ماذا تعرف عن النصيرية؟ (2)
يختلف النصيريون عن المسلمين في العبادات، بل وفي كل شيء، وهذا طبيعي؛ إذ إن تعاليم الإسلام لا يمكن أن تتفق مع التعاليم الوثنية مهما أظهروها بالمظهر الإسلامي، مثل استعمالهم الأسماء الإسلامية، كما قد يتسمون بالأسماء المسيحية أيضاً؛ لكنهم لا يسمحون لأحد منهم أن يتسمى بأفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر، ولأن مذهبهم خليط من شتى الأفكار والديانات، فإن ما ورد في عقيدتهم وكتبهم من كلمات الصلاة والحج والزكاة والصيام لا يريدون بها المقصود منها في الشريعة الإسلامية، بل أولوها إلى معان أخرى باطنية.
- التصنيفات: الملل والنحل والفرق والمذاهب - مذاهب باطلة -
المبحث السابع: عبادات النصيرية:
يختلف النصيريون عن المسلمين في العبادات، بل وفي كل شيء، وهذا طبيعي؛ إذ إن تعاليم الإسلام لا يمكن أن تتفق مع التعاليم الوثنية مهما أظهروها بالمظهر الإسلامي، مثل استعمالهم الأسماء الإسلامية، كما قد يتسمون بالأسماء المسيحية أيضاً؛ لكنهم لا يسمحون لأحد منهم أن يتسمى بأفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر، ولأن مذهبهم خليط من شتى الأفكار والديانات، فإن ما ورد في عقيدتهم وكتبهم من كلمات الصلاة والحج والزكاة والصيام لا يريدون بها المقصود منها في الشريعة الإسلامية، بل أولوها إلى معان أخرى باطنية.
ويذكر بعض العلماء أن النصيريين يفرقون في التزام التكاليف بين المشايخ وبين الجهال فيرون أن جبرية التكاليف تسري على المشايخ وتسقط عن الجهال، ولعل في هذا الكلام نظراً فإن الشيوخ أو أصحاب العهد وهم يعرفون الباطن يكونون في حرية تسقط معها التكاليف كما هو المعروف عن المذهب الباطني عموماً، فهم يزعمون أن الشخص إذا عرف بواطن النصوص سقطت عنه ما تدل عليه ظواهرها من التكاليف، والحلال والحرام، نعم قد يكلف الشخص الداخل في المذهب بالقيام بالتكاليف لحثه على طلب العلم الذي يسقط عنه في النهاية جميع ما حظر على غيره ممن لم يصل إلى درجته على حد ما صرح به الهفت الشريف، حيث ذكر وهو يعدد الدرجات أن الاصطفاء درجة فوق درجة النبيين، وفوق هذه أيضاً درجة أعلى منها وهي درجة الحجاب، ثم قال المفضل الجعفي: "قلت يا مولاي هل علينا نحن معرفة هذه الدرجات" قال الصادق: "نعم، من عرف هذا الباطن فقد سقط عنه عمل الظاهر، وما دام لا يعرف هذه الدرجات ولا يبلغها بمعرفته، فإذا بلغها وعرفها منزلة منزلة، ودرجة درجة فهو حينئذ حر قد سقطت عنه العبودية، وخرج من حد المملوكية إلى حد الحرية باشتهائه ومعرفته"، قلت: "يا مولاي فهل ذلك في كتاب الله؟" قال: نعم، أما سمعت قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} [النجم: 42]، فإذا عرف الرجل ربه فقد انتهى للمطلوب، ولا شيء أبلغ إلى الله من الوحدانية والمعرفة، وإنما وضعت الأصفاد والأغلال على المقصرين، وأما من قد بلغ وعرف هذه الدرجات التي قرأتها لك فقد أعتقته من الرق، ورفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظاهر".
ثم تلا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93]، وقرأ مولاي: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} [النــور: 29]، قلت: "ما تعني هذه يا مولاي؟ قال: يعني رفعة في المعرفة وارتفاعاً في الدرجات".
وذكر الدكتور مصطفى الشكعة: "أن النصيريين يصلون في خمس أوقات، إلا أنها تختلف في الأداء وفي عدد الركعات عن بقية المذاهب الإسلامية، وصلاتهم لا سجود فيها، وفيها بعض الركوع أحياناً، ولا يصلون الجمعة ولا يعترفون بها كفرض، ولا يتطهرون قبل أداء صلواتهم، ولا يصلون في المساجد، بل يحاربون بناء المساجد ولا يرضون بإقامتها، بل يجتمعون في بيوت معلومة وأوقات معينة، ويسمون هذا الاجتماع عيداً يقوم الشيوخ بتلاوة بعض القصص والأخبار والمعجزات الخرافية لأئمتهم، ويختلط الحابل بالنابل في هذه الاجتماعات رجالاً ونساءً، ثم يقومون بأداء بعض الطقوس والصلوات المشابهة لقداسات وطقوس المسيحيين، ومن قداساتهم الكثيرة قداس الطيب لكل أخ وحبيب، وقداس البخور في روح ما يدور في محل الفرح والسرور، وقداس الأذان وبالله المستعان، وكل قداس له ذكر خاص به وأدعية يتوسلون فيها بالإله علي والخمسة الأيتام وكبار مشايخهم -الذين جعلوهم أرباباً من دون الله؛ كالخصيبي وغيره- أن تحل في ديارهم البركة وأن ينصروا على أعدائهم".
ومن أمثلة هذه القداسات: قداس الأذان وهو: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً، الحمد لله كثيراً وجهت وجهي إلى محمد المحمود طالباً سره المقصود، المتقرب بتجلي الصفات وعيني الذات، وفاطر الفطر ذو الجلال، والحسن ذو الكمال، اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم الخليل، هو الذي سماكم مسلمين حنيفاً مسلماً ولا أنا من المشركين -هكذا- ديني سلسل طاعة إلى القديم الأزل، أقر كما أقر السيد سلمان حين أذن المؤذن في أذنه وهو يقول: شهدت أن لا إله إلا هو العلي المعبود، ولا حجاب إلا السيد محمد المحمود، ولا باب إلا السيد سلمان الفارسي، ولا ملائكة إلا الملائكة الخمسة الأيتام الكرام، ولا رب إلا ربي شيخنا وهو شيخنا وسيدنا الحسين حمدان الخصيبي، سفينة النجاة وعين الحياة، حي على الصلاة حي على الفلاح تفلحوا يا مؤمنون، حي على خير العمل بعينه الأجل الله أكبر والله أكبر، قد قامت الصلاة على أربابها وثبتت الحجة على أصحابها، الله مولاي يا علي أسألك أن تقيمها وتديمها ما دامت السموات والأرض، وتجعل السيد محمد خاتمها، والسيد سلمان زكاتها، والمقداد يمينها، وأبا ذر شمالها، نحمد الله بحمد الحامدين، ونشكر الله بشكر الشاكرين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. أسألك اللهم مولاي بحق هذا قداس الأذان، وبحق متَّى وسمعان، والتواريخ والأعوام، بحق يوسف بن من كان، بحق الأحد عشر كوكباً الذين رآهم يوسف بالمنام تحل في دياركم البركة بالتمام، يا مولاي يا علي يا عظيم)، وهناك قداسات كثيرة كل قداس فيه مثل هذا الكلام السخيف.
ويقول في الهفت الشريف في بيان معنى الصلاة والزكاة: إن جعفر الصادق قال للمفضل: "أتدري ما معنى قوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ} [مريم: 55]، قلت: يعني أهله المؤمنين من شيعته الذين يخفون إيمانهم وهي الدرجة العالية والمعرفة والإقرار بالتوحيد وأنه العلي الأعلى، فأما معنى قوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 55]، فالصلاة أمير المؤمنين، والزكاة معرفته، وأما إقامة الصلاة فهي معرفتنا وإقامتنا".
والصيام عند النصيرية ليس هو عن الأكل والشرب وجميع المفطرات في نهار رمضان؛ بل هو الامتناع عن معاشرة النساء طوال شهر رمضان، والحج إلى بيت الله الحرام يعتبرونه كفراً وعبادة للأصنام، وقد ذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي أنه توجد خلاصة وافية لتعاليم النصيرية وعقائدها في كتيب صغير بعنوان (كتاب تعليم ديانة النصيرية)، وهو مخطوط في المكتبة الأهلية بباريس برقم 6182، وهو على طريقة السؤال والجواب، ويتألف من (101) سؤال وجواب، نذكر منها على سبيل المثال ما يأتي:
س: من الذي خلقنا؟
ج: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين.
س: من أين نعلم أن علياً إله؟
ج: مما قاله هو عن نفسه في خطبة البيان وهو واقف على المنبر إذ قال: (أنا سر الأسرار أنا شجرة الأنوار.. أنا الأول والآخر، أنا الباطن والظاهر..) إلى آخر كذبهم عليه.
س: ما أسماء مولانا أمير المؤمنين في مختلف اللغات؟
ج: سماه العرب باسم علي، وهو سمى نفسه أرسطوطاليس، وفي الإنجيل اسمه إيليا (إلياس)، ومعناه علي، والهنود يسمونه ابن كنكرة...إلى آخر ما ذكره.
س: لماذا نسمي مولانا باسم أمير النحل؟
ج: لأن المؤمنين الصادقين هم مثل النحل الذين يشتارون من أحسن الأزهار، ولهذا سمي أمير النحل.
س: ما أسماء النجباء في العالم الصغير الأرض؟
ج: يورد 25 اسماً أولها أبو أيوب، وآخرها عبد الله بن سبأ.
س: ما القرآن؟
ج: هو المبشر بظهور مولانا في صورة بشرية.
س: ما علامة إخواننا المؤمنين الصادقين؟
ج: ع. م. س.
س: ما دعاء النيروز؟
ج: تقديس الخمر في الكأس.
س: ما اسم الخمر المقدس الذي يشربه المؤمنون؟
ج: عبد النور.
س: لماذا؟
ج: لأن الله ظهر فيها.
س: لماذا يولي المؤمن وجهه في الصلاة قبل الشمس؟
ج: اعلم أن الشمس نور الأنوار.
إلى آخر 101 سؤال وجواب، ذكرها كلها عبد الحسين العسكري في كتابه (العلويون)، تشتمل في مجملها على تأليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، واعتقاد التناسخ والحلول، وتعظيم الخمر التي سموها عبد النور؛ لأن الله حل فيها، وتعظيم الأعياد النصرانية والمجوسية، وتقديس النجوم والاعتماد عليها، وعبادة الشمس، وفيها كذلك الحث على التزام السرية والكتمان لتعاليمهم الوثنية المجوسية.
المبحث الثامن: موقف النصيرية من الصحابة:
النصيرية شأنهم شأن غيرهم من أعداء الإسلام في عدائهم للإسلام وزعمائه، فلقد بالغ هؤلاء في بغض الصحابة رضوان الله عليهم، بل واعتقدوا أن من الصحابة من لم يكن مؤمناً حقيقة، بل كان يتظاهر بالإسلام ويبطن النفاق خشية من سطوة علي، ومن هؤلاء بافترائهم أبو سفيان وابنه معاوية رضي الله عنهما.
وقد خصوا الصحابي الجليل وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يليه عمر الفاروق رضي الله عنهما بالبغض الشديد، فلم يجيزوا حتى مجرد التسمية بأبي بكر وعمر، بل بلغ بهم السفه والحقد عليهما أن عمدوا إلى الحيوانات البريئة وتفننوا في تعذيبها؛ لأن روح أبا بكر وعمر وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم حلت فيهم عن طريق التناسخ.
ومن هنا فهم يأخذون بغلاً أو حماراً ليذيقوه سوء العذاب، لأنه تقمص روح أبي بكر أو عمر، كما أنهم يأخذون غنمة ويعذبونها كذلك تنكيلاً بأم المؤمنين عائشة وتنفيساً عن أحقادهم المجوسية، إلا أن المشكل هو كيف يقع اختيارهم على إحدى هذه البهائم بعينها للتنكيل بها، ولهم عليهم غضب الله أفعال وأقوال في ذم الصحابة وخصوصاً ما قالوه عن عمر رضي الله عنه الذي يرمزون إلى اسمه بـ(أدلم) يتنزه من له أدنى مسكة من عقل أو حياء من ذكرها، والسبب في بغضهم هؤلاء الأخيار من الصحابة واضح، وهو أن هؤلاء هم الذين أطفئوا نار المجوسية ونشروا راية الإسلام خفاقة بين جحافل المجوسية والوثنية، فكيف يرضى عنهم هؤلاء وهم قد وتروهم في ديانتهم وفي حكمهم واستعلائهم؟!
وعندما يأتون بقصة من قصصهم المختلقة حول هؤلاء الصحابة، يسمونهم بأسماء وألقاب بذيئة منها: ساكن لعنه الله، والشيطان، وأدلم. ومن القصص المختلقة والسخيفة التي يذكرونها ويستدلون بها على ألوهية علي قصة تقول: "إن أحد حكماء فارس جاء إلى المدينة وسأل عن أمير المؤمنين، فأتوا به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يكلمه ذلك الحكيم وخرج من عنده، وعندما سألوه لماذا لم يكلمه قال: هذا ظلمة بلا نور، هذا أصل كل ظلمة، ومضل كل أمة ومغير كل ملة فلا تركنوا إليه... ثم سأل عن أمير المؤمنين علي، فلما أتوا به إلى علي، جعل علي يكلمه بكلام غير معروف، فلما خرج من عنده سألوه عنه فقال: هذا أصل كل نور، ومدبر الأمور، والرب الكريم والعلي العظيم"، لذلك فهم يصبون غضبهم وحقدهم على عمر رضي الله عنه، وكتبهم مليئة بهذه السخافات الدنيئة، وعمر في رأيهم كان عدوا لعلي في جميع ظهوراته من قبل عن طريق التناسخ فهو مثلا قابيل عندما ظهر علي في صورة هابيل.
ويبررون زواج عمر من أم كلثوم بنت علي على أن هذا توهم من عمر -كما يزعمون- لأنه في الحقيقة قد تزوج بابنته جريرة التي أوهمه علي أنها أم كلثوم، فلما دخل بها عمر أعلمه سلمان بذلك، فخاف أن يفضح أمره فلم يخبر أحداً! وبسبب هذا الحقد ضد عمر، فإنهم يحتفلون بعيد مقتله ويسمونه (يوم مقتل دلام لعنه الله)، وهو اليوم التاسع من ربيع الأول من كل سنة.
لذا فالجهاد عند النصيرية هو ذكر الشتائم على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة. وكذلك على الفقهاء والعلماء أمثال أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك، لأنهم يأكلون من خيرات علي ولا يعبدونه فهم أنجاس لأنهم نصبوا أنفسهم لضلالة من اتبعهم فصدوا الناس عن آل البيت.
هذا هو مع الأسف موقفهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، موقف الحقد والضغينة الذي يدور في صدور أعداء الإسلام ضد هؤلاء، لأنهم رفعوا راية الإسلام خفاقة في كل أرجاء الأرض، وحطموا كل طواغيت الشرك والوثنية التي تختفي النصيرية وراءها.
- تقديرهم وحبهم لابن ملجم قاتل علي:
وفي المقابل فإن النصيرية تقدر وتحب عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضي الله عنه، وتعتبره أفضل الناس، لأنه خلص اللاهوت من الناسوت بقتله، وبذلك تخلص اللاهوت من ظلمة الجسد وكدره.
المبحث التاسع: تعظيمهم لسلمان الفارسي والأيتام الخمسة:
إن النصيرية لهم ثالوثا يؤمنون به وهو: (ع. م. س.)
فالعين: هو علي بن أبي طالب وهو المعني بالذات الإلهية.
والميم: هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو الاسم والحجاب والنبي الناطق.
أما السين: فهو سلمان الفارسي وهو الباب الذي خلقه -كما يزعمون- محمد صلى الله عليه وسلم، وبالتالي هو الذي خلق الأيتام الخمسة الذين بيدهم مقاليد السماوات والأرض.
ومما يذكر في هذا المقام أن سلمان فارسي الأصل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه يحتل مكانا عظيما وجليلا عند جميع طوائف الشيعة على اختلاف عقائدها وأسمائها، لأنهم يزعمون أنه من الصحابة القلائل الذين ناصروا وشايعوا عليا ووقفوا إلى جانبه في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام وكذلك في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وهذا الأمر واضح في كتب الشيعة جميعهم التي تأتي بقصص مختلقة ليس لها أي أساس تاريخي بطلها الحقيقي سلمان في موقف الدفاع عن علي بن أبي طالب ضد أعدائه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تصور هذه القصة.
أما الأيتام الخمسة الذين ورد ذكرهم فهم أيضا من الصحابة المعظمين عند كل الشيعة، وهؤلاء هم: (المقداد، وأبو ذر الغفاري، وعبد الله بن رواحة، وعثمان بن مظعون، وقنبر بن داكان)، وجميعهم من الصحابة ما عدا قنبر فإنه خادم علي بن أبي طالب.
وقد أخذت النصيرية عن الشيعة هذا التعظيم لهؤلاء ولكن بوجه آخر: وهو اعتبار سلمان والأيتام الخمسة هم الذين خلقوا العالم والموكلون بأموره، فسلمان في نظرهم هو النفس الكلية التي انبثقت من العقل -محمد صلى الله عليه وسلم- ويعتقدون أن سلمان أو النفس الكلية هي التي خلقت السماوات والأرض وخلقت كذلك الأيتام الخمسة والمقداد باعتباره أول الأيتام الخمسة فقد خلق الناس ولذلك فهو رب الناس -تعالى الله عما يقولون-.
وهذا الاعتقاد في الواقع دخيل من عدة مذاهب واعتقادات لذا يجب أن نربطه بصورة طبيعية بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة: التي تقوم على أن الموجودات فاضت عن الواحد ولها مراتب مختلفة أعلاها مرتبة العقول المفارقة، ونربطه كذلك بمذهب الصابئة الذي يقول: "أن للعالم صانعا فاطرا نتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه وهم الروحانيين المطهرون المقدسون لديهم وهم أيضا الأرباب والآلهة والشفعاء عند الله رب الأرباب ويوجهون المخلوقات".
وينبغي أيضا كما يقول المستشرق ماسينيون: "أن نقارن بين قائمة الأيتام عند النصيرية وقائمة الحدود الهندية أو العذارى الحكيمات لسليمان". فسلمان حسب زعمهم: خالق السماوات والأرض، وهو أيضا: "الباب الناطق والشبح اللاصق الذي لا يوصل إليه -أي إلى الله- إلا به ولا يدخل إليه -أي الله- إلا منه متصل غير منفصل"، ويزعمون أيضا أن: "محمد صلى الله عليه وسلم بمنزلة الأب لهذه الأمة، وسلمان بمنزلة الأم، والذي علم القرآن لمحمد هو المعنى أي علي، على لسان الباب وهو سلمان" بصفته جبرائيل.
المبحث العاشر: أعياد النصيرية:
للنصيرية أعياد كثيرة في أوقات كثيرة مثل عيد الغدير، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد عاشوراء، وعيد الغدير الثاني يوم المباهلة، وعيد النوروز، وعيد المهرجان، وعيد الصليب، وعيد الغطاس، وعيد السعف، وعيد العنصرة، وعيد القديسة بربارة، وعيد الميلاد إلى آخر، أعيادهم الكثيرة التي وافقوا فيها المسلمين والنصارى والوثنيين.
وعن احتفالاتهم بعيد النوروز يقول عبد الحسين العسكري: "احتفال النصيرية بعيد النوروز -وهو العيد الديني والقومي للفرس- يدل على الأثر الفارسي في النصيرية، ويشير إلى تمجيدهم للفرس بدعوى حلول الإله وشخصوه في ملوكهم، حتى إنهم جعلوا منهم ثالوثاً نظير ثالوثهم، وهم يدعون الإسلام، حيث زعموا أن ثلاثة منهم توارثوا الحكمة وتجلى الإله فيهم وهم شروين وكروين، وكسرى، ويقابلهم في الإسلام النصيري المعنى والاسم والباب؛ علي محمد سلمان (ع.م.س)".
أما أعيادهم فيمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام: إسلامية، وشيعية اثني عشرية، ونصرانية، وفارسية.
وهذا يبين أن النصيرية تتكون من عناصر غير متجانسة، وهياكل اعتقادية مختلفة، استقت منها ومن غيرها عقائدها وتقاليدها فبينما نرى هذه الطائفة تحتفل بعيدي الفطر والأضحى، نراها تذهب بعيدا بعد ذلك وتحتفل بعيدي الميلاد والبربارة النصرانيين، وهم يعترفون بذلك، وبعض كتابهم يقسمون هذه الأعياد إلى قسمين: عربي وفارسي، وفي أحد مخطوطاتهم نرى مؤلفها يقسم هذه الأعياد إلى قسمين ويقول: أعيادنا العربية عشرة: منها يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة وهو اليوم الذي أظهر السيد محمد فيه معنوية مولانا أمير النحل منه السلام للخاص والعام فأقر من أقر وأنكر من أنكر، ومنها يوم الجمعة: وهو محمد الذي اجتمع له أهل الأديان من المسلمين بنبوته، وهو القائم منه السلام، ومنها يوم الفطر: وهو اليوم الذي يؤذن فيه للمؤمنين بالنطق وإظهار أمر الله عز وجل، ومنها يوم الأضحى: وهو يوم خروج القايم منه السلام بالسيف وإهراقه الدماء..
ومنها يوم الأحد: وهو اليوم الذي أمر أمير المؤمنين منه الرحمة سلمان أن يدخل المسجد ويخطب الناس ويظهر الله الطاغوتين وأهل الردة وهو اليوم الذي قال له سلمان: سل أعطيك البيان، وأمنحك البرهان وأقامه للناس علما وقال للمؤمنين: سلمان شجرة وأنتم أعضاؤها، وكان ذلك يوم الأحد لليلتين خلت من ذي الحجة، ومنها اليوم الذي نصب السيد جعفر منه السلام (محمد الزيني)، وأقامه للناس علما وقال: (من كنت له ربا فمحمد وليه ومن كان عدوه فأنا عدوه) وكان ذلك يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، ومنها اليوم الذي أمر السيد محمد بن علي الرضا منه السلام لعمر بن الفرات مقامه فيكم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله فدعا عمر بن الفرات الشيعة بأمره كان ذلك يوم الخميس لست ليال خلون من ذي الحجة، ومنها اليوم الذي أمر الباقر بالبيان لجابر بالدعاء إلى الله جهرا فدعا فأخذ وترك السندان المحمي على يده حتى حالت جمرا ثم قتل وكان ذلك يوم السبت لتسع خلون من ذي الحجة، فهذه الأعياد العربية التي أمر الله العباد بمعرفتها..
وأما الأعياد الفارسية:
وهو النوروز: وهو اليوم الرابع من نيسان من كل سنة وله شرف عظيم وفضل كبير.
ويوم المهرجان: وهو اليوم السادس عشر من تشرين الأول في كل سنة.
ومن خواص الأعياد المفروح فيها، وهو اليوم التاسع من شهر ربيع الأول في كل سنة وهو مقتل دلام.
المبحث الحادي عشر: تكتم النصيرية على عقائدهم:
يعتبر النصيريون ديانتهم ومذهبهم سراً من الأسرار العميقة التي لا يجوز إفشاؤها لسواهم، وقرروا أن الذي يفشي شيئاً منها يكون جزاؤه القتل في أسوأ صورة له، لأنه أفشى سر العلي الأعلى، ومن أمثلة ذلك أن سليمان الأضني وهو من أبناء مشايخ النصيرية من ولاية أضنة تنصر بتأثير بعض المنصرين الأمريكيين وجاء إلى اللاذقية، وكتب كتاباً سماه (الباكورة السليمانية) وكشف فيها الكثير من أسرار العقيدة النصيرية، وطبع المنصرون الأمريكيون الكتاب في بيروت سنة 1863، وبعد أن قام باللاذقية مدة أخذ أقاربه يراسلونه ويحببون إليه العودة إليهم، مستعملين في ذلك كل وسائل التودد والمجاملة حتى آمن جانبهم وعاد إلى وطنه الأصلي، فكان جزاؤه أن أحرقوه حياً، ثم حاول النصيريون بكل جهد وعزم على احتواء الكتاب حتى اختفى تدريجياً، ولا توجد منه الآن نسخة واحدة.
وهكذا فإنهم يترصدون لكل من يذكر عنهم شيئاً أو يشير إلى عقائدهم الخبيثة التي تنضح شركاً ووثنية ولا يملكون من وسائل الدفاع والرد غير التصفية الجسدية، لعلمهم بأن مذهبهم عورات لا تحتمل النقاش وعرض الأدلة، فهي أقنعة واهية سرعان ما يظهر ما وراءها وينكشف، ومن هنا فإنهم ليسوا على استعداد لأي بحث ومناظرة.
وقد كتب محمد فريد وجدي خلاصة عن ما جاء في كتاب الباكورة السليمانية هي:
أن النصيرية علويون يعتقدون بألوهية الإمام علي، والشمالية منهم يقولون: إنه حالٌّ في القمر. والكلازية يذهبون إلى أنه حال في الشمس، ولهذا فهم يقدسون الشمس والقمر وسائر النجوم، ويعتقدون بتناسخ الأرواح، فالأرواح الصالحة عندهم تحل في النجوم، ولهذا يسمون علياً أمير النحل أي أمير النجوم، والأرواح الشريرة تحل في أجسام الحيوانات التي هي في نظرهم نجسة كالخنازير والقرود وبنات آوى..
أن كلمة السر عندهم ثلاثة أحرف وهي: ع. م. س، أي علي، محمد، سلمان.
أن للنصيرية كتاباً مقدساً يعتمدونه ويرجعون إليه وهو غير القرآن، ولا يحتل القرآن عندهم إلا مكاناً ثانوياً.
العقائد النصيرية غير متجانسة وثنية قديمة وإسلامية متطرفة، وحين تزعم النصيري (علي عيد) التنظيم النصيري في طرابلس فأشار إلى هذا صاحب مجلة الحوادث اللبنانية فقتل بمؤامرة هؤلاء، وأمثلة أخرى كثيرة تدل على أن هؤلاء ليسوا على يقين من صلاحية ديانتهم وصفائها، وأنهم يعلمون أنها قامت على شفا جرف هار مملوءة بالخداع والتضليل، وتبييت النية السيئة لغيرهم من البشر.
فإن من كانت نيته طيبة ومبادؤه سليمة لا يتخوف من أحد أن يطلع عليها، بل يفرح بكثرة المطلعين، كما هو الحال عند أهل السنة والجماعة الذين يتمنون لو أن أهل الأرض كلهم يدرسون مبادءهم ويطلعون عليها، بل إنهم بالعكس يشعرون دائماً بالمرارة من محاربة علماء السوء والزعماء الضلال لأفكارهم التي هي تبع لأوامر الله ونواهيه في كتابه الكريم، وسبب تلك العداوة من قبل أولئك الضلال المنتفعين أنهم يعلمون تماماً أن العقيدة الصحيحة حينما تصل إلى قلوب أتباعهم تحول فوراً بينهم وبين الخضوع والسجود لأولئك الطغاة. ومن هنا كانت السرية هي أهم ما يطلب به الداخل في ملّتهم.
وقد جاء في الهفت الشريف من الحث على لزوم الكتمان ما رواه المفضل الجعفي عن رجل انتهى من تكرار التناسخ أنه قال له: "وأوصيك يا أخي ونفسي بكتمان سر الله تعالى وباطني مكنونة إلا من إخوانك الموحدين المقربين بمعرفة العلي الأعلى، ثم غاب عني فقال الصادق: لقد أتاني في هذا الأسبوع ثلاث مرات فسلم علي وأنا فيكم ولا تعرفونهم". وقال الصادق للمفضل كما يرويه صاحب الهفت: "يا مفضل لقد أعطيت فضلاً كثيراً وتعلمت علماً باطناً فعليك بكتمان سر الله ولا تطلع عليه إلا ولياً مخلصاً، فإن فشيته إلى أعدائنا فقد أعنت على قتل نفسك".
ويسمى صاحب (الهفت) المسلمين كلهم بأنهم أنجاس ورعاع إلا من دخل في ضلالته وذلك في قوله: "وأن هذا العلم يا مفضل سر الله ومكنون خزائنه الذي لم يطلع عليه أحد من عباده إلا الأولياء المختصون، وواجب سبحانه وتعالى أن لا يتطلع (هكذا) على هذا العلم الرعاع الأنجاس ثم قرأ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26-27].
المبحث الثاني عشر: نظرتهم تجاه المرأة:
المرأة النصيرية -إلا من خرجت عن تعاليمهم- تعتبر من أجهل نساء العالم؛ إذ إن التعاليم النصيرية تقضي بعدم جواز اطلاع المرأة على أي سر من أسرار المذهب؛ لأنها في نظرهم ضعيفة العقل والإرادة، ولأنها أكثر شراً من الرجل وأكثر احتيالاً ومكراً، وهن سبب كل شر-كما صرح بذلك الهفت الشريف المقدس عندهم-، والجهل بمذاهبهم هو العلم وإنما أقصد أنها أكثر النساء أمية.
فالمرأة النصيرية إذاً لا دين لها، وفي كتابهم المذكور وصايا عديدة حول الاحتراس من المرأة، وذكر المساوئ الكثيرة التي تصدر عنها وأن الرجل قد يجازى أيضاً بالتناسخ بأن يتحول إلى صورة امرأة عقاباً له إذا كان في حياته السابقة غير مؤمن -أي غير نصيري-، أو كانت عليه ذنوب كثيرة في حق إخوانه النصيريين، أو لم يحترم المشايخ ويقدم لهم الهدايا وأنواع المأكولات.
وقد ذكر المفضل الجعفي عن الصادق -وهو من جملة أكاذيبهم عليه- أنه قال في وجوب الحفاظ على سرية المذهب: "كذلك الكافرون ينحطون من درجة الرجال حتى يصيرون عامة نساء كافرات"، قال المفضل: "يا مولاي روي عن أبيك أنه قال: النساء أشر من الرجال، وأكثر احتيالاً ومكراً، قال الصادق: يا مفضل إن أصل كل شر النساء، وحين أخرج أبونا آدم من الجنة كان بسبب حواء حين أغواه ضده على أكل الحبة، وكذلك قتل قابيل أخاه هابيل بسبب النساء، ألم تسمع كلام الله في كتابه الكريم عن امرأة نوح ولوط وكيف خانتاهما، وكذلك قتل يحيى بن زكريا بسبب امرأة باغية، وقد قال النبي وأبلغ في القول وأزجر في المعنى حين نظر في النار فرأى أكثر أهلها نساء. ثم قال الصادق: كيف لا يكون ذلك وهم عايلة وأقوى كيداً من الرجال، وقال منه السلام والشياطين مَنْ إلا امرأة، وأن الإنسان إذا ارتقى في كفره وعتوه وتمرد وتناهى في ذلك صار إبليساً وردّ في صورة امرأة، قلت: سبحان الله يا مولاي! ما علمت ذلك ولا ظننت أنه يبكيني. قال الصادق: ألم تقرأ في القرآن قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، وقال: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28]، إذ هم صور النساء، قلت صدق مولاي".
ومن هذه النظرة المتشائمة للنساء فإنه لا أمل في صلاحها ويجب إبعادها عن كل أمر مهم ومنه سر الديانة.
أما في الإسلام فلا أحد يجهل مكانة المرأة العالية؛ حيث جعلها راعية ومسئولة، وأن الله لا يضيع عمل عامل سواء كان ذكراً أو أنثى، وأن المرأة مكلفة بنفس التكاليف التي أمر بها الرجل، إلا ما استثنى لضرورة المرأة، وجعل لها حق التملك وطلب منها إخراج زكاة مالها ورغبها في الصدقة وفعل الخير، بل وجعل الجنة تحت أقدام الأمهات، وأوصى الله بطاعتها وقرنها بطاعته، إلى غير ذلك مما هو معروف في الإسلام مما ينبغي أن يطأطئ له دعاة تحرير المرأة رؤوسهم حياءً وإكباراً له، وإجلالاً لمبادئه التي يجهلونها تمام الجهل، ثم يتهجمون عليه بأنه ظلم المرأة حقوقها، وما لهؤلاء السفهاء للخوض في ما لم يحيطوا بعلمه فليقرءوه أولاً وليقرءوا كلام العقلاء من منصفي سائر الملل ليروا أنفسهم المتطاولة وصغرها أمامه.
أما المرأة فهي في نظرهم نوع من أنواع المسخ الذي يصيب غير المؤمن، فهي كالحيوان لأنها مجردة عن وجود النفس الناطقة، لذلك فهم يعتقدون أن نفوس النساء تموت بموت أجسادهن لعدم وجود أرواح خاصة بهن "لهذا السبب فهم يستبيحون الزنا بنساء بعضهم بعضا لأن المرأة لا يكمل إيمانها إلا بإباحة فرجها إلى أخيها المؤمن، وفي ذلك اشترطوا أن لا يباح ذلك للأجنبي ولا لمن هو ليس داخلا في دينهم".
وهذا يفسر لنا ظاهرة كون المرأة جزءا من الضيافة المقدمة عند الدخول في أسرار العبادة، وكذلك الإباحية المطلقة التي تظهر خلال أعيادهم الكثيرة كالنوروز والميلاد وغيرهما، حيث تدور كؤوس الخمرة ويختلط الحابل بالنابل من نساء ورجال، ولعل هذه الإباحية تعيدنا إلى الحشاشين تلامذة الحسن بن الصباح الذي كان يخدر تابعيه ويدخلهم إلى جنات ملأى بالنساء ليفرض عليهم ما يريد، وكذلك إلى القرامطة الذين كان لهم يوم يجتمعون فيه في مكان مظلم رجالا ونساء، فينكح الرجل أخته أو أمه أو أي امرأة تقع في يده.
المبحث الثالث عشر: تعظيمهم للخمر:
الخمر في نظر النصيريين مقدسة أيما تقديس، لأنها تقدم بسر النقباء والنجباء خلال دخول الجاهل في أسرار عقيدتهم لذلك يطلقون عليها اسم (عبد النور) باعتبار أن الخمر خلق من شجرة النور وهي (العنب)، والحقيقة أنه لا يمكن للباحث أن يفصل موضوع الخمر والمرأة عن موضوع دخول الجاهل في أسرار العقيدة النصيرية؛ لأن الخمر والمرأة أمران مهمان ومتلازمان يقدمان للشباب الداخل في أسرار الدين باعتبارهما جزءا من الضيافة للدخول في الفردوس.
وفي نظري أن تلقين أسرار النصيرية في جو الخمر والمرأة يوضح لنا عملية التخدير النفسي والجسدي والعقلي التي تقع على الشاب وهو يلقن أسرار دينه، فكؤوس الخمر تدار بين وقت وآخر فتلعب دورها في تخدير عقل الشباب وتأتي الأنثى لتكمل الدور الذي بدأته الخمرة، فيكون الشاب حينذاك في وضع لا يمكنه أن يرفض أي شيء من أسرار الدين وخاصة أنه أصبح في الفردوس المنشود (الخمر والمرأة).
والخمر -كما يزعمون- حللها الله لهم بصفتهم أولياء الله الذين آمنوا به وعرفوه بشخص (علي) وحرمه على الجاحدين لله المنكرين له -أي الذين لم يؤمنوا بعلي- فهي نوع من الأغلال والآصار وضعت عليهم لعدم إيمانهم بعلي، يروى عن الخصيبي: "أنه إذا حضر بين يديه (عبد النور) -أي الخمر- يأخذ القدح في يمينه وينهل منه ثلاث نهلات ويترنم عليه في هذا القداس المبارك ويقول: الحمد لله العلي وحده الذي أنجز وعده ونصر عبيده وأعز جنده وأهلك ضده وهزم الأحزاب وحده فلا إله مثله ولا إله بعده، مفزع الطالبين وغاية العارفين إله الأولين والآخرين له الدين الخالص وإنما تدعون من دونه الباطل، وإن الله هو العلي الكبير أمير المؤمنين الملك الحق المبين.. اللهم إن هذا عبدك عبد النور شخص النار حللته وكرمته وفضلته لأوليائك العارفين بك حلالا طلقا، وحرمته على أعدائك الجاحدين المنكرين لك، حراما نصا، اللهم مولاي كما حللته لنا ارزقنا به الأمن والأمان، والصحة من الأسقام، وانف عنا به الهم والأحزان، ثم يقرأ عدد من الآيات ويقول أخيرا: تذكروا بسر (العين) الله يرزقكم بركتها ورضاها".
المبحث الرابع عشر: المراتب والدرجات عند النصيرية:
العالم عند النصيرية ينقسم إلى قسمين:
العالم العلوي، والعالم السفلي، ولكل واحد منهما رتبه ودرجاته.
والعالم العلوي هو العالم النوراني الذي تعيش فيه الرتب النورانية التي تنتهي برتبة البابية، وتفيض بالنور على العالم السفلي، الذي لا يزال ينتقل في الصور البشرية، ولم يصل إلى مستوى الإيمان الكامل.
والعالمان العلوي والسفلي في نظرهم هم النصيريون عاقلهم وجاهلهم، فغير النصيري لا يكون في الصورة البشرية لأنه ممسوخ بالصور الأخرى، مثل صورة المرأة والحيوان والجماد.
أما درجات العالم العلوي، فهي للمؤمن، وتتكون من سبع درجات لا يرتقي الشخص من درجة إلى درجة إلا بمقدار علمه وعمله، فهي ترتبط ارتباطا مباشرا بالباب والأيتام الخمسة لأن من جملة هذه الرتب: (اليتيم والباب)، وأول درجة يرتقي إليها المؤمن من العالم السفلي إلى العلوي هي درجة الممتحن تليها درجة المخلص، فدرجة المختص، ثم النجيب، ثم النقيب، فاليتيم، وأخيرا الباب، وهذه الدرجات في نظرهم عقبات، فكلما تجاوز المؤمن درجة كأنه بذلك تجاوز عقبة من العقبات.
فإذا أصبح الشخص أو المؤمن في الرتبة السابعة وهي رتبة البابية، فعند ذلك يدخل المحل الأعلى، ويتخلص من هده الصور ليصبح نورانيا فيظهر له الاسم -أي الحجاب- فيعاينه ويشاهده ويطلعه على علم تكوينه، ويستدلون على تقسيم هذه الدرجات بقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى} [البقرة:260]، ويؤول الخصيبي هذه الآية بقوله: "أن الباب هو الذي قال: ليطمئن قلبي، وكان إرادته في ذلك استئذان مولاه أن يرتب أربعة يكونوا مع المقداد في الرتبة، قال له الله (وهو الاسم): {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260]، فالطيور الأربعة هم الأيتام، والجبال هم الخمس مراتب: النقباء، والمختصين، والمخلصين، والممتحنين، فتولى المقداد مرتبة النقباء، وتولى أبو الذر مرتبة النجباء، وتولى عبد الله مرتبة المختصين، وتولى عثمان مرتبة المخلصين، وتولى قنبر مرتبة الممتحنين، فالنقباء تمد النجباء بالنور، وهكذا تمد كل مرتبة الأخرى بالنور، أما المرتبة الأخيرة أي -الممتحنين- فإنها تمد مراتب العالم السفلي السبعة البشرية، فتمد المقربين، والمقربين تمد الكروبيين، والكروبيين تمد الروحانيين، والروحانيين تمد المقدسين، والمقدسين تمد السائحين، والسائحين تمد المستمعين، والمستمعين تمد اللاحقين".
والمراتب السبعة السفلية لا ترتفع إلى العالم العلوي ومراتبه السبع إلا بارتقاء الدرجات السابقة الذكر من درجات العالم السفلي، حتى تصل إلى درجة (الكروبيين)، وهي الدرجة التي يرفع فيها عن الشخص كرب البشرية لأنه عرف باريه واسمه وبابه، فيكون بذلك قريب من درجة المقربين التي تستمد نورها من العالم العلوي، والشعراء النصيريون أنشدوا هذه المراتب في قصائد، منهم المنتجب العاني الذي وصفهم بقوله:
فتلك الأبواب والأيتام تتبعهم *** وخلفهم نقباء سادة نجب
وإثرهم نجباء كلهم سلكوا *** نهج الهدى وإلى نيل العلا وثبوا
وبعد ذلك مختصون ترفعهم *** ومخلصون إلى مولاهم قربوا
فهذه سبعة علوية ظهرت *** دون الأوائل منها السبعة الشهب
وبعدهم سبعة سفلية نسبوا *** إلى التراب ما وارتهم الترب
والدرجة النهائية للمؤمن -كما مر- هي درجة الباب، وفيها يصبح المؤمن ملاكا، ويرفع عنه الأكل والشرب، ويستطيع أن يصعد للسماء وينزل للأرض مثلما يريد، وكيفما شاء! لأنه يتصور بالصورة التي يريدها، ولكن الدكتور مصطفى الشكعة ينقل عن كتاب (الباكورة السليمانية): "أن رتب المشيخة في الوقت الحالي ثلاثة هي: الإمام، ثم النقيب، وتليها رتبة النجيب، ولكل واحد من هؤلاء سلطانه وحدوده وحقوقه، ويضيف: أن هذه الرتب افتقدت في الوقت الحاضر المؤهلات، ولعل المؤهل الغالب هو قوة شخصية صاحب الرتبة بغض النظر عن تأهيله العلمي والديني، وهذا يؤكده لنا البيان الذي أصدره أحد مشايخ النصيرية بعد هزيمة حزيران عام 1967م، والذي فضح فيه بعض أعمالهم، ومنها إعطاء الرتب إلى بعض ضباط الجيش السوري النصيريين تعبيرا عن جهودهم في الخدمة الطائفية أمثال صلاح جديد، ومحمد عمران وغيرهم".
المبحث الخامس عشر: أماكن انتشار النصيرية:
موطن النصيرية الآن في سوريا ولبنان، ويبدو أنهم جاءوا إلى هذه المنطقة في فترات سابقة في شكل هجرات جماعية من العراق فراراً من الاضطهاد الذي وقع عليهم بسبب آرائهم المنحرفة، فاتخذوا من جبال الشام ساترا لهم، ويمثل النصيرية الآن حوالي 10% من سكان سوريا ونسبة كبيرة منهم تقطن في ريف محافظة اللاذقية، بينما تنتشر أقليات منهم في دمشق وحمص وحلب، كما توجد أعداد كبيرة منهم في تلك المناطق الواقعة جنوب تركيا كالأسكندرونة وأنطاكيا وما حولهما من بلاد الترك، كما توجد جماعات منهم في منطقة (عكار) بلبنان.
المبحث السادس عشر: بيان خطر النصيرية:
النصيرية هي إحدى الفرق الباطنية الغلاة، ظهرت في القرن الثالث للهجرة انشقت عن فرقة الإمامية الاثني عشرية، والنصيريون كغيرهم من أعداء العقيدة الإسلامية الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر، إذ لم تمر بهم فرصة دون أن يهتبلوها في إيقاع أكبر الأذى بالمسلمين، والنصيريون حينما يوقعون الأذى بالمسلمين دون هوادة أو رحمة، يعتقدون في نفس الوقت أنهم يثابون على ذلك، فكلما أوغل الشخص منهم في إلحاق الأذى بالمسلمين كلما زاد ثوابه حسب اعتقادهم، وهذا ظاهر في غلظتهم ومعاملتهم للمسلمين.
وأقرب مثال على مواقف النصيريين في العصر الحاضر ما يجري في أماكن المسلمين في سوريا ولبنان من تقتيلهم الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، ثم وقوفهم كذلك في صف المارونيين والخمينيين، ولقد هيأ هؤلاء للتتار قديماً وللصليبيين الفرص لذبح المسلمين وإنزال أفدح المصائب بهم، مما لم يسمع بمثله باعتراف كتَّاب النصيرية أنفسهم.
وما من فتنة تثور ضد المسلمين من أهل السنة إلا وهؤلاء النصيريون في خندق واحد مع عدو المسلمين ضد المسلمين، وكم ذهبت من أنفس واستبيحت من أعراض بسبب دسائس النصيرية وتآمرهم في وقائع تقشعر منها الجلود، وبينهم وبين اليهود والنصارى مودة وبينهم تشابه في كثير من المعتقدات تجد مصداق هذا وقائع حرب الأيام الستة كما يسمونها فما حصل منهم فيها إنما هو دليل من الأدلة الكثيرة على مواقف النصيرية تجاه أهل السنة وعدائهم لهم ولأسلافهم الأخيار مثل أبي بكر وعمر وعثمان، وغيرهم من فضلاء الناس بعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا يزال القارئ الكريم يذكر ما قدمنا نقله عن علماء السنة وشهاداتهم بما فعله النصيريون والباطنيون عموماً بالمسلمين على مختلف العصور حين تمكنوا من إلحاق الأذى بأهل السنة، وكيف كانوا يتحولون إلى وحوش ضارية لا تدخل الرحمة إلى قلوبهم لا يرحمون صغيراً ولا يوقرون كبيراً.
لقد انطوى هؤلاء على كفر وإلحاد وخرافات تجعل الإنسان ييأس تمام اليأس أن يعود هؤلاء إلى رشدهم، وإذا شئت الاطلاع على مصداق هذا فاقرأ كتابهم (الهفت الشريف) بتحقيق علمائهم في هذا العصر، الذي يزعمون أنهم تحرروا من كل الخرافات وأنهم أصحاب إنصاف وتحقيق، ونورد لك أخي القارئ دليلاً واحداً مما جاء في هذا الكتاب المفضل لديهم حيث قال: "إن الحسين لما خرج إلى العراق وكان الله محتجباً به، وصار لا ينزل منزلاً صلوات الله عليه إلا ويأتيه جبريل فيحدثه، حتى إذا كان اليوم الذي اجتمعت فيه العساكر عليه، واصطفت الخيول لديه وقام الحرب، حينئذ دعا مولانا الحسين جبريل وقال له: يا أخي -انظر الله يقول لجبريل يا أخي!- من أنا؟ قال: أنت الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم والمميت والمحيي، أنت الذي تأمر السماء فتطيعك والأرض فتنتهي لأمرك، والجبال فتجيبك والبحار فتسارع إلى طاعتك، وأنت الذي لا يصل إليك كيد كائد ولا ضرر ضار"، إلى أن قال عن جبريل وهو يخاطب عمر بن سعد القائد الأموي الموجه لحرب الحسين قائلاً له: "ويحك تقتل رب العالمين وإله الأولين والآخرين وخالق السموات والأرض وما بينهما، فلما سمع عمر بن سعد ذلك أخذه الخوف"، إلى آخر ترهاتهم التي تدل على عمق جهلهم وبدائيتهم.
ويسب صاحب الهفت عمر رضي الله عنه وينسبه إلى أنه كان في زمن الحسين في صورة كبش عن طريق التناسخ فدى الله به الحسين من الذبح، وذُبح هو أي عمر الذي سماه (دلامة) أو أدلم، فقال عن الصادق عن المفضل أنه قال له: "يا مفضل إن الكبش الذي فدي به الحسين كان الأدلم أدلم قريش وهو يومئذ شيخ في تركيب كبش".
ثم زعم أن قرني هذا الكبش معلقان في الكعبة: "أما رأيت يا مفضل قرنيه في البيت الحرام معلقين؟ قلت: نعم يا مولاي، قال: فذاك القرنان لذلك الكبش الذي فدي به الحسين. ثم ضحك الصادق حتى بدت نواجذه، قلت: يا مولاي ما الذي أضحكك؟ قال: يا مفضل إن الناس إذا اجتمعوا بالموسم بمكة المكرمة رغبوا أن ينظروا إلى قرني الكبش تعجباً لأنه من الجنة، ونحن نقوم بالنظر إليهما تعجباً أنهما قرنا دلامة، فالناس يتعجبون من شيء ونحن نتعجب من شيء خلافه".
وما أدري ما الذي يقصد هذا المجوسي بقرني الكبش المعلقين بالكعبة فما رأينا أي قرن ولا حكى أحد من الناس أنه رأي هذين القرنين، وفي هذا العصر خرجت مرة كتائب الباطنية النصيرية في حماة وهي تملأ أجواء الفضاء بذلك الهتاف الذي لن تنساه حماة: "هات سلاح وخذ سلاح دين محمد ولى وراح".
وهذه جريدة الثورة أحفاد الوثنية النصيرية تكتب: "الله والأنبياء والكتب المقدسة كلها محنطات ينبغي تحويلها إلى متاحف التاريخ"، وذاك النشيد وهذا التصريح وقع حينما اقتحم اليهود الصهاينة المسجد الأقصى وهم يرددون: "محمد مات خلف بنات فليسقط الإسلام".
المبحث السابع عشر: من خيانات النصيريين:
عندما قدم الغزو الصليبي على بلاد المسلمين وقويت محاولة الصليبين السيطرة على الأماكن المقدسة وبينما كانت جموع الحملة الصليبية الأولى تحاصر مدينة أنطاكية التي استماتت في الدفاع ضد هجمات الصليبين المتكررة عليها، لم يقف النصيريون مكتوفي الأيدي بل وجدوا الفرصة مناسبة ولن تعوض للانتقام من أهل السنة عن طريق التحالف مع الصليبيين وتقديم العون لهم فنجدهم ينزلون إلى السواحل من جبالهم التي كانوا يعتصمون بها لكي يلاقوا الصليبيين ويقدموا لهم ما يحتاجون.
وبدلا من أن يقف النصيريون إلى جانب المدافعين عن أنطاكية ويكونوا عونا لهم ضد العدو الغاشم حدثتهم أنفسهم بالخيانة، فبعد حصار طويل استمر قرابة سبعة أشهر على أنطاكية من قبل الصليبيين أمام أسوار أنطاكية لدرجة أن الفوضى وسوء النظام دبت بين الجند نتيجة لتأثير الجوع والإنهاك، فأخذ بعض الصليبيين يفرون من المعركة ويتسللون خفية هاربين، وفي هذا الموقف الحرج في هذه الفترة اتصل الزعيم النصيري فيروز الذي كان موكلا بحراسة أحد أبراج المدينة من قبل الأمير ياغيسيان بالقائد الصليبي بوهيموند على تسليم البرج إليه ودخول المدينة منه، والاستيلاء عليها فتم الاتفاق بينهما على ذلك وعند الفجر تسلق بوهيموند وأصحابه السلالم صاعدين إلى البرج حيث كان ينتظرهم فيروز وبمساعدته استطاعوا أن يحتلوا باقي الأبراج، وتمكنوا من احتلال المدينة بكاملها فأعملوا السيف في أهلها، ونهبوا كل ما وقعت عليه أيديهم، وهكذا تمكن الصليبيون من الاستيلاء على أنطاكية بمساعدة الزعيم النصيري فيروز، ولو لم يجد الصليبيون هذا الرجل الخائن الذي أعانهم على فتح المدينة لكان حصارهم لها قد طال كثيرا ولكانت النتيجة غير ما آلت إليه بعد ذلك.
ومن الأدلة الأخرى التي تثبت تعامل النصيرية مع الصليبيين ومساعدتهم لهم ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق فتواه عن النصيرية إذ قال: "ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم -أي جهة النصيرين- وهم دائما مع كل عدو للمسلمين فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل وانقهار النصارى، بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار، ومن أعظم أعيادهم إذا استولى -والعياذ بالله تعالى النصارى- على ثغور المسلمين، فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل، ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك".
ويستطرد شيخ الإسلام ابن تيمية في فضح مواقف هؤلاء الخونة وممالأتهم للصليبيين وينبه على عدم استخدام أمثال هؤلاء في حراسة ثغور المسلمين حتى لا يؤخذوا من قبلهم فيقول: "وأما استخدام مثل هؤلاء -أي النصيريين- في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جنودهم فإنه من الكبائر وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم، فإنهم من أغش الناس للمسلمين ولولاة أمورهم وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة وهم شر من المخامر الذي يكون في العسكر، فإن المخامر قد يكون له غرض إما مع أمير العسكر وإما مع العدو وهؤلاء مع الملة ونبيها ودينها وملوكها وعلمائها وعامتها وخاصتها، وهم أحرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين وعلى إفساد الجند على ولي الأمر وإخراجهم عن طاعته، والواجب على ولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة فلا يتركون في ثغر ولا في غير ثغر، فإن ضررهم في الثغر أشد وأن يستخدم بدلهم من يحتاج إلى استخدامه من الرجال المأمونين على دين الإسلام، وعلى النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، بل إذا كان ولي الأمر لا يستخدم من يغشه وإن كان مسلما فكيف بمن يغش المسلمين كلهم".
ومن الملاحظ في تاريخ الفرق الباطنية أن هذه الفرق كانت دائما تتحالف مع أي عدو للمسلمين وتقدم لهم العون في سبيل القضاء على أهل السنة، وهذا ما أشار إليه فيليب حتى في معرض كلامه عن بعض الطوائف والفرق فقال: "ثم إن العناصر الإسلامية المنشقة من شيعة وإسماعيلية ونصيرية عمدوا في مناسبات عديدة على نقض ولائهم بتقديم العون إلى الإفرنج".
ومما يدل أيضا على تعامل النصيريين مع الصليبيين ومساعدتهم لهم ما ذكره الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الإسلامية فقال: "كانت النصيرية عند الهجوم الصليبي على العالم الإسلامي عونا للصليبيين ضد المسلمين، ولما استولى الصليبيون على بعض البلاد الإسلامية قربوهم وأدنوهم، وجعلوا لهم مكانا مرموقا، وعندما توحدت الجبهة الإسلامية في وجه الصليبيين على يد قادة الجهاد الإسلامي أمثال نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي اختفى هؤلاء عن الأعين واعتصموا بجبالهم، واقتصر عملهم على تدبير المكايد والفتن والفتك بكبراء المسلمين وقوادهم العظام، ولما أغار التتار بعد ذلك على الشام مالأهم أولئك النصيريون كما مالؤوا الصليبيين من قبل، فمكنوا للتتار من الرقاب حتى إذا انحسرت غارات التتار قبعوا في جبالهم قبوع القواقع في أصدافها لينتهزوا فرصة أخرى".
ومن خياناتهم أيضا:
في سنة 696هـ تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام فخاف الناس من ذلك خوفا شديدا، ولكن خرج جيش من دمشق للقاء التتار فالتقيا عند وادي سلمية فكسر التتار المسلمين وولى السلطان قازان هاربا وقتل جماعة من الأمراء وغيرهم من العوام خلق كثير، واقتربت التتار من البلد وكثر العبث بالفساد في ظاهر البلد ثم فرضت أموال كثيرة على البلد موزعة على أهل الأسواق كل سوق بحسبه من المال ثم عمل التتار المجانيق ليرموا بها القلعة، وحل الفزع بالناس فلزموا بيوتهم وكان لا يرى بالطرقات أحد إلا القليل والجامع لا يصلي فيه أحد إلا اليسير ويوم الجمعة لا يتكامل فيه إلا الصف الأول وما بعده إلا بجهد جهيد، ومن خرج من منزله في ضرورة يخرج بثياب زيهم ثم يعود سريعا ويظن أنه لا يعود إلى أهله وكان ذلك بتواطأ النصيريين مع التتار وعلى رأسهم يومئذ الشريف القمي محمد بن أحمد بن القاسم المرتضى العلوي والأصيل بين نصير الطوسي والذي قبض ثمن هذه الخيانة مائة ألف درهم.
وانظر كيف يتسمى الخائن شريفا علويا وما هو إلا خسيس سفلي.
وفي حين كان هذا العلوي (النصيري) يخون كان رجال أهل السنة وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية ينفخون روح الإيمان في الأمة ويخرجون للجهاد بأنفسهم، حتى أنه في هذه الواقعة السالفة عندما حاصر التتار قلعة دمشق وطلب السلطان من نائب القلعة تسليمها إلى التتار امتنع النائب لأن شيخ الإسلام ابن تيمية قد قال له لا تسلمها ولو لم يبق فيها إلا حجر واحد، وكان ذلك في مصلحة المسلمين فإن الله عز وجل حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزا لأهل الشام التي لا تزال دار إيمان وسنة حتى ينزل بها عيسى بن مريم عليه السلام.
وشاء الله تعالى أن تتحرك العساكر من الديار المصرية لنصرة أهل الشام، فلما سمع التتار انشمروا عنها وعرفت جماعة ممن كانوا يلوذون بالتتر ويؤذون المسلمين وشنق منهم طائفة وسمر آخرون وكحل بعضهم وقطعت ألسن، وجرت أمور كثيرة ثم سار نائب السلطة في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان -وهي الجبال التي كان يسكنها العلويين وعرفت بعد باسمهم-، وخرج شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة لقتال أهل تلك الناحية بسبب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتار وهربوا حين اجتازوا بلادهم ووثبوا عليهم ونهبوهم، وأخذوا أسلحتهم وخيولهم وقتلوا كثيرا منهم فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ ابن تيمية فاستتابهم وبين للكثيرين منهم الصواب، وجعل بذلك خير كثير وانتصار كبير على أولئك المفسدين والتزموا برد ما كانوا أخذوا من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالا كثيرة يحملونها إلى بيت المال.. أرأيت كيف كانت خيانة هؤلاء العلويين إنهم لم يهبوا مع الجيش الشامي لقتال التتار والمدافعة عن البلد وحفظ جناب الأمة، ولا حتى قبعوا في جبالهم دون أن يعينوا على المسلمين ويدلوا على عوراتهم، ولا حتى آووا من فر إليهم من عساكر المسلمين بل سلبوهم ونهبوهم وقتلوا أكثرهم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن خياناتهم:
في سنة 705هـ كمن الجيش التتاري لجيش حلب فقتلوا منهم خلقا من الأعيان وغيرهم وكثر النوح ببلاد حلب بسبب ذلك، ولما كان قد ثبت خيانة العلويين الذين يسكنون بلاد الجرد سار إليهم نائب السلطنة بمن بقي معه من الجيوش الشامية وكان قد تقدم بين يديه طائفة من الجيش مع ابن تيمية فساروا إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة لغزوهم فنصرهم الله عليهم وأبادوا كثيرا منهم ومن فرقهم الضالة، ووطئوا أراضي كثيرة من بلادهم وقد حصل بسبب شهود الشيخ ابن تيمية هذه الغزوة خير كثير وأبان الشيخ علما وشجاعة في هذه الغزوة.
ومن خيانات النصيريين أيضا:
قال ابن كثير رحمه الله: "في سنة 717هـ خرجت النصيرية عن الطاعة وكان من بينهم رجل سموه (محمد بن الحسن المهدي) القائم بأمر الله وتارة يدعي علي بن أبي طالب فاطر السموات والأرض -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا- وتارة يدعى أنه محمد بن عبد الله صاحب البلاد وخرج من كبار النصيريين الضلال، وعين لكل إنسان منهم مائة ألف وبلادا كثيرة ونيابات وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقا من أهلها وخرجوا منها يقولون لا إله إلا علي ولا حجاب إلا محمد ولا باب إلا سلمان، وسبوا الشيخين وصاح أهل البلد وا إسلاماه وا سلطاناه وا أميراه فلم يكن لهم يومئذ ناصر ولا منجد وجعلوا يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل، فجمع هذا الضال الأموال فقسمها على أصحابه وأتباعه قبحهم الله أجمعين، وقال لهم لم يبق للمسلمين ذكر ولا دولة ولو لم يبق معي سوى عشرة نفر لملكنا البلاد كلها، ونادى في تلك البلاد إن المقاسمة بالعشر لا غير ليرغب فيه وأمر أصحابه بخراب المساجد واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لمن أسروه من المسلمين قل لا إله إلا علي واسجد لإلهك المهدي الذي يحيي ويميت حتى يحقن دمك ويكتب لك فرمان وتجهزوا وعملوا أمورا عظيمة جدا، فجردت إليهم العساكر فهزموهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا وقتل المهدي أضلعهم ويوم القيامة يكون مقدمهم إلى عذاب السعير".
ومن خيانات النصيريين أيضا:
نقتطف هذه المرة صورة الخيانة من أهم مراجع النصيريين وهو كتاب (تاريخ العلويين) لمؤلفه النصيري (محمد أمين غالب الطويل)، ومما يثير العجب أن هذا النصيري يسمى وسيلة ويبررها في كتابه السابق فيقول:
"ولما كان لا بد للضعيف المظلوم من التوسل بالخيانة لكي يحافظ على حقوقه أو يستردها -وهذا أمر طبيعي يساق إليه كل إنسان- كان العلويون كلما غصب السنيون أموالهم وحقوقهم يتوسلون بغدر السنيين عند سنوح الفرصة". وقد سنحت الفرصة عندما جاء التتار إلى بغداد يقول صاحب تاريخ العلويين: "جاء تيمور لنك بجيوش لا يعرف مقدراها، واستولى على بغداد وحلب والشام في سنة 822 - 823هـ ويدعي أن تيمور لنك كان نصيريا محضا من جهة العقيدة، إذ توجد له أشعار دينية موافقة لآداب الطريقة الجنبلانية (النصيرية) وأسباب دخوله في الطريقة هو ذهاب النصيري (السيد بركة) من خراسان إلى الأمير (تيمور) وهو في بلدة بلخ"، ثم يقول: "وداوم تيمور لنك في الاستيلاء على البلاد وشيخه السيد بركة يبشره بدوام فتوحاته، حتى جاء إلى بغداد وأخذها من يد السلطان واستولى على الموصل عام 896هـ وبنى بها مراقد الأنبياء (جرجيس ويونس) عليهما السلام وجاء للرها واغتسل بمحل النبي إبراهيم، ثم جاء لماردين وأعطاها الأمان ثم استولى على ديار بكر وعنتاب التي التجأ أميرها إلى حلب".
ثم يقول: "وكان نائب حلب هو الأمير العلوي (النصيري) تمورطاش والذي اتصل بتيمورلنك خفية واتفق معه على أن يداهم تيمور لنك حلب فهاجمها بالفعل ودخلها عنوة، فأمعن في القتل والنهب والتعذيب مدة طويلة حتى أنشأ من رؤوس البشر تله عظيمة وقد قتل جميع القواد المدافعين عن المدينة وانحصرت المصائب بالسنيين فقط"! ثم يقول: "ثم سافر تيمور لنك إلى الشام وقبل سفره جاءت إليه العلوية (النصيرية) درة الصدف بنت سعد الأنصار ومعها أربعون بنتا بكرا من العلويين وهن ينحن ويبكين ويطلبن الانتقام لأهل البيت وبناتهم اللاتي جيء بهن سبايا للشام، وسعد الأنصار هذا من رجال الملك الظاهر وهو مدفون بحلب وله قبر فوقه قبة فوعدها تيمور بأخذ الثأر، ومشت البنات العلويات مع تيمور وهن ينحن ويبكين وينشدن الأناشيد المتضمنة للتحريض على الأخذ بالثأر، فكان ذلك سببا في نزول أفدح المصائب التي لم يسمع بمثلها بأهل الشام".
ثم يقول: "ولم ينج من بطش تيمور لنك بالشام إلا عائلة من المسيحيين، وأمر تيمور لنك بقتل أهل السنة واستثناء العلويين (النصيريين) وبعد الشام ذهب تيمور لبغداد وقتل تسعين ألفا". هذه بعض خيانتهم في مرحلة الغزو التتاري أما في الهجمة الصليبية على العالم الإسلامي فإن الصليبيين لم يدخلوا إلى بلاد المسلمين إلا عن طريقهم ومن مناطق سكناهم في الغالب في طرسوس وإنطاكية وغيرها من مناطق نفوذهم، بل إن مدينة إنطاكية سقطت في يد الصليبين بفعل الاتفاق الذي وقع بين الزعيم النصيري فيروز وبين قائد الصليبيين بوهموند.
ومن خيانات النصيريين في العصر الحديث:
إن خيانات النصيريين في العصر الحديث أكثر من أن تحصى فهم دائما يتقربون من الاستعمار ويعاونون معه في مقابل الحصول على بعض المكاسب فعلى سبيل المثال: تعاون النصيريون مع الاحتلال الفرنسي أثناء انتدابه على سوريا وكانوا خير عون لهم على الدولة العثمانية دولة الخلافة يومئذ، وفي مقابل هذا منح الفرنسيون النصيريون مجموعة العلويين، وقد فاحت رائحة هذه الخيانة من خلال كلام النصيريين أنفسهم وهم يعترفون بالجميل لفرنسا وما كان جميلا بل ثمن خيانة..
قال محمد أمين غالب النصيري: "إن الأتراك هم الذين حرموا هذه الطائفة من ذلك الاسم -العلويين- وأطلقوا عليهم اسم النصيريين نسبة إلى الجبال التي يسكنونها نكاية بهم واحتقارا لهم، إلا أن الفرنسيين أعادوا لهم هذا الاسم الذي حرموا منه أكثر من 412 سنة أثناء انتدابهم على سوريا، إذ صدر أمر من القومسيرية العليا في بيروت بتاريخ 1/ 9/ 1920م بتسمية جبال النصيريين بأراضي العلويين المستقلة".
ومن أشهر رؤوس الخونة النصيريين في العصر الحديث رجل يقال له (سلمان المرشد) من قرية جوبة برغال شرقي مدينة اللاذقية بسوريا، وكان الرجل قد ادعى الألوهية فآمن به وتبعه كثير من النصيريين، وقد مثل الدور تمثيلا جيدا فكان يلبس ثيابا فيها أزرار كهربية ويحمل في جيبه بطارية صغيرة متصلة بالأزرار، فإذا أوصل التيار شعت الأنوار من الأزرار فيخر له أنصاره ساجدين! ومن الطريف أن المستشار الفرنسي الذي كان وراء هذا الألوهية المزيفة كان يسجد مع الساجدين ويخاطب سلمان المرشد بقوله: "يا إلهي".
وقد استماله الفرنسيون واستخدموه وجعلوا للعلويين نظاما خاصا فقويت شوكته، وتلقب برئيس الشعب العلوي الجبدري الغساني وعين قضاة وسن القوانين وفرض الضرائب على القرى التابعة له، وشكل فرقا خاصة للدفاع سماهم الفدائيين وللتعاون الوثيق بينه وبين الاحتلال الفرنسي عندما جلا الفرنسيون عن سوريا تركوا لهذا النصيري وأتباعه من الأسلحة ما أغراهم بالعصيان، فجردت الحكومة السورية آنذاك قوة فتكت ببعض أتباعه واعتقلته مع آخرين ثم أعدم شنقا في دمشق عام 1946، ومنهم النصيري الخبيث يوسف ياسين والذي سعى في محاربة الدولة العثمانية بخطبه وأشعاره بل وسلاحه.
قال الدكتور سليمان الحلبي: "لما احتل الإنكليز فلسطين عام 1918م تطوع يوسف ياسين بالفرقة التي شكلها الإنكليز للعمل مع لورنس والملك عبد الله بالحجاز لمحاربة الأتراك، وقد نشرت جريدة الكواكب الصادرة في 3/ 9/ 1918 بالقاهرة لمراسلها بالقدس واصفا لحفلة أقيمت في النادي العربي لحث الشباب على التطوع في ذلك الجيش فقال المراسل وقف الشاب يوسف ياسين وتكلم بصفته جنديا في الجيش العربي ثم أنشد قائلا:
سنأخذ هذا الحق بالسيف والقنا
شيب شبان على ضمر بلق
وقد أخذ الإنجليز فلسطين فعلا ولكن بالخديعة لا بالسيف ولا بالقنا ولا بالمضر البلق ثم أعطوها لليهود وأقاموا فيها دولة".
ناهيك عن خيانتهم للأمة الإسلامية بوقوفهم إلى جانب المارونيين النصارى في كثير من الأحداث سواء في سوريا أو لبنان، وفي سجلات وزارة الخارجية الفرنسية رقم 3547 وتاريخها 15/ 6/ 1936وثيقة خطيرة تتضمن عريضة رفعها زعماء الطائفة النصيرية في سوريا إلى رئيس الوزراء الفرنسي يلتمسون فيها عدم جلاء فرنسا عن سوريا، ويشيدون باليهود الذين جاءوا إلى فلسطين ويؤلبون فرنسا ضد المسلمين، ووقع علي الوثيقة سليمان الأسد ومحمد سليمان الأحمد ومحمود أغا جديد وعزيز أغا هواش وسليمان المرشد ومحمد بك جنيد وفيما يلي نص الوثيقة نورده لأهميته:
"دولة ليوم بلوم رئيس الحكومة الفرنسية:
إن الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله سنة فسنة بكثير من الغيرة والتضحيات الكبيرة في النفوس هو شعب يختلف في معتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المسلم (السني) ولم يحدث في يوم من الأيام أن خضع لسلطة من التدخل، وإننا نلمس اليوم كيف أن مواطني دمشق يرغمون اليهود القاطنين بين ظهرانيهم على عدم إرسال المواد الغذائية لإخوانهم اليهود المنكوبين في فلسطين، وإن هؤلاء اليهود الطيبين الذين جاءوا إلى العرب المسلمين بالحضارة والسلام ونثروا على أرض فلسطين الذهب والرخاء ولم يوقعوا الأذى بأحد ولم يأخذوا شيئا بالقوة ومع ذلك أعلن المسلمون (السنيون) ضدهم الحرب المقدسة، بالرغم من وجود إنكلترا في فلسطين وفرنسا في سورية إنا نقدر نبل الشعور الذي يحملكم على الدفاع عن الشعب السوري ورغبته في تحقيق استقلاله، ولكن سوريا لا تزال بعيدة عن الهدف الشريف خاضعة لروح الإقطاعية الدينية للمسلمين (السنة) وكل الشعب العلوي الذي مثله الموقعون على هذه المذكرة نستصرخ حكومة فرنسا ضمانا لحريته واستقلاله ويضع بين يديها مصيره ومستقبله وهو واثق أنه لا بد واجد لديهم سندا قويا لشعب علوي صديق قدم لفرنسا خدمات عظيمة".
ولم تكن الشيعة النصيرية تكف عن التآمر ضد الدولة العثمانية في محاولة إزالتها فقد ساهم الزعيم النصيري (الشيخ صالح العلوي) في إسقاط الدولة العثمانية عندما قام بقطع الطريق الذي يصل طرطوس بحماه فكانت خسائر الأتراك كبيرة نتيجة قطع الطريق عليهم، وقام بعقد اتفاقية مع كمال أتاتورك عام 1920 وبعد ثورة مشبوهة ضد الفرنسيين استسلم صالح العلي فعفا عنه الفرنسيون على عكس ما كانوا يفعلونه مع المجاهدين المسلمين.
وهكذا كان تاريخهم يشهد بخيانتهم وممالأتهم المستمرة لأعداء الإسلام في الظاهر والباطن.
المبحث الثامن عشر: مقارنة بين عقائد الإسماعيليين والدروز والنصيرية:
من خلال الاستعراض السابق الذي استكملنا فيه دراسة عقائد وأفكار الحركات الباطنية المتواجدة في العالم الإسلامي يمكننا أن نرى كثيرا من أوجه الشبه أو الاختلافات بين عقائد هذه الحركات، إلا أنه في الوقت نفسه يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن الحركة الإسماعيلية كانت المغذي الرئيسي لكثير من هذه الحركات، ولن نتعدى الصواب إذا قلنا: إن الأفكار الرئيسية الموجودة في عقائد الإسماعيلية لا تختلف إلا في بعض التفاصيل عن عقائد الفرق الأخرى.
فكافة هذه الفرق اتخذت من الفلسفات الوثنية من إغريقية وإسكندرانية أداة لها في إثبات صحة مزاعمها، وبالتالي في تشكيك الناس بدينهم وعقيدتهم، وينبغي أن نلاحظ أن أتباع كل فرقة من هذه الفرق يعتبرون أنفسهم هم (الموحدون) أما غيرهم -على حسب زعمهم- فالمسافة شاسعة بينهم وبين التوحيد، لذلك فالدروز يطلقون على مذهبهم (مسلك التوحيد) باعتبار أنهم وحدهم سلكوا هذا المسلك؟!
ومن الأمثلة الواضحة على أن الإسماعيلية كانت الرائدة في فلسفة كافة الفرق، نظرية الفيض الأفلاطونية فقد كانت الإسماعيلية أول من حاول فرض هذه النظرية على العقائد الإسلامية، لذا أصبحت علما في هذا الاتجاه.
وإذا تتبعنا أوجه الاتفاق بين الفرق الباطنية، فإننا نرى أن نظرتهم للألوهية والتوحيد متشابهة رغم بعض الاختلافات في الأسماء والمسميات وذلك لانبثاقها عن نظرية الفيض فالإسماعيلية -حسب زعمها- ترى أن الخالق الحقيقي للكون هما (العقل الكلي والنفس الكلية) وأنهما من جملة الحدود في العالم العلوي وهذان الحدان يقابلهما -على حسب قاعدة المثل والمثول- في العالم السفلي حد النبي وحد الإمام أو الوصي، لذا فإن كل الألقاب التي تطلق على الله تطلق أيضا على الوصي والإمام بصفتهما ممثلا العقل الكلي. وهذه القاعدة تقول بها جميع الفرق الإسماعيلية الأخرى على اختلاف أسمائها.
ولكن الدروز رغم انشقاقهم عن الإسماعيلية، وأخذهم الكثير من عقائدها، إلا أنهم رفضوا نظرية المثل والمثول التي تقول بها الإسماعيلية وقرروا أن الحدود العلوية الموجودة في العالم العلوي هي ذاتها الموجودة في العالم السفلي ولا اختلاف بينها، وبما أن الدروز انشقوا عن الإسماعيلية لاظهارهم -الزعم- بألوهية الإمام الإسماعيلي (وهي العقيدة التي حاولت الإسماعيلية إخفاءها خوفا وتقية) فقد أعلنوا جوهر هذه العقيدة وهي: "أن الله يتخذ على مر العصور والأزمان حجابا أو صورة ناسوتية يتجلى فيها لخلقه -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- وأن الحجاب الأخير الذي ظهر فيه كان بصورة الحاكم بأمر الله العبيدي"، وبذلك أظهروا عقيدة كانت الإسماعيلية تخفيها ولا تعلنها، وفي الوقت نفسه أخذوا عن الإسماعيلية نظرية العقول السبعة وطبقوها على ظهورات الله بالصورة الناسوتية، وزعموا أن عدد هذه الظهورات كانت سبعا آخرها الحاكم.
أما النصيرية، فتعتبر أن الذات الإلهية متشخصة بالمعنى وهو(علي ابن أبي طالب) - تعالى الله عن ذلك - ولكنها في الوقت نفسه لم تتجاهل نظرية الفيض التي قالت بها الإسماعيلية والدروز، فزعمت أن العقل الكلي هو (الميم) أي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن النفس الكلية هو (السين) أي سلمان الفارسي، وهو حسب زعمهم الذي خلق السماوات والأرض والأيتام الخمسة كذلك.
وجميع الصفات الإلهية التي وصف الله بها نفسه في القرآن الكريم لا تعترف بها كافة الفرق الباطنية، فهم ينفون نفيا مطلقا هذه الصفات، إيجابية كانت أم سلبية، لأنه تعالى -على حسب زعمهم- فوق متناول العقل، والعقل عاجز عن إدراك كنهه، فإثبات هذه الصفات -حسب زعمهم- يعني عدم التوحيد، ولذلك فهم يزعمون أن هذه الصفات تليق فقط بحدوده وخاصة العقل والنفس، باعتبارهما من فيضه ومبدعاته.
وثمة وجه آخر من أوجه الشبه بين هذه الفرق، وهي عقيدة التناسخ ورغم أن الإسماعيلية لا تجاهر أو تصارح بالقول بها، إلا أن المتتبع لآراء الإسماعيلية يجزم أنها تؤمن بها شأنها شأن الفرق الأخرى، ولكن هناك بعض الاختلافات بين هذه الفرق.
فالإسماعيلية والنصيرية تؤمنان بوجود عالم روحاني تسكنه الملائكة، وعالم سفلي هو عالم الكون والفساد. وهم إضافة إلى ذلك يعتقدون بأن الأجساد مصدر الشقاء والآلام، وأن المؤمن حين موته تذهب نفسه إلى العالم العلوي، وأما الكافر فيتقلب في الأجساد البشرية وغير البشرية عقابا له على ما قدم وعلى هذا فالإسماعيلية والنصيرية تؤمنان بالمسخ، أي أن تأتي نفس الكافر عقابا لها -على حسب زعمهم- بقمصان رديئة كالحيوانات، أو أن تأتي بصورة جامدة من معدن أو حجر فتذوق بذلك عذاب جهنم؟! وهذا الاعتقاد بالنسخ والمسخ، يخالف اعتقاد الدروز، الذين ينحصر التناسخ عندهم في الصور البشرية فقط ولا يكون في البهائم أو الجمادات، ولذلك فقد عبروا عن التناسخ بكلمة التقمص لأن في انتقال النفس إلى جسم حيوان ظلم لها، فالثواب والعقاب بني -حسب زعمهم- على قاعدة العدل الإلهي في محاسبة الأرواح بعد مرورها في القمصان البشرية.
وهناك عقيدة أخرى لا يختلفون فيها أبدا وهي عقيدة التقية، فالتستر والكتمان عند جميع هذه الفرق فرض لا يجوز التهاون فيه، لأن البوح بأسرار اعتقاداتها إلى غير أهلها تدنيس لها، لذا فقد طالبت الإسماعيلية والدرزية والنصيرية أتباعها بالاستتار وعدم التظاهر بما يبطنون، وهكذا فقد أصبحت هذه العقيدة عادة مستحكمة عند جميع أتباع هذه الفرق، لأنها تعني التظاهر بشيء والإيمان بشيء آخر، وبالتالي فقد جعلت هذه العقيدة من أتباعها بؤرة للنفاق والخداع يتصفوا به جميعهم، وهذا واضح في تاريخهم.
ويمكن أن يضاف إلى عقيدة التقية أمرا آخر مرتبط بها، وهو أن جميع هذه الحركات تطلب من المستجيبين لها عهودا وأيمانا غليظة يجب أن يؤديها حتى يوثق به ومع ذلك فإنهم لا يسلموه كل الأسرار دفعة واحدة، بل على التدرج وكما هو واضح عند الدروز والنصيرية.
وهناك أيضا عقائد متشابهة بين الدروز والنصيرية أهمها:
"قضية العاقل والجاهل، فالعقال يسترون دينهم عن الجهال منهم، وإذا أراد أحد الجهال أن يدخل في أمور دينهم، فلا يسلمون الديانة له إلا بالتدريج بعد أن يتتلمذ على أحد مشايخ دينهم ويتخذه والدا دينيا، ويتفقون معهم أيضا بقدمية العالم، وأن العالم قد خلق على ما هو عليه الآن، وأن عدد البشر كان كما هو الآن لا يزيد ولا ينقص"، وهم يتفقون كذلك بالإضافة إلى الإسماعيلية في تأويل آيات القرآن حسب معتقداتهم، وأن له ظاهرا وباطنا حتى يثبتوا صحة معتقداتهم المناقضة للقرآن الكريم.
ونستنتج مما سبق، أن نقطة الخلاف والالتقاء الرئيسية بين الإسماعيلية والدروز والنصيرية هي عقيدة الألوهية، فجميعهم يقرون بإمكانية تجسد الألوهية في صورة إنسان، ولكن الإسماعيلية تراها في الأئمة الإسماعيليين جميعا، بينما الدروز والنصيرية جعلتا لتجسد الألوهية ظهورا أخيرا، فكان عند الدروز بشخص الحاكم، وعند النصيرية بشخص علي بن أبي طالب -تعالى الله عن ذلك- أما بقية العقائد فقد يلتقون في شيء منها ويختلفون في شيء آخر، ولكنهم متفقون في جوهرها.
المبحث التاسع عشر: حكم الإسلام في النصيرية:
يمكننا بعد دراسة وتحليل العقائد التي مرت بنا والتي آمنت بها النصيرية أن نقول: أن هذه الطائفة لا علاقة لها بالإسلام والمسلمين، فهي تقول بالحلول بمعنى أن الله قد حل في علي بن أبي طالب وفي أشخاص آخرين، وتقول أيضا: "أن للشريعة ظاهرا وباطنا وأن المراد باطنها دون ظاهرها"، وترتب على هذا الاعتقاد تركهم جميع الفرائض الإسلامية وتأويلها وظهوره أيضا على سلوكهم وأعمالهم فهم يظهرون خلاف ما يبطنون ويقولون ما لا يعتقدون، وهم بالإضافة إلى ذلك قد اعتقدوا بالتناسخ وكفروا بالبعث والحساب فهدموا بذلك ركنا هاما من أركان الإيمان، وأباحوا المحرمات بشرب الخمر والزنا، وهذا كله، بل واحد منه مخالف للإسلام وخروج عنه بل هو كفر به واستهانة بما فرض.
وكل من له بصيرة يعلم أن الإسلام ما جاء إلا لمحو هذه الاعتقادات الضالة الكافرة. فالتوحيد وترك عبادة الأوثان والأشخاص هو أول اعتقاد في هذا الدين أما اليوم الآخر فهو الركن المهم لعقيدة التوحيد، لأن الإيمان بالله يتبعه الإيمان باليوم الآخر، وقول النصيرية بالتناسخ هدم لهذا الركن الهام من أركان الإيمان.
أما قولهم بأن للشريعة ظاهرا وباطنا وتأويل الفرائض الإسلامية على هذا الأساس، فهو هدف الباطنية والغلاة عموما ابتداء من الإسماعيلية ومروراً بالدروز وانتهاء بالنصيرية، لمسخ الشريعة وهدم الدين وصدق الله العظيم في فضح أمثال هؤلاء فيقول عز من قائل: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ . رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ . رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ . إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّار} [آل عمران: 7-10].
بهذا يتبين أن لا علاقة للإسلام بالنصيرية، فالإسلام شيء والنصيرية شيء آخر، وعلى هذا الأساس عاملهم جميع أمراء المسلمين ابتداء من صلاح الدين وانتهاء بالسلطان العثماني عبد الحميد، فقد حاولوا الكثير معهم في الرجوع إلى أصول الإسلام، ولكنهم لا يلبثون أن يرجعوا في كل مرة إلى ضلالاتهم وكفرهم، ومع ذلك يحاول الكثير منهم في الوقت الحاضر أن يبرهن أمام الرأي العام أنهم مسلمون موحدون فظهرت كتب وبيانات تقول بذلك، ولكن كل ذلك لا يجدي شيئا أمام الحقائق والأعمال التي يقومون بها والتي تدحض كل هذه الادعاءات الباطنية المزيفة.
ولعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كان من أوائل الذين عرفوا حقيقة هذه الطائفة، فحاربها قولا وعملا، كما حارب بقية الطوائف الباطنية فنجده في رده على سؤال حول حكم هذه الطائفة يفند كل ضلالاتهم، ويرد عليهم بجرأة العالم الواعي لحقائق الأمور، والواقع أن فتوى ابن تيمية فيهم تعتبر جزءاً هاما من الحقائق التاريخية الدامغة للنصيرية، علاوة على قيمتها في إظهار عقائدها الباطنية.
فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في النصيرية.
سئل رحمه الله تعالى:
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين وأعانهم على إظهار الحق المبين وإخماد شعب المبطلين: في النصيرية القائلين باستحلال الخمر وتناسخ الأرواح وقدم العالم، وإنكار البعث والنشور والجنة والنار في غير الحياة الدنيا وبأن الصلوات الخمس عبارة عن خمسة أسماء وهي: علي وحسن وحسين ومحسن وفاطمة. فذكر هذه الأسماء الخمسة على رأيهم يجزئهم عن الغسل من الجنابة والوضوء وبقية شروط الصلوات الخمسة وواجباتها، وبأن الصيام عندهم عبارة عن اسم ثلاثين رجلا واسم ثلاثين امرأة يعدونهم في كتبهم ويضيق هذا الموضع عن إبرازهم، وبأن إلههم الذي خلق السموات والأرض هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو عندهم الإله في السماء والإمام في الأرض، فكانت الحكمة في ظهور اللاهوت بهذا الناسوت على رأيهم أن يؤنس خلقه وعبيده، ليعلمهم كيف يعرفونه ويعبدونه، وبأن النصيري عندهم لا يصير نصيريا مؤمنا يجالسونه ويشربون معه الخمر ويطلعونه على أسرارهم ويزوجونه من نسائهم حتى يخاطبه معلمه! وحقيقة الخطاب عندهم أن يحلفوه على كتمان دينه ومعرفة مشايخه وأكابر أهل مذهبه، وعلى ألا ينصح مسلما ولا غيره إلا من كان من أهل دينه وعلى أن يعرف ربه وإمامه بظهوره في أنواره وأدوار،ه فيعرف انتقال الاسم والمعنى في كل حين وزمان، فالاسم عندهم في أول الناس آدم والمعنى هو شيث، والاسم يعقوب والمعنى هو يوسف، ويستدلون على هذه الصورة كما يزعمون بما في القرآن العظيم حكاية عن يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام فيقولون: أما يعقوب فإنه كان الاسم فما قدر أن يتعدى منزلته فقال: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم} [يوسف:98]، وأما يوسف فكان المعنى المطلوب فقال: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92]، فلم يعلق الأمر بغيره، لأنه علم أنه الإله المتصرف ويجعلون موسى هو الاسم ويوشع هو المعنى ويقولون: يوشع ردت له الشمس لما أمرها فأطاعت أمره، وهل ترد الشمس إلا لربها ويجعلون سليمان هو الاسم واصف هو المعنى القادر المقتدر..
ويقولون: سليمان عجز عن إحضار عرش بلقيس وقدر عليه آصف لأن سليمان كان الصورة واصف كان المعنى القادر المقتدر وقد قال قائلهم: هابيل شيث يوسف يوشع آصف شمعون الصفا حيدر ويعدون الأنبياء والمرسلين واحدا واحدا على هذا النمط إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: محمد هو الاسم وعلي هو المعنى، ويوصلون العدد على هذا الترتيب في كل زمان إلى وقتنا هذا، فمن حقيقة الخطاب في الدين عندهم أن عليا هو الرب وأن محمدا هو الحجاب وأن سلمان هو الباب، وأنشد بعض أكابر رؤسائهم وفضلائهم لنفسه في شهور سنة سبعمائة فقال:
أشهد أن لا إله إلا *** حيدرة الأنزع البطين
ولا حجاب عليه إلا *** محمد الصادق الأمين
ولا طريق إليه إلا *** سلمان ذو القوة المتين
ويقولون إن ذلك على هذا الترتيب لم يزل ولا يزال وكذلك الخمسة الأيتام والاثنا عشر نقيبا، وأسماؤهم مشهورة عندهم ومعلومة من كتبهم الخبيثة وأنهم لا يزالون يظهرون مع الرب والحجاب والباب في كل كور ودور أبدا سرمدا على الدوام والاستمرار..
ويقولون: إن إبليس الأبالسة هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويليه في رتبة الإبليسية أبو بكر رضي الله عنه ثم عثمان رضي الله عنهم أجمعين وشرفهم وأعلى رتبهم عن أقوال الملحدين وانتحال أنواع الضالين والمفسدين فلا يزالون موجودين في كل وقت دائما حسبما ذكر من الترتيب، ولمذاهبهم الفاسدة شعب وتفاصيل ترجع إلى هذه الأصول المذكورة. وهذه الطائفة الملعونة استولت على جانب كبير من بلاد الشام وهم معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب وقد حقق أحوالهم كل من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعلمائهم ومن عامة الناس أيضا في هذا الزمان، لأن أحوالهم كانت مستورة عن أكثر الناس وقت استيلاء الإفرنج المخذولين على البلاد الساحلية، فلما جاءت أيام الإسلام انكشف حالهم وظهر ضلالهم. والابتلاء بهم كثير جدا.
فهل يجوز لمسلم أن يزوجهم أو يتزوج منهم؟ وهل يحل أكل ذبائحهم والحالة هذه أم لا؟ وما حكم الجبن المعمول من إنفحة ذبيحتهم؟ وما حكم أوانيهم وملابسهم؟ وهل يجوز دفنهم بين المسلمين أم لا؟ وهل يجوز استخدامهم في ثغور المسلمين وتسليمها إليهم؟ أم يجب على ولي الأمر قطعهم واستخدام غيرهم من رجال المسلمين الكفاة وهل يأثم إذا أخر طردهم؟ أم يجوز له التمهل مع أن في عزمه ذلك؟ وإذا استخدمهم وأقطعهم أو لم يقطعهم هل يجوز له صرف أموال بيت المال عليهم وإذا صرفها وتأخر لبعضهم بقية من معلومه المسمى، فأخره ولي الأمر عنه وصرفه على غيره من المسلمين أو المستحقين أو أرصده لذلك هل يجوز له فعل هذه الصور، أم يجب عليه؟ وهل دماء النصيرية المذكورين مباحة وأموالهم حلال أم لا؟ وإذا جاهدهم ولي الأمر أيده الله تعالى بإخماد باطلهم وقطعهم من حصون المسلمين وحذر أهل الإسلام من مناكحتهم وأكل ذبائحهم وألزمهم بالصوم والصلاة ومنعهم من إظهار دينهم الباطل وهم الذين يلونه من الكفار: هل ذلك أفضل وأكثر أجرا من التصدي والترصد لقتال التتار في بلادهم وهدم بلاد سيس وديار الإفرنج على أهلها، أم هذا أفضل من كونه يجاهد النصيرية المذكورين مرابطا؟ ويكون أجر من رابط في الثغور على ساحل البحر خشية قصد الفرنج أكبر أم هذا أكبر أجرا؟ وهل يجب على من عرف المذكورين ومذاهبهم أن يشهر أمرهم ويساعد على إبطال باطلهم وإظهار الإسلام بينهم فلعل الله تعالى أن يهدي بعضهم إلى الإسلام وأن يجعل من ذريتهم وأولادهم مسلمين بعد خروجهم من ذلك الكفر العظيم أم يجوز التغافل عنهم والإهمال؟ وما قدر المجتهد على ذلك والمجاهد فيه والمرابط له والملازم عليه؟ ولتبسطوا القول في ذلك مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى إنه على كل شيء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية:
الحمد لله رب العالمين، هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم، فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه ولا بأمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ولا بأحد من المرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم ولا بملة من الملل السالفة بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه على أمور يفترونها، يدعون أنها علم الباطن، من جنس ما ذكره السائل ومن غير هذا الجنس، فإنه ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته وتحريف كلام الله تعالى ورسوله عن مواضعه، إذ مقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكل طريق مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها من جنس ما ذكر السائل ومن جنس قولهم: إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم والصيام المفروض كتمان أسرارهم، وحج البيت العتيق زيارة شيوخهم وأن (يدا أبي لهب) هما أبو بكر وعمر وأن (النبأ العظيم والإمام المبين) هو علي بن أبي طالب، ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين، كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم في بئر زمزم وأخذوا مرة الحجر الأسود وبقي عندهم مدة وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى، وصنفوا كتبا كثيرة مما ذكره السائل وغيره وصنف علماء المسلمين كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وبينوا فيها ما هم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد الذي هم به أكفر من اليهود والنصارى ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام. وما ذكره السائل في وصفهم قليل من الكثير الذي يعرفه العلماء في وصفهم..
ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم وهم دائما مع كل عدو للمسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين. ومن أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل وانقهار النصارى، بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار. ومن أعظم أعيادهم إذا استولى -والعياذ بالله تعالى- النصارى على ثغور المسلمين فإن ثغور المسلمين ما زالت بأيدي المسلمين حتى جزيرة قبرص يسر الله فتحها عن قريب وفتحها المسلمون في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فتحها معاوية بن أبي سفيان إلى أثناء المائة الرابعة. فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل، ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره، فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك، ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله تعالى كنور الدين الشهيد وصلاح الدين وأتباعهما وفتحوا السواحل من النصارى وممن كان بها منهم وفتحوا أيضا أرض مصر، فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة واتفقوا هم والنصارى فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية.
ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعاونتهم ومؤازرتهم، فإن منجم هولاكو الذي كان وزيرهم وهو النصير الطوسي كان وزيرا لهم بالألموت وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء. ولهم ألقاب معروفة عند المسلمين تارة يسمون الملاحدة، وتارة يسمون القرامطة، وتارة يسمون الباطنية، وتارة يسمون الإسماعيلية، وتارة يسمون النصيرية، وتارة يسمون الخرمية، وتارة يسمون المحمرة، وهذه الأسماء منها ما يعمهم ومنها ما يخص بعض أصنافهم، كما أن الإسلام والإيمان يعم المسلمين ولبعضهم اسم يخصه إما لنسب وإما لمذهب وإما لبلد وإما لغير ذلك، وشرح مقاصدهم يطول وهم كما قال العلماء فيهم: "ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض". وحقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء والمرسلين، لا بنوح ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى ولا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولا بشيء من كتب الله المنزلة، لا التوراة ولا الإنجيل ولا القرآن. ولا يقرون بأن للعالم خالقا خلقه، ولا بأن له دينا أمر به ولا أن له دارا يجزي الناس فيها على أعمالهم غير هذه الدار، وهم تارة يبنون قولهم على مذاهب الفلاسفة الطبيعيين أو الإلهيين، وتارة يبنونه على قول المجوس الذين يعبدون النور ويضمون إلى ذلك الرفض..
ويحتجون لذلك من كلام النبوات: إما بقول مكذوب ينقلونه كما ينقلون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما خلق الله العقل) والحديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث، ولفظه (إن الله لما خلق العقل فقال له: أقبل فأقبل. فقال له: أدبر فأدبر) فيحرفون لفظه فيقولون (أول ما خلق الله العقل) ليوافقوا قول المتفلسفة أتباع أرسطو في أن أول الصادرات عن واجب الوجود هو العقل، وإما بلفظ ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحرفونه عن مواضعه كما يصنع أصحاب (رسائل إخوان الصفا) ونحوهم فإنهم من أئمتهم. وقد دخل كثير من باطلهم على كثير من المسلمين وراج عليهم حتى صار ذلك في كتب طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين، وإن كانوا لا يوافقونهم على أصل كفرهم، فإن هؤلاء لهم في إظهار دعوتهم الملعونة التي يسمونها "الدعوة الهادية" درجات متعددة ويسمون النهاية "البلاغ الأكبر والناموس الأعظم" ومضمون البلاغ الأكبر جحد الخالق تعالى، والاستهزاء به وبمن يقر به حتى قد يكتب أحدهم اسم الله في أسفل رجله وفيه أيضا جحد شرائعه ودينه وما جاء به الأنبياء، ودعوى أنهم كانوا من جنسهم طالبين للرئاسة فمنهم من أحسن في طلبها ومنهم من أساء في طلبها حتى قتل، ويجعلون محمدا وموسى من القسم الأول ويجعلون المسيح من القسم الثاني.
وفيه من الاستهزاء بالصلاة والزكاة والصوم والحج ومن تحليل نكاح ذوات المحارم وسائر الفواحش ما يطول وصفه. ولهم إشارات ومخاطبات يعرف بها بعضهم بعضا. وهم إذا كانوا في بلاد المسلمين التي يكثر فيها أهل الإيمان فقد يخفون على من لا يعرفهم وأما إذا كثروا فإنه يعرفهم عامة الناس فضلا عن خاصتهم.
وقد اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء لا تجوز مناكحتهم، ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم ولا يتزوج منهم امرأة ولا تباح ذبائحهم. وأما (الجبن المعمول بإنفحتهم) ففيه قولان مشهوران للعلماء كسائر إنفحة الميتة وكإنفحة ذبيحة المجوس، وذبيحة الفرنج الذين يقال عنهم إنهم لا يذكون الذبائح. فمذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين: "أنه يحل هذا الجبن، لأن إنفحة الميتة طاهرة على هذا القول، لأن الإنفحة لا تموت بموت البهيمة وملاقاة الوعاء النجس في الباطن لا ينجس"، ومذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: "أن هذا الجبن نجس لأن الإنفحة عند هؤلاء نجسة، لأن لبن الميتة وإنفحتها عندهم نجس. ومن لا تؤكل ذبيحته فذبيحته كالميتة". وكل من أصحاب القولين يحتج بآثار ينقلها عن الصحابة، فأصحاب القول الأول نقلوا أنهم أكلوا جبن المجوس. وأصحاب القول الثاني نقلوا أنهم أكلوا ما كانوا يظنون أنه من جبن النصارى. فهذه مسألة اجتهاد، للمقلد أن يقلد من يفتي بأحد القولين.
وأما أوانيهم وملابسهم فكأواني المجوس وملابس المجوس على ما عرف من مذاهب الأئمة، والصحيح في ذلك أن أوانيهم لا تستعمل إلا بعد غسلها، فإن ذبائحهم ميتة فلا بد أن يصيب أوانيهم المستعملة ما يطبخونه من ذبائحهم فتنجس بذلك، فأما الآنية التي لا يغلب على الظن وصول النجاسة إليها فتستعمل من غير غسل كآنية اللبن التي لا يضعون فيها طبيخهم أو يغسلونها قبل وضع اللبن فيها، وقد توضأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جرة نصرانية. فما شك في نجاسته لم يحكم بنجاسته بالشك. ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين ولا يصلى على من مات منهم، فإن الله سبحانه وتعالى نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين: كعبد الله ابن أبي ونحوه، وكانوا يتظاهرون بالصلاة والزكاة والصيام والجهاد مع المسلمين، ولا يظهرون مقالة تخالف دين الإسلام، لكن يسرون ذلك فقال الله: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق يظهرون الكفر والإلحاد.
وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم فإنه من الكبائر وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم، فإنهم من أغش الناس للمسلمين ولولاة أمورهم وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة وهم شر من المخامر الذي يكون في العسكر، فإن المخامر قد يكون له غرض: إما مع أمير العسكر وإما مع العدو، وهؤلاء مع الملة ونبيها ودينها وملوكها، وعلمائها وعامتها وخاصتها وهم أحرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين، وعلى إفساد الجند على ولي الأمر وإخراجهم عن طاعته، والواجب على ولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة فلا يتركون في ثغر ولا في غير ثغر، فإن ضررهم في الثغر أشد وأن يستخدم بدلهم من يحتاج إلى استخدامه من الرجال المأمونين على دين الإسلام وعلى النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، بل إذا كان ولي الأمر لا يستخدم من يغشه وإن كان مسلما فكيف بمن يغش المسلمين كلهم ولا يجوز له تأخير هذا الواجب مع القدرة عليه بل أي وقت قدر على الاستبدال بهم وجب عليه ذلك.
وأما إذا استخدموا وعملوا العمل المشروط عليهم فلهم إما المسمى وإما أجرة المثل لأنهم عوقدوا على ذلك. فإن كان العقد صحيحا وجب المسمى وإن كان فاسدا وجبت أجرة المثل وإن لم يكن استخدامهم من جنس الإجارة اللازمة فهي من جنس الجعالة الجائزة، لكن هؤلاء لا يجوز استخدامهم فالعقد عقد فاسد فلا يستحقون إلا قيمة عملهم. فإن لم يكونوا عملوا عملا له قيمة فلا شيء لهم، لكن دماؤهم وأموالهم مباحة.وإذا أظهروا التوبة ففي قبولها منهم نزاع بين العلماء، فمن قبل توبتهم إذا التزموا شريعة الإسلام أقر أموالهم عليهم. ومن لم يقبلها لم تنقل إلى ورثتهم من جنسهم، فإن مالهم يكون فيئا لبيت المال، لكن هؤلاء إذا أخذوا فإنهم يظهرون التوبة، لأن أصل مذهبهم التقية وكتمان أمرهم وفيهم من يعرف وفيهم من قد لا يعرف. فالطريق في ذلك أن يحتاط في أمرهم فلا يتركون مجتمعين ولا يمكنون من حمل السلاح ولا أن يكونوا من المقاتلة ويلزمون شرائع الإسلام: من الصلوات الخمس وقراءة القرآن. ويترك بينهم من يعلمهم دين الإسلام ويحال بينهم وبين معلمهم. فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة لما ظهروا على أهل الردة وجاءوا إليه قال لهم الصديق: "اختاروا إما الحرب المجلية وإما السلم المخزية. قالوا: يا خليفة رسول الله هذه الحرب المجلية قد عرفناها فما السلم المخزية؟ قال: تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم وتشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، ونقسم ما أصبنا من أموالكم وتردون ما أصبتم من أموالنا وتنزع منكم الحلقة والسلاح وتمنعون من ركوب الخيل، وتتركون تتبعون أذناب الإبل حتى يرى الله خليفة رسوله والمؤمنين أمرا بعد ردتكم"..
فوافقه الصحابة في ذلك، إلا في تضمين قتلى المسلمين فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: هؤلاء قتلوا في سبيل الله فأجورهم على الله. يعني هم شهداء فلا دية لهم فاتفقوا على قول عمر في ذلك. وهذا الذي اتفق الصحابة عليه هو مذهب أئمة العلماء والذي تنازعوا فيه تنازع فيه العلماء. فمذهب أكثرهم أن من قتله المرتدون المجتمعون المحاربون لا يضمن، كما اتفقوا عليه آخرا وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين. ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى هو القول الأول. فهذا الذي فعله الصحابة بأولئك المرتدين بعد عودهم إلى الإسلام يفعل بمن أظهر الإسلام والتهمة ظاهرة فيه فيمنع أن يكون من أهل الخيل والسلاح والدرع التي تلبسها المقاتلة ولا يترك في الجند من يكون يهوديا ولا نصرانيا. ويلزمون شرائع الإسلام حتى يظهر ما يفعلونه من خير أو شر ومن كان من أئمة ضلالهم وأظهر التوبة أخرج عنهم وسير إلى بلاد المسلمين التي ليس لهم فيها ظهور. فإما أن يهديه الله تعالى وإما أن يموت على نفاقه من غير مضرة للمسلمين. ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين والصديق وسائر الصحابة بدءوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه. وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين.
وحفظ رأس المال مقدم على الربح. وأيضا فضرر هؤلاء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك، بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر من يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، وضررهم في الدين على كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين من المشركين وأهل الكتاب، ويجب على كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم، بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم ولا يحل لأحد أن يعاونهم على بقائهم في الجند والمستخدمين ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله به ورسوله.
ولا يحل لأحد أن ينهى عن القيام بما أمر الله به ورسوله، فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، وهؤلاء لا يخرجون عن الكفار والمنافقين، والمعاون على كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فإن المقصود بالقصد الأول هو هدايتهم، كما قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [عمران:110]، قال أبو هريرة كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في القيود والسلاسل حتى تدخلوهم الإسلام. فالمقصود بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هداية العباد لمصالح المعاش والمعاد بحسب الإمكان فمن هداه الله سعد في الدنيا والآخرة ومن لم يهتد كف الله ضرره عن غيره.
ومعلوم أن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أفضل الأعمال كما قال صلى الله عليه وسلم «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله تعالى»، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن في الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله»، وقال صلى الله عليه وسلم: «رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه»، ومن مات مرابطا مات مجاهدا وجرى عليه عمله وأجري عليه رزقه من الجنة وأمن الفتنة. والجهاد أفضل من الحج والعمرة كما قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ . يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:19-22]. والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسئل رحمه الله تعالى:
عن (الدرزية والنصيرية): ما حكمهم؟
فأجاب: هؤلاء (الدرزية والنصيرية) كفار باتفاق المسلمين لا يحل أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم؛ بل ولا يقرون بالجزية؛ فإنهم مرتدون عن دين الإسلام ليسوا مسلمين؛ ولا يهود ولا نصارى لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس ولا وجوب صوم رمضان ولا وجوب الحج؛ ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما، وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين. فأما النصيرية فهم أتباع أبي شعيب محمد بن نصير وكان من الغلاة الذين يقولون: (إن عليا إله) وهم ينشدون:
أشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين
ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين
ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع للتوسع: موسوعة الفرق
- الباب الثالث عشر: الباطنية وفرقها، الفصل السابع: النصيرية ـ الجذور التاريخية للنصيرية العلوية، الحسيني عبد الله ـ دار الاعتصام ـ القاهرة 1400هـ / 1980م.
ـ الملل والنحل، أبو الفتح الشهرستاني.
ـ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد ـ دار الكتب العربية ـ القاهرة.
ـ رسائل ابن تيمية، رسالة في الرد على النصيرية.
ـ الباكورة السليمانية في كشف أسرار الديانة النصيرية، سليمان أفندي الأذني. بيروت، 1864م.
ـ تاريخ العلويين، محمد أمين غالب الطويل ـ طبع في اللاذقية عاصمة دولة العلويين عام 1924م.
ـ خطط الشام، محمد كرد علي ـ ط دمشق 1925م ـ ج 3/265 ـ 268 ج 6/107 ـ 109.
ـ دائرة المعارف الإسلامية، مادة نصيري.
ـ إسلام بلا مذاهب، د. مصطفى الشكعة ـ ط دار القلم ـ القاهرة ـ 1961م.
ـ تاريخ العقيدة النصيرية، المستشرق رينيه دوسو ـ نشرته مكتبة أميل ليون وبداخله كتاب المجموعة بنصه العربي.
ـ الأعلام للزركلي، 2/254 بيروت ـ 1956م.
ـ تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، 3/357 ـ ط دار المعارف ـ 1962م.
ـ الحركات الباطنية في العالم الإسلامي، د. أحمد محمد الخطيب، مكتب الأقصى، عمان.
ـ دراسات في الفرق، د. صابر طعيمة ـ مكتبة المعارف ـ الرياض 1401هـ / 1981م.
- L. Maignon Minora, Beyrouth 1963.