في سوق الإيمان.. من يشتري أياما ربانية؟!

تلقى جوارح الصائم فرحة علوية تغمرها ساعة فطرها، بعد أن راقبت الله في يومها واتقت وآمنت وحفظت نفسها من غفلة وسقطة، فتعود ساعة فطرها ظمأى لقبول أعمالها التي قدمت، مسارعة - تبعا للسنة - إلى أن تلهج بقول «ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله».

  • التصنيفات: مناسبات دورية - ملفات شهر رمضان -


إن اللحظات التي يستشعر فيها المرء حلاوة الإيمان ولذة العبودية لهي أغلى لحظات الحياة، تلك التي يعيش فيها المرء في جنة من الحنين إلى حياة شفافة ربانية، ويحيا فيها عبر تلك اللحظات سابحا في معين صاف لم يتكدر بكدر الحياة ووديانها المتشعبة.
وللنفس في حينها لسبحات حيث تقترب فيها من ربها المتعال، وتأتلف فيها مع الإيمان السرمدي الرقراق المتدفق من المشاعر الفياضة، حيث الإخلاص العميم والبذل المطلق، حيث لا شيء يراد إلا مرضات الرب الرحمن.
ولكم يعان المرء من فقدان تلك اللحظات الإيمانية، إذ هو يتأوه من ألم منغصات الدنيا التي لا تفتر عنه ليل نهار، ويشتاق إلى تلك الساعات النادرة الثمينة.

والرحمن سبحانه علم معاناة المؤمنين ومشقة مكابدة الأيام فأوصانا بترك الدنيا وغفلتها والسعي جادين باحثين عن تلك اللحظات الغاليات حيث صحبة الصالحين ولقاء الذاكرين، قال سبحانه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]، وقال سبحانه:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:9] ثم أكرمنا ربنا وأفاض علينا من رحماته ببيئة إيمانية وجو رباني رحيب حيث تلك الأيام التي يعيشها المسلمون في صوم النهار وقيام الليل والذكر والتوبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فأي رحمة تلك رحمته سبحانه التي وسعت السموات والأرض؟
يدعونا ليغفر لنا من ذنوبنا، ويهيئ لنا ما يدفعنا إلى تطهير أنفسنا وتجديد توبتنا وإعلان أوبتنا، فيالك من رب رحيم ودود كريم سبحانك.

وتدبر هنا معي تلك اللمحات التي تطوف حول ذاك المعنى:

أولها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فالصوم إذن هو التعبد بترك الشهوات لا أن يتركها على العادة أو من أجل البدن وقد وجه الله الخطاب للمؤمنين في الآية لأن صيام رمضان من مقتضيات الإيمان ولأن صيام رمضان يكمل به الإيمان ولأن ترك صيام رمضان ينقص به الإيمان وإنما ذكر الله تعالى أنه فرض على من قبلنا ولم يذكر مثل ذلك في الصلاة لأن الصيام فيه مشقة وفيه التعب وفيه ترك المألوف فذكر الله إنه فرضه على من قبلنا تسلية لنا وتكريما لأمتنا إذ أنه ما من خير في دينهم إلا هو في ديننا.

ثانيا: تأكيده على التقوى في جميع آيات الصيام لأن الصوم جنة يقي من الذنوب ويقي من النار وهذه حكمة إيجاب الصوم، ويدل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه].

ثالثا: أن التيسير في الأحكام الشرعية يتجلى ظهوره في أحكام الصوم فقد قال سبحانه {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] والمرضى ثلاثة أقسام: قسم مريض لا يرجى برؤه بل هو مستمر فهذا لا صيام عليه وعليه عن كل يوم مسكين، وقسم مريض مرضا يضره الصوم فهذا يمنع من الصوم ويحرم عليه، وقسم مريض يشق معه الصوم لكن لا ضرر عليه فيه، فالأفضل له أن يفطر ولا يصوم ثم يقضي بعد ذهاب المرض، فأي يسر ذلك وأي رحمة؟!

رابعا: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» وفي رواية لمسلم: «كل عمل ابن أدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي أنا أجزي به يد ع شهوته وطعامه من أجلي»، والمعنى هنا أن الصيام يختصه الله سبحانه من بين سائر الأعمال فإنه سر بين الإنسان وربه فلذلك كان أعظم إخلاصا وقال بعض أهل العلم أنه إذا كان يوم القيامة وكان على الإنسان مظالم للعباد فإنه يؤخذ من حسناته إلا الصيام فإنه لا يؤخذ منه شيء، كذلك فإن أجر الصائم بلا حساب رحمة من الله لما فرضه على من يحب من عبادة.

وللصائمين حياة تحتوي كل جميل، وتذوب في ريحانة الإيمان مع كل ساعة تمر بهم، فإذا الوجود من حولهم نور وحبور وإذا هم يسبحون في فيض النورانية الساجي، يستقون من نبع الحب والبذل والعطاء والرضا برب رحيم، جواد كريم، غني حي قيوم.

إنها حياة تمتزج فيها العبادة بالحب، فتصير في أسمى معانيها، إذ أسمى العبودية هو تمام الحب مع تمام الذل والانقياد.

تلك الحياة المخلصة التي يحياها الصائمون يستشعرون فيها بلذة العبودية لا مجرد تنفيذ الأمر، فهو مذاق سكري م?تلذ في حلق الصائم يتذوقه بجنانه لا بلسانه، ويستسيغه بفؤاده ويفيض سعادة على جوارحه، فترى الجوارح كلها في مؤتمر إيماني مؤتلف، فلا العقل يعصى ولا اللسان يلغو ولا العين تخون ولا الأذن تسترق ولا اليد تجترئ ولا القدم تخطو ولا النفس تصبو إلى ما نهاها ربها عنه.

وتغمرنا في أيام الصوم ثلاثة معان إيمانية:

أولها: أن الصيام شرع لنا فيه من الأعمال الصالحة ما يكون سببا في تكفير ذنوبنا ورفعة درجاتنا.
وثانيها: أن الله تعالى فيه يوفق إلى العمل الصالح ولولا معونة الله وتوفيقه لما تيسرت لنا الصالحات.
وثالثها: أن الله أعد به - فضلا منه - الأجر المضاعف على الأعمال الذي يصل بالناس إلى يوم منتهاه العتق من العذاب.

وفي عبودية الصيام صار العابدون قسمين: أولهما من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة فهذا قد تاجر مع الله والله لا يضيع أجر العاملين ففي الحديث: «إنك لن تدع شيئا اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خيرا منه» [مجمع الزوائد:10/299]، وأما الطبقة الثانية: فهي طبقة من يصوم في الدنيا عما سوى مرضات الله فيحفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى ويذكر الموت والبلى ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه فتدبر في ذلك المعنى واستحضر الحديث الرباني له صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «إن للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه» [متفق عليه]، وعن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صام رمضان وعرف حدوده وتحفظ مما كان ينبغي أن يتحفظ منه، كفر ما قبله» [رواه أحمد والبيهقي].

ولكأنما تلقى جوارح الصائم فرحة علوية تغمرها ساعة فطرها، بعد أن راقبت الله في يومها واتقت وآمنت وحفظت نفسها من غفلة وسقطة، فتعود ساعة فطرها ظمأى لقبول أعمالها التي قدمت، مسارعة - تبعا للسنة - إلى أن تلهج بقول «ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله».


خالد روشة

 

المصدر: موقع رمضانيات