كان الشيخ حفظه الله
كان حفظه الله يعقد دروسه في مسجده وكان قريباً من طلابه، وانتفع الناس بأشرطته، وقصده طلبة العلم، وأثنى عليه أكابر أهل العلم، ولكن ما إن خرج في الإعلام حتى تغيّرت حاله، فليس الشيخ كما عهدناه..
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
كان حفظه الله يعقد دروسه في مسجده وكان قريباً من طلابه، وانتفع الناس بأشرطته، وقصده طلبة العلم، وأثنى عليه أكابر أهل العلم، ولكن ما إن خرج في الإعلام حتى تغيّرت حاله، فليس الشيخ كما عهدناه..
شرع الشيخ أحسن الله إليه في تخفيف لحيته، وذلك تزامنًا مع التخفيف الفقهي الذي سلكه، إذ صار من دعاة التخفيف والترقيق والتسهيل والإمالة والإقلاب والإخفاء..
وبدت لحيته تتقاصر مع كل ظهور إعلامي، تزامنا مع تقاصر ورعه وخشيته، كما طال ثوبه بطول أعذاره وتأويلاته وتبريراته.
صارت فتاوى الشيخ إنسانية أكثر من كونها شرعية، حتى ظنناه عضواً في مفوضية العليا لشئون اللاجئين في الأمم المتحدة، وحسبناه عضواً مؤسساً لجمعية حقوق الإنسان الدولية، فصار ينادي بالتعايش السلمي، وينادي بتلاقح الحضارات، والتعددية، واحترام الآخر، والرضا بوجود ديانات أخرى واحترام ذلك؛ لأنه قدر الله الكوني، إلخ.
وصار الشيخ كما يقول يراعي جماهيره في العالم، بعد أن كان جمهوره في مسجد منزوٍ في حي المنفوحة، لا يتعدى (عم عطية) مؤذن المسجد، و(خوريشد) حارس المسجد، و(عم عبده) بائع المساويك، الذي إذا لم يجد زبوناً حضر له، فصرنا نسمع منه عبارات جديدة: الآخر بدلاً من الكافر، الأصدقاء من المسيحين بدلاً من النصارى، التقارب بدل الولاء والبراء، المقاومة بدلاً من الجهاد، الثوار بدلاً من المجاهدين، والديموقراطية بدلاً من الشورى والحكم بما أنزل الله، إلخ.
وصار الشيخ يظهر في مقابلات إعلانية مع المذيعات، بل صار يمزح معهن بدعوى تغليب المصالح، وصار يتساهل في الموسيقى بدعوى تحقيق المقاصد، وصار يخرج في برامج وقنوات مشبوهة مع مذيعين ومذيعات عرفوا بتوجهات وأفكار غير رشيدة ولا فاضلة.
وصار الشيخ يزور الحفلات والأندية والمهرجانات، ويدعى في افتتاحها، فيحضر بحجة أنه شخصية مجتمعية يؤثر غيابها على فعاليات البرامج، وربما أن غيابه يسبب حرجا وتساؤلات إعلامية.
وصار للشيخ أصدقاء ومعارف، بل لقاءات مع أهل الفن والغناء والتمثيل والرياضة، وصار بينهم تعاون وزيارات متبادلة.
تراجع الشيخ عن قوله بحرمة الغناء، ووجوب تغطية الوجه، والتشديد في الاختلاط، وحرمة التصوير، وإنكاره مخالطة أهل الفسق والمجون، وتحريمه التقارب مع الرافضة والنصارى، وتبديعه الاحتفال بالأعياد المحدثة والمستوردة، وأعاد النظر في مفهوم البدعة، إلخ.
وصار للشيخ معجبات وجمهور من الجنس الناعم، وصار يتواصل معهن، ويتحدث معهن بطلاقة ودون حرج، وفي مواضيع محرجة في هاتفه أو صفحته وذلك على الخاص والعام، في حين كان يتحرج عن أن يرد على استفتاء أم حديجان ذات السبعين عام، وربما أغلق السماعة إذا تناهى إلى سمعه صوت امرأة، واستعاذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وكان ينكر إذا سمع بعض المشايخ يفتي امرأة، وأحس بخضوع في صوتها، وكم انتهر امرأة تشتري سلعة وهي تكلم البائع بصوتها الطبيعي دون خضوع.
وصار الشيخ يتلكم بلغات المشاهير من أهل الفن والرياضة والغناء، فتسمع منه كلمات: جمهوري.. والمعجبين بي.. وصار يتكلم عن أكله المفضل، ولونه المحبب، ونوع سيارته وقائمة طعامه.. وصارت صوره تظهر وهو على جميع الأوضاع، تارة وهو يأكل، وتارة وهو نائم، وتارة وهو يسبح، إلخ، وصار المعجبون والناس تتصور معه أينما حل وارتحل، بل هناك من يطلب منه توقيعه.
كان الشيخ ينكر على من يدخل على السلطان، أو يلي ولاية له، أو يجالسه، وكان يتهم من يداخله وربما هجره ونال منه، فصار من بطانة الولاة، بل صار يثني عليهم ثناء مبالغا فيه، ويكثر من المديح متزلفاً ومتملقاً ومداهناً، يبرر الأخطاء ويغطيها بغطاء شرعي، ويبحث لها عن مخرج فقهي.
وصار الشيخ زاهداً في الدروس العلمية، ومقلاً في الدورات الشرعية، وشحيحاً بالمحاضرات الوعظية؛ لأنه أضحى من رواد دورات المهارات، ومن المدربين العالميين المعتمدين في تطوير الذات، وخبيراً في البرمجات العصيبة والنفسية، ومعتمداً في الاستشارات الأسرية، وصار الشيخ يطرح حلول اجتماعية ويتناسى الحلول الشرعية، فما عاد يوصي بكثرة الاستغفار والصدقة والدعاء والصبر، إلخ؛ لأنها ليست حلول عملية في نظره، بل صار يوصي بوضع حجر في الجيب حتى يتذكر، وبوضع ورقة في كل مكان في البيت حتى لا يفتر، وبالصراخ بأعلى صوت أمام الناس حتى يتغير، وبالمشي على الجمر والمسامير وباليوجا، إلخ.
تغيرت عناوين محاضراته ولقاءاته إذ كانت قوت القلوب، وبشر المخبتين، وهادم اللذات، الواعظ الصامت، إلخ، وأصبحت أطلق قواك الخفية، أيقظ العملاق، من ركل القط، القبعات الست، ولا بأس بالسروايل التسع، العادات السبع، دع القلق، إلخ، كنت تسمع في محاضراته عن الموت والآخرة والجنة والنار والتقوى والزهد والإحسان والإيثار، إلخ، وأما اليوم فعن ترشيد استهلاك المياه والكهرباء والتنمية والمواطنة والأنظمة المرورية وأسبوع الشجرة والتعليم عن بعد، إلخ، كنت تسمع في خطبه ابن عمر وابن مسعود والربيع بن خثيم وابن المبارك وابن حنبل والذهبي، إلخ، وأما اليوم فتسمع في خطبه ستيفن كوفي ونيتشه وجوته ديكارات وكانت ودانتي، إلخ.
كنا نجد الشيخ في مسجده أو في عمله أو في بيته، وكنا نصل إليه بسهولة، وكنا نسأله باتصال فيرد علينا، وأما اليوم فلا يمكن نراه إلا خلف شاشة تلفاز أو صفحة جريدة أو نسمعه عبر أثير مذياع، ومن أراد لقاءه ينتظر الليالي ذوات العدد حتى يظفر بموعد معه غير مؤكد بعد أربعة أشهر، وصار للشيخ مكاتب ومنسقون وأكثر من سكرتير، وربما اتخذ حارساً شخصياً يدفع عنه الناس، إلخ.
كان الشيخ يرد على العلمانيين والليبراليين والزنادقة والمنافقين، وكانت له مقالات في الدفاع عن أهل العلم والانتصار للفضيلة، والذب عن الشريعة، وكشف مخططات أعداء الدين، وبعدما ظهر الشيخ في الإعلام لم ينبس ببنت شفة، ولم نعد نسمع منه إلا عبارات الثناء والتمجيد لهؤلاء، بحجة كسبهم واستمالتهم، أو عدم استصناع الأعداء، وإيثار السلامة، والمحافظة على مكانته الإعلامية، والانشغال بما هو أنفع، وربما اعتذر لبعضهم وبرر لهم أخطاءهم، وربما دافع عنهم ورد على من يرد عليهم من أهل العلم والدعاة والمحتسبين.
كان الشيخ يؤازر أهل العلم والحسبة والجهاد والدعوة والإغاثة في كل مكان، بالمشاركة أو التأييد أو التعزيز، وأما اليوم فصار يتنصل من كثير من الأعمال الدعوية والاحتسابية، وصار يتبرأ من بعض الأشخاص، وينكر علاقته بهم بحجة أنهم يضعفون حضوره الإعلامي، ويؤثرون في مكانته الاجتماعية، وربما ينكر أو يتناسى ماضيه في الجهاد والدعوة والاحتساب، فإذا سأل في ذلك وثبتت منه بعض المواقف في السالف، اعتذر بعدم النضوج العلمي والفكري، وأنه طيش الشباب وعجلة الحداثة وغلبة الحماسة، وصار الشيخ يرفض التوقيع على البيانات، بل انسحب من كثير من المؤتمرات والندوات والجمعيات التي كان يحضرها، بل صار الشيخ يهاجم كثيراً من الدعاة وأهل الجهاد ويصفهم بالتشدد والتنطع والغلو والإرهاب، وصار يحملهم تبعات الهجمات الشرسة من القوى العالمية المتآمرة على المسلمين.
أخيراً: أليس هذا حال كثير ممن فتنه الإعلام فهوى به في قاع قرقر..
عبد الرحيم الجمعان