وأنت العزيز يا رسول الله صلى الله عليه وسلم
رقية القضاة
«الآن نغزوهم ولا يغزوننا» بهذا القول أسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الستار على مشاهد غزوة الخندق، وهو يؤمّل أصحابه الصابرين المجاهدين لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى بالنصر، ويقرّر بحديثه الذي هو وحي يوحى، إن قريشاً لن تعاود الكرّة أبداً ولن تغزو مدينة الإسلام أبدا، بل إنّها البشارة بالفتح والتمكين....
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي -
« » بهذا القول أسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الستار على مشاهد غزوة الخندق، وهو يؤمّل أصحابه الصابرين المجاهدين لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى بالنصر، ويقرّر بحديثه الذي هو وحي يوحى، إن قريشاً لن تعاود الكرّة أبداً ولن تغزو مدينة الإسلام أبدا، بل إنّها البشارة بالفتح والتمكين، وأنّ الدولة التي أقامها نبي الله صلى الله عليه وسلم بدستورها الرباني الحكيم المنتصر، ستتحول من الدفاع إلى الفتح العادل الرّحيم ويبلغه خبر تجمّع بني المصطلق لحرب الإسلام ومدينته، فيحشد لهم ويلاقيهم على ماء المريسيع وتكون الغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين، وتدور أحداث المعركة وتنتهي ببني المصطلق أسرى لدى المسلمين.
ويشاء الله تعالى أن يكشف رؤوس النّفاق كما يكشفها في كل موطن لكي يظل النّفاق أبداً محلّ النبذ والرفض والاحتقار في كل قلب مؤمن خالص الإيمان، إذ يتلاحى غلامان على ماء المريسيع أحدهما مهاجر والآخر أنصاري ويستنجد كل منهما بقومه وعبد الله بن أبيّ يسمع ويرى، وينطلق لسانه بما في قلبه من النّفاق وكراهية محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: والله ما أعدّنا وجلابيب قريش هذه إلّا كما قال القائل سمّن كلبك يأكلك، أما والله: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل).
وفي القوم زيد بن أرقم غلام صغير، يسمع قول المنافق، فينطلق بالكلمة حتى أسرّ بها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشيطه الغضب، ويطلب من النبي أن يأمر بقتل رأس النّفاق ابن أبيّ، والرسول الحليم الحكيم الذي بعث بالهدى والرّحمة يجيب عمر قائلاً: «»، والمسلمون المحبّون لنبيّهم يعرفون أعماله وطباعه، ويدركون أن الرحيل في ساعة لم يرتحل فيها النبي قبل ذلك إنما يشير إلى أمر طارئ، ويدركها أسيد بن حضير ويسأل النبيّ قائلاً: يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة لم تكن تروح بمثلها؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: « ؟» قال أسيد: فأي صاحب يا رسول الله؟ قال: « »، قال: وما قال؟ قال: « »، قال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إذا شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز يا رسول الله، ارفق به يا رسول الله، فو الله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنّه ليرى أنّك قد استلبته ملكاً، فهو التاج إذن يا ابن أُبيّ، وهو الملك الذي ظننت أنّ محمداً أزاحك عنه فنافقت وهلكت، وما دريت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليه الملك والمال والنّعيم والخلد ولكنها لم تحرّك في قلبه نبضاً ولافي نفسه رغبة، بل الفردوس الأعلى من الجنة هو مطلبه الدائم، والشفاعة بأمته هي مبتغاه، ومع سريان الليل يسري الخبر، وتتناقل القلوب المؤمنة باستنكار مقولة زعيم المنافقين.
وتصل إلى ولده عبد الله بن عبد الله بن أبيّ مع مقولة تزعم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيضرب عنقه، ويستنكر الابن المؤمن كلمة أبيه المنافق، ويغضب لنبيّه الحبيب، فقد بلغ نفاق أبيه حدّاً عظيماً، ولكنّه والده وهو به برّ مشفق عطوف، ويسعى الابن المؤمن إلى نبيّه وقد هاله ما قاله بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "يا رسول الله بلغني أنّك تريد قتل عبد الله بن أُبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنتَ فاعلاً فمرّ لي به، فأنا احمل إليك رأسه، فو الله لقد علمتْ الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالده منّي، وإنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي انظر إلى قاتل عبد الله بن أُبي يمشي في النّاس فاقتله، فأقتل مؤمناً بكافر فادخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ».
وتصوّر لنا أوراق التاريخ المشرق لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوحة الوفاء والإيمان، والحبّ الخالص في قلوب الصحابة لنبيهم الحبيب، وافتداؤهم إيّاه بالمال والنفس والأحباب، فالركب المحمدي يصل أبواب المدينة، والابن المؤمن يقف لأبيه على باب المدينة، يمنعه من دخولها قائلاً: "قف فو الله لن تدخلها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك"، ويظل عبد الله بن أُبي واقفاً على باب المدينة وهو الأذل، حتى يأذن له المصطفى صلى الله عليه وسلم بالدّخول، فيعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعزّ.
فتلك بدور طيبة تنير للسالكين طريق الهدى، وتعلّم من ادّعى حبّ النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان أحبّ إلى أصحابه من نفوسهم ونفائسهم وأهليهم، اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.