التراكمات السلبية

من الطبيعي أن يمر الزوجين بلحظات اتفاق ولحظات اختلاف، وأن ما تتركه لحظات الاختلاف أو حتى الخصام من أثر يجب أن يجد له مخرجًا في لحظة عتاب أو موقف محاسبة أو سماح لكي تتخلص النفس من هذه الذكرى ومن آثارها على اعتبار أننا جميعًا بشر ومعرضون للخطأ، وبمعنى آخر هناك أزواج وزوجات يملكون آلية دائمة للتخلص من آثار الخلافات أو الخصومات حتى تظل نفوسهم غضة ونظيفة وقابلة لتلقي التراكمات الأجمل والأسعد.

  • التصنيفات: قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -


وربما لا نتحدث كثيرا عن التراكمات الإيجابية على أساس أنها الشيء البديهي المتوقع في العلاقات الزوجية السوية، ولكننا هنا سنركز على التراكمات السلبية نظرًا لخطورتها واحتياجها للتدخل الإصلاحي والعلاجى. والآن نحاول أن نفهم لماذا يحدث التراكم السلبي في العلاقة الزوجية، ولماذا يحتفظ أحد الأطراف بمشاعره المؤلمة لسنوات، وما الذي يمكن أن تحدثه هذه المشاعر في العلاقة بين الطرفين وفي الحالة النفسية والجسدية لهما أو لأحدهما؟


من الطبيعي أن يمر الزوجين بلحظات اتفاق ولحظات اختلاف، وأن ما تتركه لحظات الاختلاف أو حتى الخصام من أثر يجب أن يجد له مخرجًا في لحظة عتاب أو موقف محاسبة أو سماح لكي تتخلص النفس من هذه الذكرى ومن آثارها على اعتبار أننا جميعًا بشر ومعرضون للخطأ، وبمعنى آخر هناك أزواج وزوجات يملكون آلية دائمة للتخلص من آثار الخلافات أو الخصومات حتى تظل نفوسهم غضة ونظيفة وقابلة لتلقي التراكمات الأجمل والأسعد. وأيضًا هناك أزواج وزوجات لا يستطيعون التخلص من مشاعرهم السلبية تجاه الطرف الآخر وتظل هذه المشاعر تتراكم وتتحول من الإحباط إلى الغضب ومن الغضب إلى الحنق ومن الحنق إلى الرغبة في العدوان والانتقام، وفي النهاية قد نصل فعلا إلى العدوان والانتقام سواء كان لفظيًا (نقد مستمر، سخرية، شتائم) أو جسديًا (دفع، ضرب، قتل)، وفي ظروف معينة قد لا يستطيع الطرف المحبط والغاضب إخراج عدوانه فيكبته لشهور أو سنوات وتكون النتيجة اضطرابًا نفسيًا لدى هذا الطرف المحبط الغاضب المكبوت، ويكون الاضطراب في صورة أمراض نفسجسمية (ارتفاع في الضغط، أزمة قلبية، مرض السكري، الروماتويد، الصداع المزمن، القولون العصبي، الحكة الجلدية العصبية، الصدفية،...... إلخ) أو أمراض نفسية (قلق أو اكتئاب)، وعدم وجود آلية لإزالة التراكمات السلبية يجعل الحياة الزوجية أشبه بمدينة غاب عنها عمال النظافة وتعطلت فيها محطات الصرف الصحي، أو أشبه بسيارة انسدت فيها ماسورة العادم (الشكمان).

أسباب زيادة احتمالات التراكم السلبي:
وهناك ظروف وأحوال ترجح التراكم السلبي للمشاعر لدى أحد الأطراف أو كليهما نذكر منها:

1- ضعف القدرات والمهارات:
فقد وجد أن الأشخاص الأقل ذكاء والأقل ثقافة والأقل في المهارات الاجتماعية والأقل تدينًا والأقل ثقة بالنفس والأكثر فقرًا، والأشخاص الاعتماديين السلبيين، والأشخاص الأكثر احتياجًا للتقدير والتعاطف، كل هؤلاء يكونون أكثر عرضة لتراكم المشاعر السلبية في علاقاتهم الزوجية وحتى في علاقاتهم الاجتماعية، لأنهم يكونون في حاجة شديدة للآخر ولتقديره ولرضاه، وفي نفس الوقت ليست لديهم المهارات الكافية للحصول على ذلك فيقعون في دائرة الإحباط التي تؤدي بهم إلى الغضب، وحين لا يجدون منصرفًا للغضب (أو هم لا يملكون مهارات تصريف الغضب) فإنه يتحول إلى غضب مكتوم أو مخزون وهو ما نسميه (الحنق).

وهذا الحنق يمكن أن يتحول إلى رغبة في العدوان على الآخر أو إلى عدوان فعلي، وقد يكبت كما ذكرنا ويترك آثارًا نفسية وجسدية كثيرة. وبعبارة أخرى نقول بأن الطرف الضعيف أكثر قابلية لتراكم مشاعر الإحباط والقهر واليأس والغضب والعدوان من الطرف القوي المسيطر، ولذلك يكون انتقام هذا الطرف الأضعف مفاجئًا ومدويًا أحيانًا لأنه حصيلة تراكم سنوات طويلة تحت السطح حتى إذا وصل الضغط الداخلي إلى مرحلة حرجة خرج العدوان كالبركان أو الطوفان، ولهذا نحذر دائما في العلاقات الزوجية (وفي العلاقات الإنسانية عمومًا) من انتقام الضعيف نظرًا لما لديه من مخزون غضب وعدوان متراكم.

2- الاستبداد والطغيان:
ويزيد من احتمالات التراكم السلبي أن يكون الشريك الآخر مستبدًا طاغيًا قاهرًا كاتمًا لأي تعبير انفعالي من الطرف الآخر ومحاولًا إلغائه وقمعه تحت أي دعوى أو مسمى، وهنا يفقد الطرف المقهور أي فرصة للتعبير عن مشاعره ويضطر اضطرارًا إلى اختزانها.

3- فقد الخيارات:
وقد تلعب البيئة المحيطة دورًا مهمًا في زيادة التراكم السلبي حين يفقد الطرف المقهور والمكبوت خياراته ويجد نفسه في طريق مسدود، فمثلًا الزوجة التي يقهرها ويظلمها زوجها ولا تجد مخرجًا منه فليس لها مكان آخر تذهب إليه أو أنها مضطرة للاستمرار معه من أجل الأولاد، أو تخشى مواجهة الحياة كمطلقة، ويزيد الطين بلة حين يستغل الطرف القاهر الظالم هذا الوضع فيبالغ في ظلمه وإهانته لها.

4- فشل الاستيعاب المعرفي:
عدم قدرة أحد الأطراف أو كليهما على استيعاب الخبرات الحياتية المؤلمة في المنظومة المعرفية، وهذا يجعل كل مشكلة حياتية عادية تتحول لأزمة وتأخذ أكبر من حجمها وتستغرق أكثر من الوقت المتوقع لها، وتحدث آثارًا واسعة النطاق على الحياة الزوجية والحياة النفسية. ويدخل في ذلك ما نسميه بالتقدير المعرفي للأحداث، فنحن لا نتأثر بالحدث كحدث مجرد وإنما نتأثر به حسب تقديرنا المعرفي له، فهناك شخصان يواجهان نفس المشكلة ولكن يتأثر كل شخص منهما بحسب تقديره لحجم المشكلة وخطورتها.

5- ضعف القدرة على السماح:
وضعف هذه القدرة أو غيابها يجعل كل خطأ أو حدث مؤلم مضافًا إلى مخزون الأخطاء والأحداث المؤلمة السابقة دون وجود فرصة لتطهير النفس من هذه التراكمات.

6- الانفراد:
بمعنى أنه لا يوجد طرف ثالث بين الزوجين، وهنا ينفرد الطرف الأقوى بالطرف الضعيف فيذله ويهينه، ولا يجد الطرف الضعيف ملاذًا غير كتمان غضبه وعدوانه، والطرف الثالث هنا قد يكون الله (لدى الأزواج المتدينين) أو تكون الأسرة أو أحد الأصدقاء، أو... والطرف الثالث هنا يلطف من مشاعر العدوان ويضع قواعد للتعامل ويفصل في الخصومات ويفتح مسارات للغفران والتسامح.

آليات تخفيف التراكم:
1- العتاب:
وهو يكفي لبعض الناس خاصة حين يكون الخطأ بسيطًا ومحتملاً والطرفين على درجة معقولة من النضج.

2- التعبير عن المشاعر:
وذلك بأن تتاح الفرصة لكل طرف للتعبير عن مشاعره بشكل مقبول، وذلك لكي تصل الرسالة للطرف الآخر فيتوقف أو يعتذر أو يصحح أو يخفف.

3- وجود طرف ثالث:
يسمع الشكوى ويفصل بين الطرفين ويعطي كل ذي حق حقه. وقد يكون هذا الطرف الثالث من الناس المحيطين، أو اللجوء إلى الله بالدعاء وانتظار العدل والقصاص منه.

4- السماح:
وهو يعني أن تنسى الإساءة ولا تعاقب عليها ولا يبقى بداخلك غضب بسببها. وهو قدرة يمتلكها بعض الناس حيث يمكنهم نسيان الإساءات والتغاضي عنها واستمرار التعامل الإيجابي مع الطرف المسيء بناءً على اعتبارات إنسانية أو دينية تسهل نسيان الإساءات والقدرة على فتح صفحات جديدة في الحياة، وهو علاج للذاكرة المرضية (الرغبة في الانتقام) والتي تعني التثبيت على الحدث وعدم القدرة على تجاوزه، والدوران في دائرة مغلقة عقليا وانفعاليًا.

وهناك أشياء لازمة لزيادة القدرة على السماح نذكر منها:
- توقف الخبرات المؤلمة أو حدوثها على فترات بحيث تعطي فرصة لالتقاط الأنفاس واستعادة التوازن، واستعادة القدرة على التعامل مع العواقب والآثار، مع وجود شبكة للدعم والمساندة.
- تصور إيجابي للكون وللحياة، وتصور واقعي للإنسان على أنه مخلوق يصيب ويخطئ وهو في كل ذلك ليس شيطانًا ولا ملاكًا.

وهناك ظروف وأحوال يفشل فيها التسامح أو تقل احتمالاته نذكر منها:
- استمرار التهديد واستمرار الضغوط.
- زيادة الضغوط عن القدرة والاحتمال.
- غياب شبكة المساعدة.
- عدم القدرة على استيعاب الأحداث المؤلمة.

والتسامح مفيد للشخص ذاته إذ يطهر نفسه من مشاعر الحقد والغضب والانتقام ويحمي الجسم من ارتداد هذه المشاعر وإيذائها له، وهناك على المستوى الديني ما يعلي من قيمة التسامح ويشجع عليه كقوله تعالى في القرآن الكريم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].

أم عبد الرحمن محمد يوسف

المصدر: مفكرة الإسلام