رستم قائد الفرس وقرار خوض معركة القادسية
راغب السرجاني
لما قرّر رستم قائد الفرس خوض المعركة أخذ يستعرض أمام جنده بفرسه الجديد، ثم قفز عليه دون أن يضع رجله في الركاب، وهذا أمر لا يفعله إلا فارس عظيم مثل رستم، ووقف على فرسه بمنتهى الخيلاء يستعرض جيشه، ثم قال: "غدًا ندقهم دقاً". فقال أحد الجند: إن شاء الله. فقال: "وإن لم يشأ!!" وقرّر أن يدخل المعركة وهو يُصرّعلى كفره وعناده...
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي -
لما قرّر رستم قائد الفرس خوض المعركة أخذ يستعرض أمام جنده بفرسه الجديد، ثم قفز عليه دون أن يضع رجله في الركاب، وهذا أمر لا يفعله إلا فارس عظيم مثل رستم، ووقف على فرسه بمنتهى الخيلاء يستعرض جيشه، ثم قال: "غدًا ندقهم دقاً". فقال أحد الجند: إن شاء الله. فقال: "وإن لم يشأ!!" وقرّر أن يدخل المعركة وهو يُصرّعلى كفره وعناده.
القادسية رستم يقرر خوض معركة:
بعد أن قرّر رستم خوض المعركة أحضروا له فرسًا جديدًا؛ لأن فرسه القديم كان قد غنمه منه طليحة، فأخذ يستعرض أمام جنده، فقفز عليه دون أن يضع رجله في الركاب، وهذا أمر لا يفعله إلا فارس عظيم مثل رستم، ووقف على فرسه بمنتهى الخيلاء يستعرض جيشه، ثم قال: "غدًا ندقهم دقًّا".
فقال أحد الجند: إن شاء الله.
فقال: "وإن لم يشأ!!" وقرّر أن يدخل المعركة وهو يُصِرُّ على كفره وعناده، فقد انتهت المفاوضات بين الطرفين، وباءت الدعوة بالفشل، وستحدث المعركة في اليوم الرابع، وأصبح المسلمون في حِلٍّ من وعدهم لأهل فارس.
وفي بداية اليوم يرسل رستم إلى المسلمين؛ فيقول لهم: "تعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟"
وكان الفرس في غرب نهر العتيق والمسلمون في شرقه؛ فقال له سعد بن أبي وقاص: "اعبروا إلينا".
فقال له:" خَلُّوا بيننا وبين القنطرة". أي اجعلوا زهرة يتحرك بعيدًا عن القنطرة لكي نعبر إليكم.
فقال له سعد: "والله لن نعطيكم شيئًا غلبناكم عليه. فهذه القنطرة قد استولينا عليها منكم، ولن نعطيها لكم أبدًا، فانظروا طريقة أخرى تعبرون بها".
فذهب جيش رستم إلى منطقة ضحلة من نهر العتيق، وظلوا يردمونها بالتراب والبوص والزروع طيلة الليل وسَاوَوْا عليها؛ ليتمكنوا من العبور عليها، وعُرِفَتْ هذه المنطقة بعد ذلك باسم منطقة الرَّدْم.
الفُرس يبتكرون سلاح الإشارة:
كان مما استحدثه الفرس لأول مرة في تاريخ الحروب سلاح الإشارة (اللاسلكي)، ونحن نعرف أن الاتصالات بين المسلمين وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة، أو بين الفرس وقائدهم يزدجرد في المدائن كانت تقوم على الخيول؛ فالرسول يركب فرسه ويجري به ومعه الرسالة المراد تبليغها لأمير المؤمنين أو لكسرى أو غيرهم، ثم يسلمه إياها ويأخذ الرَّدَّ عليه، ويرجع كما أتى؛ ولكن الابتكار الجديد عبارة عن رجل يقف في إيوان كسرى بجوار يزدجرد يسمع الكلام منه، فيصرخ به بأعلى صوته، والرجل الثاني يقف على أبعد مسافة يمكنه فيها أن يسمع الكلام، ثم يقف رجل آخر على مسافة منه يبلغ من بعده، وهكذا.
وكانت المسافة بين كل رجل وآخر نحو مائة متر تقريبًا، وفي الطريق من القادسية إلى المدائن يقف هؤلاء الرجال لتبليغ الرسائل، وعندما حسب العلماء هذه المسافة وهذا التوقيت وجدوا أن الجملة المكونة من أربع كلمات تصل من القادسية إلى المدائن -وهذه المسافة نحو مائتين وعشرين كيلو مترًا- في أربع ساعات، وعن طريق الخيول تصل في ثلاثة أيام؛ أما الجملة المكونة من كلمتين فتصل خلال ساعتين فقط، وكان عدد هؤلاء الرجال ألفين ومائتين، وهذه طريقة مفيدة، وتعتبر حديثة في هذا الوقت، ويعضدهم في ذلك أنهم يمتلكون طاقات بشرية هائلة، فلا توجد عندهم مشكلة -إذن- في أن يضعوا ألفين في الطريق؛ هذا فضلاً عن أن المسافات كانت قصيرة نسبيًّا: نحو مائتين وعشرين كيلو مترًا من القادسية إلى المدائن، أما المسافة بين القادسية والمدينة فبعيدةٌ جدًّا تُقَدَّر بنحو 580 كيلو مترًا، وهي مسافة ضخمة جدًّا، فليس من المعقول أن يضعوا على الطريق هذا العدد الضخم من الرجال؛ لأن جيش المسلمين كله نحو 32000 جنديٍّ.
ثم بدأ الجيش الفارسي يعبر القنطرة، وكانت أرض القادسية من ناحية خندق سابور إلى نهر العتيق ضيقة؛ فلا يستطيع رستم أن يُرتِّب جيوشه في مقدمة ومؤخرة وميمنة وميسرة كما كان، فأدخل مقدمته ومؤخرته بين الميسرة والميمنة، ففقد بذلك عامل المناورة، وعامل كثرة الجنود؛ وأصبح الجنود رغم كثرتهم صفًّا واحدًا؛ صفًّا وخلفه صف آخر وهكذا.
فعدد الصفوف ضخم لكن المساحة التي أمام المسلمين مساحة متقاربة، وعدد صفوف المسلمين قليل جدًّاً؛ فجعل على ميمنته الهرمزان، وكان عدد جيشه ثمانية وعشرين ألفًا، منهم أربعةَ عشرَ ألفًا من الفرسان، وأربعة عشر ألفًا من المشاة، ومعه سبعةُ أفيال؛ أما الجالينوس قائد المقدمة فقد أصبح على يساره مباشرة، ومعه أربعةٌ وعشرون ألفًا وستة أفيال، وبِهْمَن في عشرين ألفًا وخمسة أفيال، والبيرزان قائد المؤخرة فقد أصبح على يمين الميسرة ومعه أربعة وعشرون ألفًا وستة أفيال، ومهران قائد الميسرة على أربعة وعشرين ألفًا وستة أفيال، وقِوَامُ هذا الجيش 120 ألفًا، وقوات الاحتياط التي لا تشترك في المعركة ولكنها تنتظر نتائجها 120 ألفًا آخرون على الناحية الأخرى من نهر العتيق، وقد نصبوا لرستم شيئًا غريبًا سَمَّوه طيارة -وهي تشبه الخيمة ولكن ليس لها جدران، مجرد سقف كبير جدًّا، ووضعوا حولها البُسُط وكُلَّ شيء، وكأنه جالس في قصره- في قطاع بهمن في قلب الجيش وأقرب الأماكن للردم؛ وذلك لكي يتمكن من الهرب إلى المدائن إذا حدثت هزيمة، ونُصِبت على يمينها الدِّرَفْش كَبْيَان -راية الفرس العظمى-، وتحمي الطيارة ثلاثة من أفيال الملوك التي لا تشترك في القتال، ومهمتها حراسة خيمة الملك فقط.
وقد فعل المسلمون في تنظيم الجيش مثلما فعل الفرس؛ لأن المنطقة لا تسمح بوجود مقدمة ومؤخرة كذلك، فوضع على رأس الميمنة عبد الله بن المعتم، وعلى الميسرة شُرَحْبِيل بن السِّمْط، ودخلت المقدمة بقيادة زهرة وسواد في الوسط، ودخلت المؤخرة بقيادة عاصم بن عمرو التميمي في الوسط أيضًا بجوار الميمنة، ووقفت فرقة من المسلمين فيها نحو أربعة آلاف جندي على رأسهم مذعور بن عدي؛ لكي تحمي ظهر المسلمين من أي هجوم يأتيهم من خلفهم.
وفي حصن (قُدَيْس) الذي يقع على خندق سابور جلس سعد بن أبي وقاص؛ لكي يفكر كيف يدير المعركة، وقسمت الجيوش الإسلامية بحسب القبائل وهي نحو ثماني عشرة قبيلة، وكانت أكبر القبائل قيس عيلان وبكر بن وائل وتميم وأسد وبجيلة وكندة، وكانت كل واحدة منهم تتكوَّن من نحو ألفين ونصف إلى ثلاثة آلاف، وهذه أعداد قليلة جدًّا إذا قُورِنَتْ بأعداد الفرس الكثيرة والضخمة، ولكن الله سبحانه وتعالى مع هذه الطائفة يؤيدها وينصرها، ثم بدأ التجهيز للقتال.