بناء الدولة في ثلاثين شهرًا!

صلاح بن فتحي هلل

يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدثُ الأخبار بالله، تقرأونه لم يُشَبْ، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب، فقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلاً، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، ولا والله ما رأينا منهم رجلاً قط يسألكم عن الذي أُنزل عليكم...

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -


روى البخاري(2685) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: "يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدثُ الأخبار بالله، تقرأونه لم يُشَبْ، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب، فقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلاً، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، ولا والله ما رأينا منهم رجلاً قط يسألكم عن الذي أُنزل عليكم".

وخلاصة ذلك النهي عن تجاهل النور الذي في أيدينا، والذهاب للآخرين طمعًا في الهداية، ورجاء إيجاد الحلول عندهم، بل علينا الاعتزاز بإسلامنا، ونوقن أن فيه الحل لكل معضلاتنا.

ولا نكون كالذين قال الله فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5].


وتعجب الشاعر من مثلهم فقال:
 

ومن العجائب والعجائب جمة *** قرب الحبيب وما إليه وصول

كالعيس في البيداء يقتلها الظما ***والماء فوق ظهورها محمول


فالماء معها تحمله، لكنها تستسلم للموت عطشا، لجهلها بقيمة ما تحمل بالنسبة لحياتها.

وهذه الإشكالية فهي خلاصة ما يدور حولنا الآن، حين يتجاهل الناس ما يحملونه من نور، ثم يستجدون الهداية والحلول من الآخرين.

فعلينا أن نعود لديننا، وتاريخنا، وأمتنا، وتجاربها الفذة التي غيرت وجه التاريخ في زمن قصير جدًا، تلك التجارب التي ننفرد بها عن غيرنا، فهي ملكية حصرية لأمتنا، لا توجد في غيرها من الأمم، فلنتفرغ لدراستها والنسج على منوالها لنصل إلى ما وصل إليه أئمتنا العظام.

وحسبنا هنا الإشارة لمنارة إسلامية فريدة من بين هذه المنارات، وهي خلافة عمر بن عبد العزيز، طيب الله ثراه، فيمكن لنا اعتبارها خطة قصيرة المدى، وسريعة المفعول، لبناء دولة عظيمة عملاقة، وإحداث قفزة نوعية، في أيام معدودات؛ لأن هذا ما جرى فعلاً في خلافة عمر بن عبد العزيز، التي لم تزد على سنتين وأشهر.

يقول الإمام الذهبي: "وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأيامًا" (سير أعلام النبلاء[5/145]).

فهذه الخلافة العظيمة لم تتجاوز ثلاثين شهرًا، لكنها في هذه الأشهر القليلة غيرت وجه الدنيا، وحفرت لنفسها مكانًا بين الخلافات الراشدة، مما يجعلها فرصة ذهبية لنا لدراسة خطتها والاقتداء بها.

وقد ذكر الإمام الذهبي بعض معالم هذه الدولة ممثلة في شخص عمر بن عبد العزيز، فقال: "قد كان هذا الرجل حسن الخَلق والخُلق، كامل العقل، حسن السمت، جيد السياسة، حريصًا على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، ظاهر الذكاء والفهم، أواهًا، منيبًا، قانتًا لله، حنيفًا، زاهدًا مع الخلافة، ناطقًا بالحق مع قلة المعين، وكثرة الأمراء الظلمة الذين ملّوه وكرهوا محاققته لهم ونقصه أعطياتهم، وأخذه كثيرًا مما في أيديهم مما أخذوه بغير حق، فما زالوا به حتى سقوه السم، فحصلت له الشهادة والسعادة، وعُدَّ عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين، والعلماء العاملين" (السير[5/120]).

وهذه المعالم التي ذكرها الذهبي هي بعض ما احتوت عليه تلك الخلافة الراشدة، وقد أشار لأمور في غاية الأهمية، منها: كمال أخلاق الخليفة وعقله، وجودة سياسته، وحرصه على العدل، ومحاربته للفاسدين من المسئولين، واسترداده ما نهبوه من بين أيديهم، بما يعنيه ذلك من انحياز الحاكم للأمة التي يحكمها، وحرصه على مصلحتها، وما يستلزمه ذلك من تحقيق الحريات العامة، بخلاف الحاكم المنحاز لسلطته التي يمثلها على حساب شعبه، فلا مجال حينئذ للكلام عن العدل والحريات.

فنحن بحاجة لدراسة هذه الخلافة الراشدة، كيف وصلت في ثلاثين شهرا إلى تحقيق العدل والعدالة الاجتماعية والرخاء؟ حتى نودى في البلاد على المحتاجين فلم يتقدم أحد، فلم يعد ثمة فقر ولا ظلم ولا قهر، وهذا ما نستجدى خططه الآن عند من لا يعرف ولا يملك، لكننا نعرف ونملك، وما علينا سوى أن نرجع ونقرأ ونتعلم ونطبق.

لسنا أمة منزوعة الجذور، ولا اليوم نشأت، فعلينا أن نتصالح مع تاريخنا، وأن نجعله نبراسًا لواقعنا وحياتنا الآن، فعدونا يريد عزلنا عن تاريخنا لمعرفته بقيمته وقيمة ما كنا فيه، فكفي غربة وتيهًا، نعم ولنأخذ من تاريخنا ما يصلح لواقعنا، فليس كل ما فيه يصلح للتطبيق الآن، غير أن كل ما فيه يعطينا أفضل الدروس، فلنكن أفضل المتعلمين.


 

المصدر: المصريون