طرق الصوفية والإصلاح
انقلب كثير من الطرق المنتمية إلى الصوفية يتنفَّس بريح سامة، ويلتوي إلى حيث يستدرج طوائف من الناس، ويلقي بهم في عامية وخسران مبين. والمسألة خطرة، وتبعة السكوت عنها غير هيِّنة، ومن مقتضى السداد في النظر أن نناقش أنفسنا الحساب في كلِّ شيء، ولا نغادر صغيرة ولا كبيرة من أحوالنا الاجتماعية إلَّا وقفنا لسبر غورها، وتمييز طيِّبها من خبيثها وقوف البصير المخلص.
- التصنيفات: الملل والنحل والفرق والمذاهب - الفرق والجماعات الإسلامية -
انقلب كثير من الطرق المنتمية إلى الصوفية يتنفَّس بريح سامة، ويلتوي إلى حيث يستدرج طوائف من الناس، ويلقي بهم في عامية وخسران مبين. والمسألة خطرة، وتبعة السكوت عنها غير هيِّنة، ومن مقتضى السداد في النظر أن نناقش أنفسنا الحساب في كلِّ شيء، ولا نغادر صغيرة ولا كبيرة من أحوالنا الاجتماعية إلَّا وقفنا لسبر غورها، وتمييز طيِّبها من خبيثها وقوف البصير المخلص؛ لعلنا نشتفي من العلل التي قعدت بنا في مضجع الخمول، ونسلك الصراط السوي الذي رسمته الحكمة الإلهية؛ لتسير فيه الأمم الرشيدة، فنكون من الفائزين.
كان السلف من الصحابة والتابعين ومن تحرَّى سيرتهم يأخذون أنفسهم بآداب الشريعة أخذَ العارف بحكمتها، المطبوع على النهوض بتعاليمها، ثم يُقبلون على الناس يرشدونهم إلى أن يزنوا أعمالهم بميزان الشرع، ويسوسوا أنفسهم بزمام هدايته؛ حتى تستنير بصائرهم، وتكون الأخلاق العالية منه؛ مثل: الإخلاص، والغيرة على الحقِّ، وخشية الله تعالى ملكاتٍ راسخةً في فطرهم، ومحورًا تدور عليه سائر تصرفاتهم ومعاملاتهم، ولا يُعرِّجون في خلال إرشادهم إلا إلى آية، أو حديث، أو حكمة صريحة، أو قصة نستخلص منها عبرة.
أحرز أولئك الرجال المنتصبون لهداية الناس بحقٍّ مقامًا محمودًا، وحياة طيبة، وجاهًا واسعًا؛ من حيث لم يجعلوا هذه الكرامة مناط سهامهم، أو الركن الأشدَّ من مقاصدهم، وإنما هي قسط من العاقبة التي وعد الله عباده المخلصين. وما لبثوا أن غبطهم أناس يحرصون على أن تكون لهم الكلمة النافذة، والعيش الخصيب، ولو من غير طريقهما المشروع، فظهروا في مظهر أولئك الهداة، ولكن كبر عليهم أن يُعنوا بشرطه، وينهضوا بأعبائه، وهو الاستقامة على الطريقة المثلى، ففتحوا في سور الشريعة ثُلمة، وابتدعوا مقالات؛ ليختموا بها على أفواه الناس، فلا تضطرب قلوبهم بإنكارٍ، متى شاهدوهم يستخفُّون بواجب، أو يقتحمون حرامًا؛ كقولهم: إن الولي إذا انتهى إلى منزلة عُليا في رضوان الله، سقطت عنه التكاليف جملة. وتوكَّأ على هذه المقالة الوقحة كثير ممن يدَّعي الولاية، ويرتكب الفواحش على مرأى ومسمع من جماعات يلثمون أقدامه، وينشرون بين يديه أموالهم؛ ليقربهم إلى الله زلفى.
وقادت الأهواء وحبُّ الرئاسة طائفة أخرى، لم ينفذوا إلى روح الشريعة، ويذوقوا طعمها، فترامى بهم الجهل الأكمه إلى أن استعاروا من اللهو، وتقاليد أهل البطالة، ما حسبوه عملًا يتناوله اسم القُربة، وحشروه في جملة ما استحبَّه الإسلام، فكان القذى في مقلته النجلاء. ومن هذا القبيل: الرقص، والتصدية، واللهو بآلات الطرب في المساجد.
وبصر بما لهذا المظهر من السلطان على القلوب فريق من الملاحدة، فما لبثوا أن اتخذوه ذريعة إلى تغيير معالم الشريعة، واستدراج الناس إلى هاوية الضلالة، ومن صنيع هؤلاء نشأت مقالة الحلول والاتحاد، ودعوى أن الصوفي يتلقَّى أحكامًا عن منزِّل الشريعة من غير واسطة، وانسلُّوا بهذه الدعوى عن كثير من حقائق الإسلام، وألصقوا به من صور الباطل ما لا يليق السكوت عنه، بل يجب محو أثره، وإن كانت اليد التي خطَّته خرجت وتدلَّت من كُمِّ ناسك متعبِّد؛ فإنَّ ثوب النُّسك والعبادة مما يمكن استعارته، والمواظبة على الاستتار به أعوامًا وأحقابًا.
وقف علماء الدِّين تجاه هذه الفرق، ومن بنى على أساسهم الخرِب، في طائفتين:
(طائفة) ثبتت أمامهم، ووضعت أقوالهم وأعمالهم في محكِّ النظر، ووزنتها بميزان الحكمة، ثم ضربت بهذه الضلالات والسخافات في وجه مفتريها ومبتدعيها، لا تخاف لومة لائم، ولا بطشة صائد؛ كما صنع ابن الجوزي، وأبو بكر بن العربي، وابن تيمية، وأبو إسحاق الشاطبي، وغيرهم ممن طعنوا في أصحاب هذه المقالات الزائفة، والدعاوى الباطلة.
(وطائفة) أخذها الجبن عند لقائهم، واسترهبوها بمثل قولهم: "إن الإنكار على أهل الطريق يفضي إلى الموت على سوء الخاتمة"، فكانت تُصغي إلى مقالاتهم بأُذن هادئة، وتنظر إلى أعمالهم بعين راضية، حتى إذا عرضتَ عليهم شيئًا من آثارهم، وأريتَها كيف يُكدِّر مورد الشريعة، أو ينقض بعض أركانها من أساسه، طفقت تخرج الأقوال عن موضعها اللغوي والعرفي، وتحملها على معان ليست من منطوقها ولا مفهومها، ولا مما تفتح له الاستعارة أو الكناية صدرها، وأخذت تحاول بما يشبه تخبُّط العشواء في ليل، أو اعتساف المدلج في غير سبيل، أن تدخل بعض الأعمال المنكرة في قالب قاعدة أو قياس شرعي، كما فعل النفر الذين تصدوا للاعتذار عن المقالات الصريحة في نفي حكمة الباري، أو حلوله في مخلوقاته، أو دعوى رؤيته بالعين الباصرة في حال اليقظة، أو نهي المريد عن زيارة غير أستاذه، أو ترك صلاة الجماعة والجُمعات أيام الخلوة لرياضة النفس ومجاهدتها.
ولا ننسى أن كثيرًا من هذه المقالات المخالفة للمعروف من الشريعة وسيرة السلف الصالح، قد يعزوها إلى أولي الصلاح بعض أشياعهم جهالة، أو بعض أعدائهم؛ ليضعوا من شأنهم، ويصدوا عن سبيل هديهم، وربما صدرت عن سليم النية على وجه الخطأ في النظر. وعلى أيِّ حال، فشأننا معها أن نأخذ منها حذرنا، ولا نلاقيها إلا بإنكار، ثم نكل أمر من اصطنعها إلى الجزاء العادل، فإلى الله إيابه، وعليه حسابه.
ومما انجر في أذيال هذه الطرق من الخطر على اتحاد الأمة: أن المتشبثين بطريقة قد يتغالون في التعصب لها إلى أن يقصروا عاطفة محبتهم ومساعدتهم على من تقلَّدوا عهدها، ويتجافون عمن تمسَّك بعهد طريقة أخرى، ويقبضون أيديهم عن مرافقته، ومن العامة -كما رأيناه رأي الباصرة- من يباغض الرجل، ويسلكه في حساب أعدائه، ولا يجد لهذه العداوة من باعث سوى أنَّه لم يكن من شيعته في الطريق، ولا ممن يحرِّك لسانه بالأذكار الممتازة بها؛ كأنَّ رؤساءهم لا يذكِّرونهم بمثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. وقوله عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا» (متفق عليه). ومن أولئك الرؤساء من يحبِّذ ذلك التعصُّب الضالَّ؛ إذ يرى أنه ليس له سلطان إلا على من نفضوا قلوبهم من كلِّ احترام وتعاطف إلَّا عليه، أو على من انخرطوا في الطريق التي قام على رأسها.
وأكبر من هذا جريمة: أنَّ في رؤساء الطريق من يعرف الباطل باطلًا، ولا يبالي أن يطاطئ له رأسه، ويؤازره على محاربة الحقِّ، حتى يزيده أهل الباطل بسطة في الجاه، ولا يعترضوه في سبيل يتصيَّد منه بعض مآرب شخصية. وأهون ما تشهده من خضوع هؤلاء: أن يبرز أتباعهم في الاحتفالات العامة، كلٌّ بالأوضاع التي تلذُّها أذواقهم، ويمتازون بها عن أصحاب الطرق الأخرى، ثم لا يجرح أفئدتهم ما يسومهم به الناظرون من الازدراء والتهكُّم. ومن أكبر البلايا أن يسبق إلى بعض الظنون أنها أوضاع شرعية، فلا يكفي ما تجرُّه إلى واضعيها، أو الذين أصبحوا مظهرًا لها من المعائب والاحتقار، حتى تمسَّ جانب الشريعة الغرَّاء، وتلصق بالإسلام وصمة تجعل بينه وبين الجاهلين به حجابًا كثيفًا. ولو درينا أن تعرضهم للحطِّ من كرامتهم كان تحت الإكراه الذي يقارنه الوعيد، ويأتي من ورائه العقاب الصارم، لقلنا لهم في وصف الدواء الناجع: اخلعوا أطواق هذه الطرق من أعناقكم، حتى لا تكون سبب إهانتكم، بدل أن تكون من وسائل سعادتكم، ولكنه الهوى، أو ضعف الجأش وارتعاده أمام كلِّ رغبة يلوح إليها القوي الغالب، ولو بأداة عرض أو تحضيض.
كان لمشايخ الطرق قبل هذا العصر فوائد لا يصحُّ إنكارها؛ كاتخاذ زوايا لتعليم القرآن، وتلقين جانب من مبادئ الدين والأحكام الفقهية، والإرشاد إلى بعض الأخلاق الفاضلة، والمحافظة على العبادات، وترك المنكرات، ثم قبضهم لأموال بعض الأغنياء وإنفاقها على فقرائهم. والقيام على هذه المشروعات والتعليم -ولا سيما في العصور المظلمة- مزية لا يستهان بها. وربما اكتفينا منهم بتأدية هذه الواجبات، وصرفنا عنان السؤال عن عدم غرسهم في قلوب أتباعهم خلق الإقدام على مجاهرة الرؤساء بالنصيحة، ومطالبتهم بالاستقامة على السبيل الذي يكفل لهم الأمن من كارثة الاستعباد. نكف أقلامنا عن أن تحمل طرفًا من هذه المسؤولية على كواهلهم، ونقنع منهم بذلك المقدار من الخير، حيث لم يكونوا سلاح الباطل، ولا أعوانًا للسلطان الجائر، ولكنا لا نقنع من بعض رؤساء الطرق في هذا العصر بذلك المقدار من تعليم وإرشاد على فرض أن ينهضوا له كما نهض سلفهم الصالح، ما دامت قلوبهم وأقلامهم بين إصبعين من أصابع حليف الباطل، يملي عليها ما يشاء، ويقلِّبها كيف يريد.
لا نرمي في هذا المقال إلى ما يقوله بعضهم من أن هذه الزوايا أصبحت عقبات قائمة في سبيل الإصلاح، لابد من العمل على إماطتها، فإني أعلم أن لمشايخ الطرق كلمة نافذة لدى العامة، ومكانة يمكنهم أن يتوصَّلوا بها إلى إصلاح عظيم، ومساعدة الأمة على اتحادها المتين، فلا نريد لهم حينئذ إلا أن ينقُّوا ساحتهم من مظاهر لا تنطبق على الشريعة، ثم يصرفوا سلطانهم على القلوب إلى إسعاد الوطن، والذبِّ عن حقوق الأفراد والجماعات.
أما تنقية زواياهم ومظاهرهم لما هو خارج عن رسوم الشريعة، فبوقوفهم في العمل على ما ينطق به الكتاب والسنة الصحيحة، أو ما يفهمه الراسخون في العلم منهما، ثم لا يحيدون عن القسطاس المستقيم، وهو سيرة السلف من الصحابة والتابعين، فإذا لم ينقل عن جماعة من السلف-مثلًا- أنهم احتفلوا في المساجد بالنفخ في المزامير، أو ساروا في الشوارع يحملون الرايات لغير جهاد، أو تحدثوا عن حضرة الخالق بالعبارات الموضوعة لعشق الحسان، ومعاقرة الخمور، علمنا أن هذا الصنيع من اللهو الباطل، الذي يلفت وجه صاحبه عن سبيل الله. وإذا لم يرد في حق أحد من الصحابة أو التابعين أنه كان يسمِّي نفسه أو يُسمِّيه غيره باسم يدلُّ على تصرفه في الكون تصرفًا غيبيًّا، كان الأحرى بالرئيس في الطريق أن لا يصف نفسه، ولا يفسح المجال لبعض مريديه حتى يصفوه بما لم يوصف به صحابي قضى حياته في عبادة خالصة، وسياسة عادلة في سبيل الله.
وأما احتفاظهم على ما رُزقوا من الكلمة النافذة، وتصميمهم على أن لا يبذلوها حيث يأمرهم ذو سلطة باغية، فمهما يربطه على قلوبهم، ويجعله كالخلق الراسخ في نفوسهم أن يتفقهوا في قوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]. ثم يصرفوا قلوبهم عن المنافع التي يمكن لصاحب تلك السلطة أن يحول بينهم وبينها، ويدوسوها بتعاليمهم، ويضربوا بها وراء ظهورهم، وعلى فرض أن يتجاوز المستبدُّ في حكومته إلى أن يسوم القابض يده عن العبث بالحق سوء العذاب، فيخلق بمن وقف موقف الزعامة والإرشاد، أن يكون مثال أكمل المزايا، وهي احتمال الأذى، وتجرُّع غُصص البلاء المرِّ في سبيلَيِ العفاف والمروءة، تلك الخصلة التي يقوم عليها التصوف الحرُّ، وبها يعلم الله الذين صدقوا، ويعلم الكاذبين.
___________________
اختيار موقع الدرر السنية www.dorar.net
المصدر: كتاب (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)، دار النوادر بسوريا، ط1، 1431هـ، (5/2423).
محمد الخضر حسين