الرد على الدكتور إبراهيم الناصر حول بحثه: موقف الشريعة الإسلامية من المصارف
صالح بن عبد الرحمن الحصين
كان الدكتور إبراهيم الناصر قد دفع البحث الذي كتبه بعنوان "موقف الشريعة الإسلامية من المصارف" إلى صالح الحصين، وطلب منه أنه يكتب ملاحظاته على البحث بكل صراحة وبدون مجاملة، فكتب له رسالة مطوّلة نقتطف منها ما يأتي مع ملاحظة أنا حافظنا على عبارات الأصل عدا حالات نادرة اقتضى حسن السياق تغيير اللفظ مع بقاء المعنى (مجلة البحوث الإسلامية – التحرير).
- التصنيفات: فقه المعاملات - الربا والفوائد -
(مجلة البحوث الإسلامية- العدد الثالث والعشرون- الإصدار: من ذو القعدة إلى صفر لسنة (1408هـ 1409هـ ) الصفحات [123–136])
كان الدكتور إبراهيم الناصر قد دفع البحث الذي كتبه بعنوان "موقف الشريعة الإسلامية من المصارف" إلى صالح الحصين، وطلب منه أنه يكتب ملاحظاته على البحث بكل صراحة وبدون مجاملة، فكتب له رسالة مطوّلة نقتطف منها ما يأتي مع ملاحظة أنا حافظنا على عبارات الأصل عدا حالات نادرة اقتضى حسن السياق تغيير اللفظ مع بقاء المعنى (مجلة البحوث الإسلامية – التحرير).
الملاحظة الأولى:
ليست مناقشة بل هي بالأحرى عتب، إذ كان الانطباع لدي عند قراءتي للبحث لأول وهلة أنه لم يكتب بجدية تتناسب مع موضوعه، بل أخشى أن يكون كتب بطريقة أقرب إلى العبث وعدم الاحتفال.
لا أقصد، وقد انتصبتم للاجتهاد في الإفتاء في مسألة ترونها جديدة وخطيرة. (ص 11) أنه كان يجب أن تطلعوا على النصوص الشرعية المتصلة بالموضوع وأن تعملوا القواعد الفقهية في الاستنباط منها، وأن تستخدموا المقاييس والموازين الشرعية للترجيح بين الأدلة، فأنتم معذورون في التقصير في هذا؛ لأنه ليس لديكم الإمكانيات اللازمة لذلك.
أقول لا أقصد هذا وإنما أقصد أنه كان يتوقع منكم وقد تصديتم للكتابة في مثل هذا الموضوع أن تتقيدوا بمنهج البحث العلمي تفكيراً وتعبيراً، الأمر الذي حُرِم منه هذا البحث كما يتضح من الملاحظة الثانية.
الملاحظة الثانية:
أدق وصف للبحث أنه خليط مُشوّش من اقتباسات أُخذت من كتابة سابقة، كانت أكثر جدية وقد حرّرت للهدف نفسه الذي رمى إليه البحث وهو التماس المخرج الفقهي لإباحة "الفائدة الربوية".
والإشكال جاء من أن الكتابة المشار إليها كانت عَرضاً لنظريات متباينة ومتعارضة فكل نظرية منها ذهبت مذهباً في التأسيس والتخريج، وكان من المستحيل أن يجيء باحث فيأخذ بها جميعاً في وقتٍ واحد، إنك لا تستطيع أن تصل إلى هدفٍ واحد بالسير في إتجاهين متعارضين.
إن الباحث لم ينتبه لهذا التناقض الذي وقع فيه البحث؛ لأنه في حُمّى الوصول إلى النتيجة التي قرّرها مسبقاً لم يُبالِ أن يصل إليها بمقدمات وهمية، أو يكون إيصالها للنتيجة وَهْمًا، لقد اكتفى بصورة الحجة لا حقيقتها، عناه أن يكون يورد الشبهة ولم يهتم بإيراد الدليل.
إن الكتابة المشار إليها التي اقتبس منها هي بحث "محل العقد" في كتاب (مصادر الحق) للأستاذ السنهوري، وبدون أن يشير لهذا المرجع نقل منه بالنص. وقد يكون الأمر في هذا قاصراً على عدم الالتزام الخُلقِي لو أحسن النقل ولم ينقل بعض الأفكار نقلاً خاطئًا، ولو استطاع الاستفادة من المعلومات التي تضمنها هذا المرجع، أو من طريقة البحث التي انتهجها، ولكن كل ذلك لم يحصل.
لقد اهتم الأستاذ السنهوري غفر الله له -كما اهتم الباحث- بالوصول إلى إباحة الفائدة، وعرض ثلاث نظريات في الموضوع، وجاء الباحث فاقتبس من كل هذه النظريات مع اختلافها في الأساس وتعارضها فلم يكن غريباً أن يؤدي هذا الخلط المُشوّش من الاقتباسات إلى وقوع البحث في التناقض، والبعد عن الطريقة العلمية.
لقد قرأتُ البحث عدة مرات بغرض مناقشته، ولكني انتهيتُ إلى أن من المستحيل أن تُناقَش مناقشةً علميةً بحثاً يبعد كل هذا البعد عن الطريقة العلمية، ولا يلتزم بقواعد المنطق القانوني، ورأيتُ أن السبيل الوحيد لمناقشة البحث، أن أرده أولاً إلى الأصول التي أخذ منها، وأن أعرضها بالصورة التي وردت بها في مرجعه ثم أناقشها، ويتضح هذا بالملاحظة الثالثة.
الملاحظة الثالثة:
عرض الأستاذ السنهوري في مصادر الحق ثلاث نظريات لإباحة الفائدة.
1- نظرية الدكتور معروف الدواليبي وهو موضوع محاضرة ألقاها في مؤتمر الفِقه الإسلامي المعقود في باريس عام 1951م، ويلخصها الأستاذ السنهوري بما يأتي:
الربا المحرّم إنما يكون في القروض التي يُقصَد بها إلى الاستهلاك لا إلى الإنتاج، ففي هذه المنطقة -منطقة الاستهلاك- يستغل المرابون حاجة المعوزين والفقراء ويرهقونهم بما يفرضون عليهم من ربا فاحش، أما اليوم وقد تطورت النظم الاقتصادية وانتشرت الشركات وأصبحت القروض أكثرها قروض إنتاج لا قروض استهلاك، فإن من الواجب النظر فيما يقتضيه هذا التطور في الحضارة من تطور في الأحكام، ويتضح ذلك بوجه خاص عندما تقترض الشركات الكبيرة والحكومات من الجماهير وصغار المدخرين، فإن الآية تنعكس والوضع ينقلب ويصبح المقترض وهو الشركات والحكومات هو الجانب القوي المستغل، ويصبح المقرض أي صغار المدخرين هو الجانب الضعيف الذي تجب له الحماية، فيجب إذن أن يكون لقروض الإنتاج حكمها في الفِقه الإسلامي، ويجب أن يتمشى هذا الحكم مع طبيعة هذه القروض، وهي طبيعة تغاير مغايرة تامة طبيعة قروض الاستهلاك، والحل الصحيح أن تباح قروض الإنتاج بقيود وفائدة معقولة، ويمكن تخريج هذا على فكرة الضرورة أو فكرة المصلحة أي تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، كما لو تدرع العدو بمسلم فيقتل المسلم للوصول للعدو.
2- نظرية الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله وهي كما تتلخص من المرجع المشار إليه آنفاً كما يأتي:
الربا المحرّم هو ربا الجاهلية وحده، فهو الربا الوارد في القرآن الكريم، وهو الربا الذي يؤدي إلى خراب المدين، أما ربا النسيئة وربا الفضل الواردان في الحديث الشريف فالنهي عنهما إنما جاء للذريعة إلى الربا المحرم القطعي وهو ربا الجاهلية، وهذه الذريعة مظنونة لا قطعية فالشيخ رشيد يرى أن بيع الأصناف الستة بمثلها مع التفاضل فضلاً عن تثمير الأموال في الشركات التجارية كل هذا لا يدخل في الربا المحرّم يقول: "وإنما يظهر من سبب النهي عن هذه البيوع أنه سد لذريعة الربا المحرّم القطعي، وهذه الذريعة مظنونة لا قطعية، ومن المنهيات في الحديث ما هو محرّم وما هو مكروه وما هو خلاف الأولى".
3- نظرية الأستاذ السنهوري غفر الله له وملخصها:
الأصل في الربا تحريم الربا في جميع صوره سواءً كان ربا الجاهلية أو ربا النسيئة أو ربا الفضل على أن هناك صورة من الربا هي أشنع هذه الصور صورة الربا الذي تعودته العرب في الجاهلية، فيأتي الدائن مدينه عند حلول أجل الدين ويقول: "إما أن تقضي وإما أن تربي". وهذا أشبه بما نُسمّيه اليوم.. الربح المركّب.. هذه الصورة من الربا في العصر الحاضر هي التي تقابل ربا الجاهلية، وهي محرّمة تحريماً قاطعاً لذاتها تحريم مقاصد لا تحريم وسائل.
أما الصور الأخرى من الربا، الفائدة البسيطة للقرض وربا النسيئة وربا الفضل فهي أيضاً محرّمة.
ولكن التحريم هنا تحريم وسائل لا مقاصد، بعض هذه الصور، وهي الخاصة بالأصناف الستة وبفائدة القرض وردت بنصوص صريحة في الأحاديث الشريفة وبعضها وهي الخاصة بالأصناف الأخرى.. كان من عمل الفقهاء، وهي تقوم على صناعة فقهية لا شك في سلامتها، وكلها وسائل لا مقاصد وقد حُرِّمت سداً للذرائع، ومن ثم يكون الأصل فيها التحريم وتجوز استثناءً إذا قامت الحاجة إليها، والحاجة هنا معناها مصلحة راجحة في صورة معينة من صور الربا تفوت إذا بقي التحريم على أصله عند ذلك تجوز هذه الصورة استثناء من أصل التحريم وتجوز بقدر الحاجة القائمة فإن ارتفعت الحاجة عاد التحريم.
وفي نظام اقتصادي رأسمالي كالنظام القائم في الوقت الحاضر في كثير من البلاد.. تدعو الحاجة العامة الشاملة إلى حصول العامل على رأس المال حتى يستغله بعمله وقد أصبحت شركات المضاربة وغيرها غير كافية للحصول على رأس المال اللازم.. القروض هي الوسيلة الأولى وكذلك السندات، والمقترض هنا هو الجانب القوي والمقرض هو الجانب الضعيف... فما دامت الحاجة قائمة للحصول على رؤوس الأموال من طريق القرض.. فإن فائدة رأس المال في الحدود المذكورة ونقصد بذلك:
أولاً: أنه لا يجوز بحال مهما كانت الحاجة قائمة أن تتقاضى فوائد على متجمد الفوائد، فهذا هو ربا الجاهلية الممقوت.
ثانياً: وحتى بالنسبة للفائدة البسيطة يجب أن يرسم لها واضع القانون حدوداً لا تتعداها من حيث سعرها، ومن حيث طريقة تقاضيها، ومن وجوه أخرى وذلك حتى نقدر الحاجة بقدرها.
وحتى بعد كل هذا فإن الحاجة إلى الفائدة لا تقوم كما قدمنا إلا في نظام رأسمالي كالنظام القائم فإذا تغير هذا النظام، ويبدو أنه في سبيله إلى التغيير... عند ذلك يُعاد النظر في تقدير الحاجة فقد لا تقوم الحاجة فيعود الربا إلى أصله من التحريم. انتهى.
بعد استعراض هذه النظريات لن أناقشها من ناحية الفِقه الشرعي، وإنما أترك لرجل من أعظم رجال القانون في العالم العربي، وهو الأستاذ السنهوري أن ينقض النظريتين الأوليين على أساس المنطق القانوني، وقبل ذلك ألفت النظر إلى الاختلاف الكامل بل إلى التعارض بين النظريات الثلاث في الأساس الذي بنت عليه الأمر الذي لا يسمح بالجمع بينها كما فعل الباحث.
عن النظرية الأولى نظرية الدكتور معروف الدواليبي يقول الأستاذ السنهوري في المرجع السابق المشار إليه: يؤخذ على هذا الرأي أمران:
1- يصعب كثيراً من الناحية العملية التمييز بين قروض الإنتاج وقروض الاستهلاك حتى تُباح الفائدة المعقولة في الأولى وتُحرّم إطلاقاً في الثانية، قد يكون واضحاً في بعض الحالات أن القروض قروض إنتاج كالقروض التي تعقدها الحكومات والشركات لكن... من القروض صوراً أكثرها وقوعاً وهي القروض التي يعقدها الأفراد مع المصارف، فهل هي قروض إنتاج تباح فيها الفائدة المعقولة أو هي قروض استهلاك لا تجوز فيها الفائدة أصلاً؟ وهل نستطيع هذا التمييز في كل حالة على حدة فنبيح هنا ونُحرِّم هناك؟ ظاهر أن هذا التمييز متعذر ولا بد إذن من أحد الأمرين إما أن تُباح الفائدة المعقولة في جميع القروض أو تُحرَّم في جميعها.
2- إذا فرضنا جدلاً أنه يمكن تمييز قروض الإنتاج فإن تخريج جواز الفائدة المعقولة في هذه القروض على فكرة الضرورة لا يستقيم؛ فالضرورة بالمعنى الشرعي ليست قائمة، وإنما هي الحاجة لا الضرورة، وينبغي التمييز بين الأمرين.
وعن نظرية الشيخ محمد رشيد رضا يقول السنهوري في المرجع ذاته:
غني عن البيان أن القول بأن ربا النسيئة وربا الفضل إنما نهي عنهما في الحديث الشريف نهي كراهة لا نهي تحريم لا يتفق مع ما أجمعت عليه المذاهب الفقهية، وقد اعترض الأستاذ زكي الدين بدوي بحق على هذا الرأي في مقاله المنشور في مجلة القانون والاقتصاد حيث قال: "إنه يتعذر التسليم بقوله بعدم دخول الأصناف الستة في الربا المحرّم؛ لأن بيع هذه الأصناف وإن كانت وسائل وذرائع إلى الربا إلا أنها وسائل وذرائع منصوصة، ودلالة الأحاديث عليها لا تختلف فيها الأفهام، أما قوله أن النهي عن بيع هذه الأصناف كان تورعاً؛ لإفادة أن بيعها خلاف الأولى أو للكراهة فقط لا للتحريم، فدعوى تتعارض مع ظواهر النصوص والمأثور عن الصحابة"، ويبدو أنه يجب الذهاب إلى مدى أبعد مما ذهب إليه الأستاذ زكي الدين، والقول بأن ربا النسيئة وربا الفضل لا يقتصران على الأصناف الستة المذكورة في الحديث الشريف بل يجاوزانها إلى ما عداهما إليه المذاهب الفقهية من الأصناف الأخرى، وهذا هو الذي انعقد عليه الإجماع، وإن كل ذلك ربا محرَّم لا مكروه فحسب، وننتهي الآن إلى مناقشة نظرية أستاذنا السنهوري فنقول:
إذا كان الأستاذ السنهوري معذوراً من جهة أنه حرّر نظريته والواقع المعاش في ذلك الوقت أنه لا يوجد تطبيق مصرفي عملي إلا محكوماً بأحد النظامين؛ النظام اللاربوي الشيوعي والنظام الربوي الرأسمالي؛ فإن الوضع الآن قد تغيّر وَوُجِدت تطبيقات عملية وتجارب معاشة لنظام مصرفي ليس ربوياً ولا شيوعياً هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فإن الحاجة حينما تعتبر مثل هذا الاعتبار في بعض الأحكام إنما يقصد بها الحاجة التي تفرض على الإنسان من الخارج ولا يستطيع دفعها، أما أن يكون في إمكان الإنسان دفع الحاجة، ثم لا ينشط لذلك فلا يجوز اعتبارها في هذه الحال وواضح بعد تغير الظروف ونجاح التطبيقات للنظام المصرفي غير الربوي أن في إمكان أي دولة إسلامية أن تُحوِّل نظامها المحلي -على الأقل- إلى نظام لا ربوي لو أرادت ذلك. وسيأتي لهذا زيادة بيان إن شاء الله.
ومن حيث بناء النظرية على التمييز بين صورة من صور الربا الجاهلية بالقول بأنها مقصودة في القرآن، والمحرمة تحريم مقاصد وربا النسيئة -ومنه ربا القرض- بالقول بأنه ليس من الربا المقصود في القرآن، ومحرّم تحريم وسائل فهو خطأ واضح كالشمس، وَوهمٌ زَلّ به عالم جليل نقصد به الشيخ رشيد رضا -وندعو الله أن يعفو عنه في جانب حسناته الجليلة والله أعلم بها- ولكن لا يجوز تقليده في زَلَّتِه، ولو لم ترد النصوص موضحة أن ربا الجاهلية لا يقتصر على تلك الصورة لوجب أن نستيقن ذلك من طبائع الأمور وحكم العقل.
كانت مكة وادياً غير ذي زرع فلم يكن اقتصاد قريش قائماً على الزراعة، وإنما كان قائماً على التجارة وكانت لهم رحلتا الشتاء والصيف، وكان منهم أصحاب الأموال (الممولون) وأصحاب العمل (المحتاجون للتمويل) وكان من الطبيعي أن يكون القرض الأداة الرئيسية للتمويل، ولا يعقل أن الممولين من قريش لم يعرفوا إلا القرض الحسن الذي لا يكون فيه ربا.
وعندما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم وضع ربا الجاهلية تحت قدميه الشريفتين لم يفهم أحد أبداً أنه وضع فقط صورة (إما أن تقضي أو تربي) وترك ربا القرض قائماً غير موضوع. وحين وضع ربا العباس، لم يكن الموضوع فقط ما كان على صورة "إما أن تقضي أو تربي" والنصوص تشهد لهذا.
فقد روى الطبري عن السدي في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: من الآية 278]، قال: "نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى أناس من ثقيف.. (الحديث ج6، [ص:33])". كما روى عن السدي في تفسيره قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة من الآية:279]، قال: "الذي أسلفتم وأسقط الربا" (ج1، [ص:27]). والسلف في اللغة هو القرض.
والعلماء عندما ذكروا صورة "إما أن تقضي وإما أن تربي" على أنها ربا الجاهلية كانوا يقصدون حصر ربا الجاهلية في هذه الصورة، يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: "ربا النسيئة هو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية ومَثّلَ بصورة (إما أن تقضي أو تربي)، وأفسد من فهم أن ربا الجاهلية قاصر على صورة (إما أن تقضي أو تربي) نسبة ذلك إلى ابن عباس رضي الله عنه، وأنه لم يكن يرى ربا في غير هذه الصورة، في حين أن هذا غير صحيح إنه إنما نقل عنه فقط الخلاف في ربا الفضل".
وها أنا أنقل من كتاب السنهوري نفسه: قال ابن رشد: "أجمع العلماء على أن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة لا يجوز إلا مِثلاً بمثل يداً بيد إلا ما روي عن ابن عباس ومن تبعه من المكيين أنهم أجازوا بيعه متفاضلاً ومنعوه نسيئة فقط، وإنما صار ابن عباس إلى ذلك؛ لما رواه عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا إلا في النسيئة» (رواه ابن ماجة والنسائي والدارمي وغيرهم). فأخذ ابن عباس بظاهر الحديث فلم يجعل الربا إلا في النسيئة".
بل إن بحث الدكتور إبراهيم الناصر نفسه وردت فيه هذه العبارات (ص 8): وقال الشافعي رحمه الله في كتاب اختلاف الحديث: "كان ابن عباس لا يرى في دينار بدينارين ولا في درهم بدرهمين يداً بيد بأساً، ويراه في النسيئة وكذلك عامة أصحابه".
الملاحظة الرابعة:
وردت في البحث هذه التقريرات الانفعالية في المقدمة: "لن تكون هناك قوة إسلامية بدون اقتصاد، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك، ولن تكون بنوك بلا فوائد، إن وظيفة الجهاز المصرفي في اقتصادها تُشبِه القلب بالنسبة لجسم الإنسان، يقوم البنك بتسيير النقود في عروق الحياة الاقتصادية لأي بلد لتعيش وتزدهر" (ص 1). وفي الخاتمة: "نستخلص ضرورة الترخيص بالقرض بفائدة، بذلك تتحقق أهداف الفائدة العامة خارج نطاق أي تحريم أو حظر قانوني في استخدام مدخرات المواطنين في تعزيز وتقوية الاقتصاد الوطني فالعائد سيصبح ثابتاً ومضموناً ومثمراً وذلك بسبب تنوع وتوسع المشروعات، والنتيجة تحقق القوة الاقتصادية التي بدونها لن تكون هناك قوة إسلامية" (ص 20).
أحقاً أن الدكتور إبراهيم يعيش معنا على هذه الأرض؟
في المدة الأخيرة العنوان الذي لا نفتقده يومياً في الصحافة والإذاعة الحديث عن دول العالم الثالث، ومن بينها مع الأسف عدد من البلدان الإسلامية، وتخبُطها في مشكلة الديون للدول والبنوك الأجنبية حيث تعاني العجز عن تسديد فوائد الديون لا عن أقساطها فحسب، لنترك هذه الصورة ولننتقل لصورة ثانية، لقد وجدت البنوك الربوية في العالم الإسلامي أو في جزء منه على الأقل منذ أكثر من مائة سنة، ولم تنجح البلدان الإسلامية في إقامة نظام يصلح أن يكون نِدّاً أو مثيلاً لنظام في البلدان المتقدمة إلا في النظام البنكي، ربما كانت الاختلافات يسيرة بين بنكٍ في الرياض أو في جدة وبنكٍ في جنيف أو لندن؛ ولكن هل تحققت النتيجة التي تنبأ بها الدكتور إبراهيم القوة الاقتصادية؟!
إن الهزائم التي يعاني العالم الإسلامي منها في المجال العسكري والسياسي ليست أكبر من الهزائم في المجال الاقتصادي، إن المصارف الربوية ونظام الفائدة لم يخلق للعالم الإسلامي إمكانيات تُمكِّنه من اجتياز حاجز التخلف، وإذا اعتبر معيار التخلف مدى العجز عن الانتفاع بالإمكانيات -لا أقصد فقط الإمكانيات المالية، بل ولا الإمكانيات الإيجابية، بل أقصد أيضاً الإمكانيات السلبية- فإن بلدان العالم الإسلامي مع الأسف -مُقِلاً ومُستَكثِراً- عاجزةً لا عن العمل بل عن عدم العمل إذ من المعروف، والمشاهد أن بلدان العالم الإسلامي تتخبط في مشاكل كان يمكن أن تحلها باتخاذ مواقف سلبية ولكنها مخذولة حتى عن ذلك، بالتأكيد أن نظام الفائدة لم يكسبها قوة اقتصادية، والبنوك (لم تُسيّر الدم في عروق حياتها الاقتصادية لتعيش وتزدهر).
ولكن ألا يمكن أن يكون الأمر على العكس من ذلك؟ لقد شرط الله لنصرِنا أن ننصره: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد من الآية:7]، ووضع لنا قانوناً أصدق من القوانين الرياضية: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا -أي: لم تذروا الربا- فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة من الآية:279]، ولو آمنا حق الإيمان بكلمات الله لكان لنا شأن آخر.
غير أن اليقين أضحى مريضاً مرضاً باطناً كثير الخفاء.
الملاحظة الخامسة:
إن النظريات التي سبقت الإشارة إليها في الملاحظة الثالثة قد وجدت بضغط من عوامل الواقع المعاش عند وجودها وذلك ما يلتمس به العذر لأصحابها في الخطأ، ولكن الظروف تغيّرت كثيراً، وتلك العوامل تجاوزها الزمن فما بال الدكتور إبراهيم يصر على أن يحارب تحت راية من أشباح الماضي، في الوقت الذي وجدت فيه تلك النظريات وأشباهها لم يكن يوجد على أرض الواقع مصرف واحد يقوم بمختلف الخدمات المصرفية دون أن يحتاج لاستخدام أداة الفائدة.
أما الآن فربما بلغ عدد المصارف اللاربوية خمسين أو يزيد إذا استثنينا الباكستان وإيران، وبحسب التقرير الذي أصدرته حكومة الباكستان في عام 1985م فقد تحوّلت جميع فروع المصارف البالغة سبعة آلاف فرع إلى النظام المصرفي اللاربوي، وقد اهتمت بهذه الظاهرة دراسات وبحوث كثيرة للخبراء الاقتصاديين والماليين الغربيين لعله يكون مفيداً للدكتور إبراهيم أن نقتبس من أحد النماذج لهذه البحوث ففي عام 1981م نشر أنجو كارستن الأستاذ في مؤسسة السياسة الاقتصادية في جامعة كييل (ألمانيا الغربية) وكان حينذاك يعمل خبيراً في البنك الدولي نشر بحثاً عن الإسلام والوساطة المالية، نشرت ترجمته مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي (2/1)، وأورد هنا بعض ما ورد في المقال أو ملخصه.
عدد المقال مبررات وجود المصرف اللاربوي فلم يفته الإيضاح عن المبرِّر الاقتصادي، وهو المقولة الاقتصادية المسلمة أن (معدلات الفائدة تعوق الاستثمار والعمالة).
ثم تكلم عن مدى نجاح المصارف الإسلامية -ولم يكن بين يديه في ذلك الوقت إلا معلومات عن حوالي 20 مصرفاً- فقال: "تُشير البيانات المحدودة التي أُتيحت لنا إلى أن المصارف الإسلامية عملت بنجاح لا بأس به في العام الماضي 1980م، ففي الباكستان أعلنت المصارف التجارية عن حِصص الأرباح على حسابات الادخار القائمة على المشاركة، وعلى الودائع المؤجلة للنصف الأول من عام 1981م، وتم دفع معدل سنوي (9%) للأولى، بينما أغلت الثانية (11. 5 %) في حين كان عائد الحسابات الربوية المقابلة (9. 5 %) لستة أشهر سنة، وسجل البنك الإسلامي الأردني ربحاً كلياً بنسبة (8. 2 %) لحسابات الاستثمار لعام 1980م في حين أن المصارف التقليدية -أي الربوية- في الأردن دفعت عام 1980م معدلات ما بين (7. 5. 7) للحسابات المؤجلة لسنة، كما أن المودعين لدى بنك البحرين قبضوا عام 1980م معدلات أرباح 9 – 9. 5 % على حساب الودائع و (5. 5 %) على حسابات الادخار، بينما كانت معدلات الفائدة للفترة نفسها على المصارف البحرينية الربوية لثلاثة أشهر (7. 5 – 8 %) وعلى الودائع لمدة 6–15 شهراً (8. 5 – 9. 5 %).
ثم يقول: "إن المعلومات عن مستوى أداء المصارف الإسلامية قليلة في الواقع إلا أنها تشير إلى أن المصارف الإسلامية قادرة على مزاحمة المصارف التقليدية".
ثم يشير في بحث آثار النظام المصرفي الإسلامي على التنمية الاقتصادية والاستقرار إلى أنه: "لدى تحليل الانعكاسات الناشئة من تحويل أساس عمليات القطاع المصرفي إلى المشاركة في الربح والخسارة فإن من المنافع المحتملة للتوسع في عمليات المشاركة في ظل بعض الظروف تحصيل معدلات العائد الحقيقية اللاحقة من آثار التغيرات غير المتوقعة في معدل التضخم، وزيادة معدل المرونة الواقعي في الظروف التي تكون فيها العوائد الاسمية (لزجة)، وزيادة تدخل الوسطاء الماليين في الأداء المالي للمقترضين وجاذبية الوسائل المالية للمدخرين الذين يشعرون بزواجر دينية حيال الأصول التقليدية ذات الفائدة".
لقد تعمدت كثرة الاقتباس من الأستاذ كارستن وإن كان يتحدث عن مرحلة مبكرة من تاريخ المصارف الإسلامية، وهي مرحلة تجارب وخطوات أولى؛ لكي يقارن الدكتور إبراهيم بين طريقة تفكيره وطريقة تفكير الأستاذ كارستن، بين التفكير المستشرف للمستقبل لرجل غير مسلم، وطريقة تفكير مسلم يعيش أسير أفكار الماضي.
أرجو أن الدكتور إبراهيم يتابع بالقراءة والاطلاع الكتابات المستجدة في مجال القانون والاقتصاد، ومع ذلك فسوف أتطفل بأن أذكر له أن مجلة الإداري في عددها الصادر في كانون الثاني لعام 1987م. نشرت على صفحاتها (35–51) بيانات إحصائية عن أكبر مائة مصرف إسلامياً في إحدى دول مجلس التعاون حصل على المركز الأول بين البنوك المحلية في تلك الدولة في مردود الأسهم وَواردات الأصول، وفي مجال المصرف الأكثر فعالية أما عند مقارنته بكل بنوك المملكة فإنه يتقدمها في كل هذه المجالات بمراحل، ولعل مما يُثير دهشة الدكتور إبراهيم أن يعرف أن هذا المصرف مشهور بتشدده ومحافظته وحرصه على التقيد بالقيود التي يتسامح فيها غيره، وقد حقق هذا الإنجاز بدون استخدام أداة الفائدة.
الملاحظة السادسة:
قرأتُ مرةً في إحدى صحفنا أن مائة وستين ألف شخص تقدموا للمساهمة عندما طُرِحت أسهم أحد البنوك الربوية للاكتتاب العام في حين قدرت عدد المواطنين السعوديين الراغبين في الاستثمار والقادرين عليه والذين علموا عن طرح الأسهم في الاكتتاب ثم نسبت لهم عدد المتقدمين، فعلاً أصابني فزع شديد وخشيت أن يكون لذلك دلالة على مدى ما وصلت إليه منزلة الدين في مجتمعنا إلى درجة أن تستهل هذه النسبة الكبيرة من المواطنين اقتحام خطر الربا، وأن ينضموا بسهولة إلى الجانب الذي أذن الله بالحرب، غير أني رجعتُ إلى نفسي وقلتُ لعل من هؤلاء كثيراً لا يهون عليهم ارتكاب معصية أقل خطراً. وإذن ما تفسير هذه الظاهرة؟
وأجبت: لعل تفسيرها أن هؤلاء قد تقحموا الخطر تحت تأثير الاتجاه العام دون أن يكون لذلك دلالته على هوان أمر الإسلام في قلوبهم، ولو صح هذا التفسير فلا شك أن كثيراً من هؤلاء -والنذر والمواعظ تقرعهم كلما سمعوا خطبة أو قرأوا القرآن- يعانون من الصراع النفسي، ولذلك فإني أخشى أن يكون البحث مصدر فتنة لمثل هؤلاء، إن العوام -وأقصد بالعوام هنا غير المختصين في الفِقه أو القانون- لا سيما مع الرغبة الشديدة في التخلُّص من الصراع النفسي والميل الجارف لتطمين الضمير لن يكونوا في حالة ذهنية ونفسية قادرة على تقييم البحث، إنهم ليسوا في وضع يمكنهم من التمييز بين الحقائق والأوهام بين الحجج الصورية والحجج الصحيحة بين الشبه والأدلة، ولذلك فإن البحث سيؤدي دورا لم يقصده كاتبه فهو الإضلال بغير علم، وإني بصدق أخشى على الكاتب من مقتضى الآية الكريمة: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]، عافانا الله وإياكم، ولا أجد للأخ المكرم -والنصيحة له فرض- لا أجد له مخرجاً إلا بمحو هذه الآثار، فرحمة الله وسعت كل شيء وهي مكتوبة للمتقين.
الملاحظة السابعة:
أقدم الأخ المكرّم على أمر منكر حينما أقدم على التعرُّض لكلام الله بتفسيره بجهل، والصفحة الأولى والثانية أبلغ شاهد على ذلك، ولا أدري أين عزب فهمه عندما أقدم على تفسير: {لاَ يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة من الآية:275]، في صفحة (14) فجاء بتفسير كان ينبغي أن يُثير الضحك والسخرية لولا أنه يتعرّض لكلام الله، فحقه أن يُثير الغضب، هدى الله الأخ الكريم وأنقذه من وعيد «مَنْ قَالَ فِي القُرآنِ بِرأيِهِ، وبما لايعلم فَلْيَتَبوأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (رواه ابن جرير والترمذي والنسائي).
وقال الله تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف من الآية:33]، فقرن القول على الله بغير علم بالشرك به أعاذنا الله وإياكم.
الملاحظة الثامنة:
إن من العبث حقاً تتبع شبه البحث وحججه الوهمية، وتسويد الورق بمناقشتها واحدةً واحدة، ولكن إذا كان الأخ المكرّم الدكتور إبراهيم لا يزال جاهلاً أن ربا النسيئة من الأمور الغامضة ولا من الأمور التي ليس للاجتهاد فيها مجال، وأن إجماع الأمة على تحريمه تحريم مقاصد لا وسائل من الأمور غير الخفية، فضلاً عن النصوص القاطعة الثبوت القاطعة الدلالة فلعله يفيده أن يعرف -وهو حديث عهدٍ بالعمل في مؤسسة النقد- أن الجهاز الذي يعمل فيه كان حريصاً على المصلحة العامة وازدهار الاقتصاد ومدركاً لأسباب رقيه، ومع ذلك فبجهد المحافظ السابق للمؤسسة ومساندة ومتابعة المحافظ الحالي قامت المؤسسة بعمل دؤوب وجهد متواصل وبذل مشكور حتى أثمر ذلك مشروعاً متكاملاً لقيام مؤسسة مصرفية إسلامية لا تستخدم الفائدة، وقامت وزارة التجارة ثم مجلس الوزراء بدورهما المشكور في هذا السبيل والآن يوشك أن يخرج هذا المشروع إلى النور {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم من الآيتين:4-5].
لعل من المناسب أن يضاف إلى الملاحظة السابقة هذه الملاحظة:
أن نظام مؤسسة النقد العربي السعودي -وهي البنك المركزي للمملكة- ينص في المادة الثانية منه على أنه "لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي دفع أو قبض فائدة"، وينص في المادة السادسة منه على أنه "لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي مباشرة أي عمل يتعارض مع قواعد الشريعة الإسلامية السمحاء، فلا يجوز لها دفع أو قبض فائدة على الأعمال".
ومع صراحة هذه النصوص فإما أن يكون الدكتور إبراهيم الناصر لم يطلع على نظام المؤسسة وهذا هو الأحرى، وإن كان غريباً أن لا يطلع المستشار القانوني للمؤسسة على نظامها، أو يرى أن المؤسسة قائمة على قواعد تخالف المنطق السليم، وتخالف التفسير الصحيح للشريعة إذ يُقرّر نظامها أن دفع وقبض الفوائد يُعارِض الشريعة في حين يرى هو أن دفع وقبض الفوائد يوافق الشريعة، وأنه لا اقتصاد سليم بدون بنوك تبني عملياته على الإقراض والاقتراض بالفائدة.