أزمة النخب

خالد سعد النجار

إنها فعلًا أزمة النخب الذين يستغرقون أعمارهم في دنيا مؤثرة ويستنزفونها في شهرة معجبة، دون أن يقيموا وزنًا لشمولية الإنسان في الحياة كحرفي ماهر وعابد متضرع وتائب منيب وورع فقيه واجتماعي تواصلي له العديد من الحقوق وعليه الكثير من الواجبات.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - طلب العلم -

 

بسم الله الرحمن الرحيم

في باحة الوادي الفسيح حيث آلاف المصلين جلسوا يكبرون الله تعالى في يوم العيد منتظرين الصلاة وشاكرين الله عز وجل أن أتم عليهم نعمة الصيام، أقبل صاحبنا الطبيب اللامع في ثيابه الأنيقة كالعادة وبشرته البيضاء الصافية ليشهد معنا الصلاة. إننا نكاد لا نراه في الصلاة الجامعة إلا في هذا الموسم السنوي، حيث أقبل ممتعضا من ضجيج الأطفال وزحام الناس، وفرش سجادة الصلاة التي كان يحملها حيث أراد أن يجلس، وكأنه خائفًا من تلوث الميكروبات التي ربما تحملها بسط المساجد.

لكن صاحبنا آثر أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس، فأخذت أرمق صلاته، فوجدته لا يحسن الركوع ولا السجود، ولا تكاد تنتصب قامته بينهما إلا بالنذر اليسير، فتعجبت من كبره وجهله، وهو الذي ملأ الآفاق شهرة في طبه، والتبحر في علوم تخصصه. هل وجد صاحبنا الطبيب المرموق صعوبة -وهو القارئ النهم لمراجع الطب الضخمة- أن يطالع في وقت فراغه كتاب عن صفة الصلاة، أم أنه بالأحرى يفتقد لترتيب أولوياته في يومه بل وفي عمره، أم أنه لا يدرك أبعاد رسالته على الأرض التي خلقه الله لها؟!

 

إنها فعلًا أزمة النخب الذين يستغرقون أعمارهم في دنيا مؤثرة ويستنزفونها في شهرة معجبة، دون أن يقيموا وزنًا لشمولية الإنسان في الحياة كحرفي ماهر وعابد متضرع وتائب منيب وورع فقيه واجتماعي تواصلي له العديد من الحقوق وعليه الكثير من الواجبات.

طبيب قد خاض في بحور العلم ولا يحسن الصلاة، ومهندس نحرير لا يتحرى الحلال من الحرام، ومدرس شغوف بالمادة أكثر من شغفه برسالته، ومحام مولع بثغرات القانون أشد من ولعه بإنصاف المظلوم... إنها نماذج -وما أكثرها- عن نخب باهته، قد أعطت للجموع الغفيرة من حولها انطباعًا في غاية المرارة عندما رسخت في الأذهان أن العلم للدنيا وليس للقيمة التي أشاد الله بها في محكم كتبه، والعقلاء في مدحهم للعلم وأهله على مر الزمان.

إن العلم وجد ليعطي للإنسان قيمة ملائكية تزخر بالفضائل حتى يصير صاحبه شامة بين الناس ونبراسًا لأتباع الحق وقدوة للباحثين عن الوضاءة في حياتهم، وهذا هو الذي أعطى للعلماء رونقهم وبهائهم ووجاهتهم بين الناس في الدنيا والآخرة، وعندما يتحول العلم من قيمة إلى وسيلة للكسب الجزيل ولدر الربح الوفير فقط لا غير، حيث المنصب الرفيع والسلطة المرموقة.. عندها تكون الطامة الكبرى، والكارثة المحققة، لأن الوجاهة العلمية في الدنيا إن خلت من فضائلها صارت مرتعًا للجشع والابتزاز والانتهازية.

وكم سمعنا ورأينا أمثال هؤلاء ممن يطببون الناس ولا يعرفون للرحمة سبيلًا، ومن يعلمون الخلق ولكن علمهم لمن يدفع أكثر، ومن يوجهون سلطاتهم لمن ينتفعون من ورائهم.. سمعنا عن سرقة الأعضاء البشرية، وعدم احترام حقوق الملكية الفكرية، والفتاوى المأجورة.. وغيرها من تصرفات نخب لا ترقب في أنفسها ولا مجتمعها إلا ولا ذمة.

إن أمثال هؤلاء النخب المادية لا الربانية تترك في المجتمع جروحًا غائرة، وتبعث رسالة للناس في غاية السوء عن العلم وأهله، وينظر إليهم الجميع ليس على أنهم الصفوة والقدوة، ولكن على أنهم حرفيون شأنهم شأن أي حرفة أخرى، إلا أنهم يحترفون العلم لا أكثر ولا أقل.

هنا تغيب عن العلم قيمته الدفينة في تهذيب النفس، ويصير في مخيلة الخلق أنه وسيلة من وسائل الكسب ورغد العيش، وساعتها كبر على الأمة أربعاً، وعدها من أصحاب القبور.


فمتى يعود -مثلًا- للفريق الطبي شعار ملائكة الرحمة، ويسترد المعلم هيبته وشموخه وريادته التي أولاها له العلم، ونجد في النخب ضمائر حية تزامنًا مع مهارة مهنية.

متى يسترد العلم دوره في حياة النخب، ونرى منهم: اللمسة الحانية، والعطف على الضعيف، وإيثار شرف المهنة على ربحها، والتعالي عن سفاسف الأمور.

اللهم علمنا ما جهلنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعله قائدًا لنا لمرضاتك، ونعوذ بك من علم لا ينفع، ومن جهل يردينا إلى مهاوي الجحيم.

 
Editorial notes: [email protected]
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام