني الهزيمة بدون مُبرِّر، فالحق أن التعدد كما شرعه الإسلام ليس إجراءً استثنائياً تُوجبُه ضرورات عارضه وإنما هو في الحقيقة نظام صالح يسعد به المجتمع ولا يشقى، لا شك أن تعدد الزوجات له سلبيات في واقع الحياة التطبيقي، ولكن أي شيء في الدنيا خالص من السلبيات، الاتجاه الحكيم هو: الموازنة بين السلبيات والايجابيات واختيار الراجح.
الفصل الثالث:
ومن الأشياء التي تساعد المسلم على الحكم الصحيح على التصورات الثقافية الغربية، وما هو منها سليم وما هو غير سليم، المقارنة بينها وبين النظام الاسلامي بشرط المعرفة الكاملة بوضع النظامين والحياد الكامل في الحكم.
ويمكن تطبيق هذه الوسيلة على ثلاث قضايا هي الأكثر تأثيرا في حياة البشر في الوقت الحالي: القضية السياسية، والقضية الاقتصادية، والقضية الروحية.
أ- فيما يتعلق بالقضية السياسية، نلاحظ أن العلاقات الدولية بين الدول تبنى على أساس المصلحة القومية والقوة، هذا ما تنص عليه الكتب المدرسية ويتردد على ألسنة الناس، ولو دققنا النظر في هذا المبدأ لوجدنا ألاّ فرق بين هذا المبدأ والمبدأ الذي يوجه فعل قاطع الطريق، أو عصابات الإجرام المنظم، أو الحيوانات في الغابة، كما أشار إلى ذلك البروفيسور جوزيف فرانكن في كتابه المشهور "العلاقات الدولية".
إن المصالح بين الدول قلما تتوافق وكذلك القوة، لذا فإن الولايات المتحدة الأمريكية مثلا والتي يصفها الرئيس نكسون بأقوى دولة في التاريخ وأغنى دولة في التاريخ، في المائة سنة الماضية شنت حوالي مائة حرب على دول أخرى، أي بمعدل حرب كل عام. فإن كان هذا التصور لا ينفيه المنطق والعقل، لكن نتائجه الكارثيه على البشر تبين وتوضح عن عدم سلامته.
أما الاسلام فيجعل العلاقات الدولية مبنية على العدل المطلق، فالعدل المطلق "قيمه" لا تختلف في حالة القريب والبعيد والصديق والعدو والمسالم والمحارب، وقد يتهيأ للناس أن هذه نظرة طوباوية وغير عملية ولكن الواقع يدحض هذه النظرة لأن هذه القيمة وجدت فعلاً في تاريخ الاسلام، وبالرغم من أنها تطبق من جانب واحد إلا أنها لم تؤثر في قوة الفاتح المسلم بل كانت أكبرعونٍ له، إذ كانت أساساً لكسب القلوب والعقول قبل فتح الأرض.
ب- بالنسبة للقضية الاقتصادية فإن العالم الغربي لأكثر من مائتي سنة كان يتأرجح بين الجنوح إلى الاتجاه الجماعي أو إلى الاتجاه الفردي، وجرب العالم الاتجاه الجماعي مدة سبعين سنة انتهت بانهيار النظام، كما لو كان بيتا من ورق، ولم يكن للنظام الرأسمالي، الذي يأخذ بالاتجاه الفردي، حظا أكثر سعادة إذ ما فتئ الاقتصاد الجانح للاتجاه الفردي يدور في حلقات متكررة من الأزمات المالية بالإضافة إلى أنه لم يوفر السعادة للبشر، حيث أن المال يعمل في الغالب في مجالات يكون فيها المال دولة بين الاغنياء، ولا يمكن أن توصف بأنها (قيام للناس)، ولا تخفى آثار ذلك على حياة البشر.
أما الاسلام فقد هيئ له في الواقع فرصة للتوفيق بين الاتجاه الفردي والاتجاه الجماعي، حيث أوجد على سبيل المثال نظام الخراج الذي بموجبه تملكت الدولة حوالي 95% من أرض العالم الإسلامي المنتجة وفي الوقت نفسه حافظ على حافز الربح بإعطاءه الحرية للعامل في الأرض والمستثمر فيها بالتصرف فيها بحرية في حدود المبادئ الشرعية وأثبت هذا النظام نجاحاً مدهشاً كلما توفرت له الإدارة الصالحة وبهذا وفق بين توفير فرص النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، صحيح أن تطبيق ذلك تم في حالة سيادة الاقتصاد الزراعي، وقد لا تصلح هذه الصورة التطبيقية لكي تستنسخ وتطبق على الاقتصاد الحديث -الصناعي والخدمي- ولكن ذلك لا ينفي وجود إمكانية لدى الإسلام لتقديم حلول مشابهة تتلاءم مع الاقتصاد الحديث.
ج- فيما يتعلق بالقضية الروحية نلاحظ أن العالم غير الإسلامي يتأرجح بين اتجاهين: إما عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، أو الايمان بذلك إيماناً مؤسّساً على التقليد غير المسنود بأدلة تقنع العقل.
كل الأديان، ما عدا الاسلام، لا تستطيع أن تقدم صورة كاملة لمؤسس الدين بل ولا يوجد يقين بأن مؤسس الدين قد وجد أصلاً، لاشك أن مثل هذا الايمان له من التأثير الإيجابي على حياة كثير من الناس ولكن إختفاء المساندة العقلية لدى معتنقيه تُضعف بالتأكيد من آثاره.
الإسلام على العكس، يعرف فيه المسلم المثقف بعد أربعة عشر قرناً نبيّه بكل تفاصيل حياته العامة وتفاصيل حياته الخاصة، أي أن المثقف المسلم يعرف عن شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حياته العامة أكثر مما يعرف عن جاره، ويعرف عن حياة نبيّه الخاصة أكثر مما يعرف عن الحياة الخاصة لأبيه وأمه، ولهذا يكون باستطاعته أن يحكم على هذه الشخصية ويُقيمها ولا يخطئ في هذا التقييم.
ومن جانب آخر، فكل الأديان، بما فيها الإسلام، وجدت فيها انحرافات بلغت أحياناً من اتساع الزاوية ما هو غريب عن الدين الأصلي ومضاد له، ولا توجد لدى الأديان الأخرى النسخة الأصلية للدين التي جاء بها النبي، أما الإسلام فالنسخة الأصلية للدين الذي جاء به محمد لم تتغير ولم تتبدل وهو قابل للفهم والمقارنة بين هذه النسخة والنسخ التي إنحرفت عن الأصل.
ومن ناحية ثالثة؛ فإن الكتب المقدسة والتي في الغالب لا يعرف كاتبها تتضمن أفكار البشر وأوهامهم في فترات معينة، الأمر الذي ينافي أن تكون كلمة الله، أما القرآن فطوال القرون الأربعة عشر الماضية لم يكتشف فيه ما يخالف العقل، أو الواقع، أو الاكتشافات المعرفية الحديثة، وبما أن الإيمان الراسخ، والثابت لا يتغير، هو أساس السلوك الأخلاقي فلا يحتاج إلى أن نُنبِّه إلى آثار ضعفه وإنعدامه على التقدم الأخلاقي والتحضر الحقيقي.
وإذا كان القارئ يتفق معي على أن المعلومات السابقة صحيحة وأن الاستنتاج منها مقبول فهل يبقى لديه سبب للغلو في الثقة بالثقافة الغربية (الثقافة المعاصرة) وتقديرها بأكثر مما تستحق، على الأقل بالنسبة للتصورات المذكورة آنفاً، فإذا كان الجواب بـ "لا" فهذا يعني أول خطوة في التحرُّر من الرق الذي تفرضه الثقافة الغربية على عقول المسلمين وقلوبهم.
إن الغلو وتجاوز الحد في الثقة في نظام مُعيّن أو تصور مُعيّن يرتب ولا شك ضعفاً في الثقة في النظام المقابل. مغزى ما سبق أنه بدون ثقة كاملة بالإسلام لا يمكن الوعي بإمكاناته، وإذا لم يمكن الوعي بإمكاناته فكيف يمكن الإفادة منها والإنتفاع بها، وإذا لم يمكن ذلك فكيف يمكن التحرُّر من الرق الثقافي في التصورات والتطبيقات.
وصلى الله على نبينا محمد.