الأوّليّة في الخير وفي الشر
إبراهيم بن محمد الحقيل
للأولية في الإسلام شأنٌ كبير، وللأوائل في الخير حظٌ عظيم، كما أن للأوائل في الشر إثم كثير. فليس إيمان أبي بكر رضي الله عنه -وهو أول من آمن من الرجال- كإيمان غيره، فلقد صدق حين كذب الناس، وآمن حين كفروا؛ ولذا جاء في الحديث أن إيمان أبي بكر يرجح بإيمان الأمة كلها.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
الحمد لله العليم الحكيم؛ وفّق من شاء من عباده لفعل الخيرات، واكتساب الحسنات، ومجانبة المحرمات، فنالوا سعادة الدارين، وفازوا بالحياتين، وضل عن طاعته أقوام فعلوا الموبقات، واجترحوا السيئات، فجمعوا بين ضنك الدنيا وعذاب الآخرة {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
نحمده على نعمة التوفيق والهداية، ونشكره على العطاء والرعاية، ونسأله الموافاة على الإيمان والسنة؛ فإن القلوب تتقلب، وإن القناعات تتغير، فيزول اليقين بالشك، ويمحى التصديق بالجحود، نعوذ بالله تعالى من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الانتكاس بعد الاستقامة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ آياته في الكون، وآثاره في الخلق، وأفعاله في العباد شواهد على ربوبيته وألوهيته، وقدرته وحكمته، وعلمه وتدبيره {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف:54].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ اصطفاه الله تعالى واجتباه، وبأُمَّتِه فتنه وأبلاه، فمنهم من آمن به فسعدوا، ومنهم من صدّ عنه فشقوا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، فسابقوا في الخيرات، ونافسوا على الطاعات، فإنها ميدان السبق الجِدِّي، ومحلّ الكسب الحقيقي، ومجال الفوز الأبدي {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:103-104].
أيها الناس:
للأولية في الإسلام شأنٌ كبير، وللأوائل في الخير حظٌ عظيم، كما أن للأوائل في الشر إثم كثير. فليس إيمان أبي بكر رضي الله عنه -وهو أول من آمن من الرجال- كإيمان غيره، فلقد صدق حين كذب الناس، وآمن حين كفروا؛ ولذا جاء في الحديث أن إيمان أبي بكر يرجح بإيمان الأمة كلها.
إن من قرأ القرآن يجد حضوراً ملحوظاً للأولية في الإيمان ولوازمه، واهتماماً بها، وحثاً على المنافسة فيها، والسعي لتحصيلها. والغالب أن من حقق الأولية في الإيمان والخير يكون أكثر رسوخاً في الإيمان، وتحصيناً من الزيغ والضلال، وتحقيقاً لليقين ممن كان من المتأخرين؛ ولذا فإنه يندر جداً وقوع الردة في أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وكانت حركة المرتدين فيمن تأخر إسلامهم إلى ما بعد الفتح، وبرهان ذلك جواب أبي سفيان لهرقل حين سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ: "فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟"، قُلْتُ: "لاَ"... وفي آخر الحديث قال هرقل: "وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟" فَزَعَمْتَ "أَنْ لاَ"، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ لاَ يَسْخَطُهُ أَحَدٌ" (رواه الشيخان)، وهذه المحاورة كانت بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة.
إن الأولية في الإيمان قد أعلنها كليم الرحمن سبحانه في أشرف حال، وأعلى مقام، حين خلع نعليه في الوادي المقدس، وكلمه الله تعالى بلا وساطة، فاشتاق لرؤية الله تعالى لما سمع كلامه فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]؛ فأعلن موسى أنه أول المؤمنين بالله تعالى مع أن النبيين من قبله وأتباعهم قد آمنوا قبله، ولكنه يعلن أنه أول المؤمنين الموجودين في وقته، ويعلن أنه مبادر إلى الإيمان، مستمسك به ولو كفر الناس كلهم أو ترددوا في الإيمان، فهو بيان منه عليه السلام بشدة إيمانه بالله تعالى.
ولما بارز موسى عليه السلام سحرة فرعون، فظهر لهم الحق وآمنوا مع موسى، وخروا لله سُجداً، هددهم فرعون بأشد العذاب، فأجابوه قائلين: {لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ . إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ المُؤْمِنِينَ} [الشعراء:50-51]، فعلّلوا طمعهم في مغفرة الله تعالى لهم بأنهم كانوا أول المؤمنين بالله بتصديق موسى عليه السلام، وفي هذا دلالة على رسوخ إيمانهم بالله ووعده. كما يدل على فضيلة السبق في الإيمان، ومقام الأولية فيه.
وسورة الأنعام هي سورة العقيدة التي دحرت الشرك وثبتت التوحيد بالأدلة النقلية والعقلية، حتى كادت أن تكون كلها في التوحيد، وفي موضعين منها في أول السورة وفي خاتمتها يؤمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن يعلن أنه أول المسلمين، مما يدل على أهمية الأولية في الإيمان وفضلها.
فأما الموضع الأول:
فقوله تعالى مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ} [الأنعام:14].
وأما الموضع الثاني:
فقوله تعالى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163]، وكرّر معنى ذلك في سورة الزمر {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ} [الزُّمر:11-12].
فالأولية في الإيمان تدل على رسوخه وتمكنه من القلب؛ لأن الداعي إليه في البدايات قليل، والصارف عنه كثير، والأذى الذي ينال صاحبه عظيم، ومن آثار سبق النبي عليه الصلاة والسلام إلى الإيمان قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«أَمَا وَاللهِ، إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَخْشَاكُمْ لَهُ» (رواه مسلم).
ومن آثارها أنه عليه الصلاة والسلام أحيا ما أماته اليهود من شريعة الله تعالى، فحين حرّفوا حدّ الزاني من الرجم إلى الجلد، وحاولوا إخفاء آية الرجم من التوراة، استحلف النبي عليه الصلاة والسلام أحد أحبارهم على ذلك، فأخبره أنهم يجدون حدّه الرجم ولكنهم عطلوه، فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» (رواه مسلم). وهذا يدل على عظيم إحياء شيءٍ من الشريعة أماته الناس، وأن من أحياه نال أجراً عظيماً لسبقه وأوليته في إحيائه.
واعتنى الصحابة رضي الله عنهم بالأولية في الخير وحفظها؛ فأول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي. وبلال بن رباح هو أول من أظهر إسلامه بمكة، وابن مسعود هو أول من جهر بالقرآن بمكة، فضربه المشركون حتى كادوا أن يقتلوه، والزبير هو أول من سَلَّ السيف في سبيل الله تعالى، وأسعد بن زُرارَة الخزرجي هو أول من بايع النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى، وأول من بايعه ليلة العقبة الثانية البراء بن مَعْرور الخزْرَجي، وحمزة عم الرسول هو أول من غزا في سبيل الله تعالى، وأوّل من عقدت له راية في الإسلام، ومصعب بن عمير هو أول من هاجر إلى المدينة، وسعد بن أبي وقاص هو أول من رمى بسهمٍ في سبيل الله تعالى، وسمية أم عمار هي أول شهيدة في الإسلام، وأم سلمة كانت هيَ وزوجها أوّل من هاجر إلى أرض الحبشة، وهي أوّل ظَعِينَة دخلت المدينة مهاجرة، وأول غزوة هي بدر وهي أفضلها، ومن حضرها غفر له، وأول من بارز فيها عبيدة بن الحارث وحمزة وعلي، وفي هذه المبارزة يقول علي رضي الله عنه "أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ" (رواه الشيخان).
فانظروا إلى امتداد فضيلة الأولية في الخير من الدنيا إلى الآخرة. وأسر المشركون خبيب بن عدي فلما أرادوا قتله قَالَ: "دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ،...فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ القَتْلِ هُوَ رضي الله عنه" (رواه البخاري).
وكل هؤلاء الأعلام من الصحابة رضي الله عنهم إنما عُرفوا واشتهروا بسبب أوليتهم في باب من أبواب الخير، حتى أحرزوا أجرهم، وسبقوا غيرهم.
ومن نتائج أولية النبي عليه الصلاة والسلام في الإيمان وإحياء شريعة الله تعالى أن أوّليات الكرامة يوم القيامة تكون له عليه الصلاة والسلام؛ كما قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» (رواه مسلم). وفي حديثٍ آخر قال عليه الصلاة والسلام: «فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ» (رواه البخاري).
وببركته عليه الصلاة والسلام، وبركة دعائه لأُمَّته، ولكثرة سبق أصحابه وأمته في أبواب الخير، وأوليتهم فيها كان لهم كرامات عند الله تعالى كما قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ» (رواه مسلم).
فلنعلم عباد الله فضل الأولية في الخير، ولنسابق عليها، وننافس فيها؛ لنحظى بأجرها وثوابها، وأجر من لحق بنا فيها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ . ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِنَ الآَخِرِينَ} [الواقعة:14].
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يُحبُّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].
أيها المسلمون:
إذا كانت الأولية في الخير سببا في السبق، وبلوغ درجة السابقين المقربين، فإن الأولية في الشر سبب لتكثير الذنب، ومضاعفة الإثم، وشدة العذاب، وحمل أوزار الأتباع {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]. وقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ» (رواه البخاري).
وعمرو بن عامر الخزاعي هو أول من غير دين الخليل عليه السلام بمكة، وجلب الأصنام إليها، فحمل وزر من تبعه في شركه، قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ» (رواه الشيخان).
وكان الصحابة يخافون الأولية في فتح أبواب من الفتن على الأمة؛ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "سَتَكُوْنُ أُمُوْرٌ وَفِتَنٌ لاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُوْنَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهَا". وقال أسامة بن زيد لمّا طلبوه يُكلِّم عثمان في أمور أنكروها: "إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لاَ أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ" (رواه البخاري).
فكم من الوزرِ يحمله من فتح باب فتنة على الناس؟! وكم من الإثم يحصله من ابتدأ منكراً، أو شرّعه للناس، أو دعاهم إليه، فتبعه الناس فيه.. كم من الأوزار يحملها أوّل من جلبوا القوانين الوضعية، وعطلوا الشريعة الربانية، وأوّل من فتحوا الخمارات في بلاد المسلمين، وأوّل من نشروا ثقافة البغاء والفواحش فيهم، وأوّل من وطنوا السفور والاختلاط والمسارح والمراقص والسينما في بلاد المسلمين، وأوّل من أقحموا المرأة في ميادين الرجال. وأوّل من فتحوا قنوات الفحش والفسوق.
وكل منكر جلب إلى بلد من بلدان المسلمين كان على أوّل من جلبه، وأوّل من أشاعه، وأوّل من سوّغه بالفتاوى المضللة آثامُ من تبعهم من غير أن ينقص من آثامهم شيء، فالأولية في الشرّ إثمها كبير، وضررها عظيم، كما أن الأولية في الخير أجرها عظيم، وثوابها كثير؛ كمن بنى مسجداً في بلد ليس فيه مساجد، ومن أقرأ القرآن فيها وليس فيها مقرئ، ومن علم العلم فيها وليس فيها معلم، ومن أحدث فيها دوراً لكفالة الأيتام والأرامل، وأنشأ فيها أوقافاً لنفع المسلمين، وجلب خيراً ليس عندهم.
والأصل في ذلك قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» (رواه مسلم).
بل حتى البقاع تتبارك بأوّليتها في كونها أماكن لعبادة الله تعالى، كما بارك الله البيت الحرام: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96]. وأوّل من يدخل المسجد للجمعة والجماعة ليس كمن دخله آخِراً، ومن كان في الصف الأوّل ليس كمن هو في الصفوف المتأخرة، ومن ابتدأ بالصدقة ليس كمن تبعوه... وهكذا دواليك.
وعلى الضد من ذلك أعمال الشرّ وأماكنه، قال سَلْمَانَ رضي الله عنه: "لَا تَكُونَنَّ إِنِ اسْتَطَعْتَ، أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا، فَإِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ" (رواه مسلم).
فاتقوا الله ربكم، وكونوا مفاتيح للخير، مغاليق للشرّ، وسابقوا على بلوغ درجة الأولية في الطاعات، واحذروا الأولية في المحرّمات.
وصلوا وسلموا على نبيكم..